نهاية السلطة الأبوية في الجزائر
مع روايته الأولى وتصريحاته الناقدة للإسلام حول أعمال التحرُّش والشغب التي وقعت في ليلة رأس سنة 2016 في مدينة كولونيا الألمانية، ارتقى الكاتب والصحفي الجزائري كمال داود، المولود في عام 1970، بين عشيّة وضحاها إلى مثقَّف نجم مشهور عالميًا.
لكن قبل فترة طويلة من ظهور روايته الأولى في عام 2013، كان قد صنع لنفسه اسمًا من خلال المقالات الافتتاحية في صحيفة "لوكوتيديان دوران" (يومية وهران)، وهي الجريدة اليومية لمدينة وهران الساحلية الواقعة في غرب الجزائر. يعرف محبُّو ألبير كامو مدينة وهران كموقع تدور فيه أحداث روايته "الطاعون" وقد اعتمد كمال داود في روايتة الأولى الناجحة "مورسو، تحقيق مضاد" بالتحديد على رواية ألبير كامو - المولود في الجزائر - وعمله الأكثر شهرة رواية "الغريب".
يروي كمال داود قصة العربي الذي قتله "الغريب"، مورسو، عن طريق الخطأ. على الرغم من أنَّ مورسو يَمْثُل لهذا السبب أمام المحكمة، لكن لا تتم إدانته بتهمة قتل العربي (هذه مسألة تافهة من وجهة نظر الحكَّام المستعمرين)، بل بسبب عدم قدرته على الربط وانعدام حبّ الأم. وفي الواقع لأنَّه غريب (منطو على نفسه) في مجتمعه.
تلعب نسخة رواية كمال داود بالتغيير في المنظور بعد حقبة الاستعمار وتروي القصة نفسها من وجهة نظر جزائرية. ومغزاها: الراوي الجزائري أيضًا هو غريب في مجتمعه، ومدمن كحول يكره أمَّه ويصبح بدوره قاتلًا عن طريق الخطأ. قد يتحارب الجزائريون والفرنسيون ويحتقرون بعضهم: لكن يمكنهم كأفراد أن يكونوا على مستوى أعلى، في الوجودية، إخوة في الروح عندما يقاومون ضغط التوافق في مجتمعاتهم.
الكتابة لمواجهة الموت
وإسماعيل، الراوي في رواية كمال داود الثانية "زبور أو المزامير"، هو أيضًا غريب ومرفوض في قريته. وبما أنَّ أمه ماتت أثناء ولادته وصار لدى أبيه أسرة جديدة، فهو يعيش مع عمَّته غير المتزوِّجة هاجر. أبوه هو تاجر مواشي ثريي وجزَّار هاوٍ، ويُعَدُّ من آباء القرية، ولا عجب من أنَّ اسمه إبراهيم. ففي الكتاب المقدس وكذلك بحسب التقاليد الإسلامية، ينبذ إبراهيم خادمته هاجر وابنهما المشترك إسماعيل.
إنَّ هذا الاستناد إلى قصص توراتية وقرآنية يعتبر أمرًا مفاجئًا من مؤلف معروف بانتقاداته للدين. ولكن حتى في رواية "مورسو، تحقيق مضاد" كان اسم الراوي هارون وشقيقه العربي الذي قُتِلَ من قِبَل مورسو كان اسمه موسى. إذا كان الكاتب كمال داود ناقدًا للدين، فهو مرتبط بالدين بشكل أعمق من معظم خصومه. ولكن حول هذا الارتباط - وكذلك التحرُّر منه - تتحدَّث رواية "زبور أو المزامير".
{في نهاية رواية كمال داود "زبور أو المزامير" يموت الأب وتموت معه أيضًا السلطة الأبوية.}
رواية "زبور أو المزامير" هي نوع من السيرة الذاتية، ولكنها فقط مبالغ فيها من الناحية الرمزية وملتزمة تمامًا بالعالم الداخلي لخيال الكاتب. ومع ذلك يوجد هنا أيضًا ميثاق السيرة الذاتية الشهير، أي تلك اللحظة في الكتاب، التي يلتقي فيها البطل والمؤلف: عنوان الرواية "زبور" هو التعبير العربