وثائقيات تونسية لعلاج النسيان السياسي وبناء الذاكرة الجماعية
ريح خفيفة تحرِّك الرمال في شوارع مدينة دوز. لا يزال الجو دافئًا في ساعة متأخرة من بعد الظهر على أطراف الصحراء، في بوابة الصحراء مدينة دوز الواقعة في جنوب غرب تونس. تحت خيمة تبدأ مسابقة الأفلام القصيرة، ومن ثم سيتم تقديم العروض المسائية في الهواء الطلق.
يتناقش مع المخرجين السينمائيين الحاضرين بعض الأشخاص من أهالي هذه المدينة البالغ عدد سكَّانها ثلاثين ألف نسمة. يتذكَّر رئيس نادي الفيلم المحلي أوَّل عرض بروجكتر لفيلم بقياس 33 مليمترًا في مدينته، ويقول لا بدّ أن يكون ذلك قد حدث في فترة مبكِّرة من الثمانينيات: "لم يشاهد ذلك الفيلم حينذاك أي شخص ممن كانوا حاضرين، فقد كان الجميع يريدون معرفة كيف يعمل هذا الجهاز، الذي يعرض الصور على الحائط"، مثلما يقول بابتسامة مفعمة بالحنين. ومنذ ذلك الحين لم يتغيَّر الكثير في هذه المدينة الصحراوية، فنادرًا ما يحدث أي شيء هنا باستثناء مهرجان الصحراء السنوي للتراث الشعبي.
منذ ثلاثة أعوام يقام هنا مهرجان للأفلام الوثائقية مع مسابقة للأفلام التونسية، يُعرف باسم "الأيَّام الوثائقية بدوز". في عام 2011 أسَّس مخرج الأفلام الوثائقية التونسي هشام بن عمار هذا المهرجان، الذي يُقام الآن في دورته الرابعة. وفي هذا المهرجان يتم عروض آخر إنتاجات مشهد الأفلام الوثائقية التونسية الذي لا يزال حديث النشأة. ويشارك في هذه الدورة العديد من أفلام الطلاب التي تختلف في جودتها ونوعيتها. ولكن ينبغي هنا في البداية أن يحصل الجميع على فرصة لعرض أعمالهم.
الفيلم الوثائقي كشكل من أشكال الفنّ العلاجي
تدور الكثير من موضوعات الأفلام حول الاضطرابات السياسية التي شهدتها تونس في الأعوام الأخيرة. وفي هذا الصدد يظهر المخرجون الشباب بوضوح حياديين أكثر مما كانت عليه الحال بعد فترة وجيزة من قيام الثورة عام 2011، حيث يشكِّكون الآن في الحقائق ويسألون كيف يريد التونسيون أن يعيشوا في المستقبل - وماذا يمكنهم أن يتعلموا من الماضي. "الفيلم الوثائقي هو شكل من اشكال الفنّ العلاجي"، بحسب قول المخرج هشام بن عمار، الذي يعتقد أنَّ الفيلم الوثائقي يمثِّل فرصة من أجل معالجة اضطرابات الماضي القريب.
يُسلط كلّ من فيلم هشام بن عمار "الذاكرة السوداء"، الذي تم عرضه خارج نطاق المسابقة، وكذلك فيلم المخرج غسان عمامي "براكة الساحل"، الضوء على موضوع التعذيب في عهد الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، حتى وإن كانت معالجة هذه الجرائم على المستوى السياسي ما تزال بطيئة. "سبع أرواح" فيلم من إخراج الصحفيين الشابين أمين بوفايد وليليا بليز الفرنسيين من أصل تونسي - يعيد فيلمهما هذا النظر في تصنيف صورة الدكتاتور السابق زين العابدين بن علي. وكذلك يلقي الفيلم الوثائقي "سبعة ونصف" لنجيب بلقاضي نظرة على الحملة الانتخابية في عام 2011.
تسعى هذه الأفلام إلى محاربة النسيان وتذكير المواطنين التونسيين بما قاله السياسيون قبل ثلاثة أعوام. وحول ذلك يقول نجيب بلقاضي: "ذاكرة التونسيين ليست طويلة". ويضيف: "لهذا السبب يجب علينا في البداية بناء الذاكرة الجماعية".
الجهادي الضائع
يتناول الفيلم الحاصل على جائزة أفضل فيلم وثائقي قصير موضوعًا سياسيًا بطريقة شخصية وشعرية للغاية: يروي فيلم "محكوم بالأمل" للمخرج التونسي يوسف بن عمار قصة زوجين، تحوَّل أصغر أبنائهما إلى متطرِّف بعد الرابع عشر من يناير/ كانون الثاني 2011، ومن ثم اختفى في يوم ما. يُعتقد أنَّ هذا التلميذ الصغير قد سافر إلى سوريا للقتال كجهادي هناك. تمضي على اختفائه عدة شهور، وعلى الرغم من ذلك تواصل أمُّه غسيل ملابسه بانتظام، وتضعها من جديد في الخزانة وتتذكَّر بيأس تلك الفترة، عندما كان لا يزال يرتدي سراويل الجينز وتيشرتات: "مثل جميع الآخرين من أبناء صفه الدراسي أيضًا".
وفي فيلمه القصير الثاني يسلط المخرج الشاب يوسف بن عمار الضوء على حياة والدي هذا الجهادي الضائع، اللذين أصبحا صامتين بسبب ألمهما، ولم يعودا يتبادلان الحديث مع بعضهما إلا نادرا، وصارا يتمسَّكان بالأمل في عودة ابنهما في يوم ما إليهما وهو على قيد الحياة.
في فيلمه "عنّا… وجه ربي" يروي المخرج التونسي بهرام العلوي قصة حياته الخاصة. نشأ هذا المخرج البالغ من العمر خمسة وثلاثين عامًا في فقر مدقع داخل قرية تقع في شمال شرق تونس. عندما حصلت أخيرًا أسرته على جهاز تلفزيون، لم يكن يستطيع مشاهدة الرسوم المتحرِّكة، بل خطابات الرئيس فقط. يرى ثورة الخبز في مطلع عام 1984 في التلفاز باللونين الأسود والأبيض، ويشاهد كيف تمكَّن الرئيس التونسي في تلك الأيَّام الحبيب بورقيبة من استعادة الدفة مرة أخرى.
رحلة إلى الماضي
يسافر إلى تونس العاصمة من أجل الدراسة هناك، حيث يكتشف عالمًا جديدًا بكلِّ جوانبه المظلمة، يدرس السينما، ثم يصبح ممثِّلاً مسرحيًا. ومن ثم كان التحوُّل الثاني: الثورة التونسية والتغيير السياسي في عام 2011. لم يتمكَّن خليفة الحبيب بورقيبة، أي الرئيس زين العابدين بن علي، من تهدئة المواطنين الثائرين، وهنا قطعت الثورة رحلة المخرج إلى ماضيه الخاص. يجد المخرج نفسه أمام حاضر أدخل عالمه في حالة من الفوضى وفتح له مجالات لم تكن متوقعة. وأخيرًا منحت لجنة التحكيم فيلم "عنّا… وجه ربي" -الذي يمثِّل الجزء الأوَّل من سلسة أفلام ثلاثية- جائزة "الجمل الذهبي".
أعرب المخرج هشام بن عمار عن بالغ سروره بالإقبال الكبير من الزوَّار في نهاية المهرجان، على الرغم أيضًا من مخاوفه وقلقه على تمويل المهرجان. فهو لا يزال مضطرًا مثل ذي قبل إلى الإنفاق من ماله الخاص على جزء من هذا المهرجان. ومع ذلك يعرف هشام بن عمار أنَّ "الأفلام الوثائقية لسوء الحظّ لا تجتذب المتبرعين في تونس".
وكذلك لا تقدِّم الجهات الحكومية أي دعم لمشروعه هذا. ويقول هشام بن عمار لا توجد أيضًا أي نية لفرض رسوم دخول على زوَّار المهرجان، ففي آخر المطاف يجب أن تتوفَّر في المستقبل أيضًا فرصة مشاهدة الأفلام لكلِّ فرد - بصرف النظر تمامًا عن حجم محفظة نقوده.
سارة ميرش
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: قنطرة 2014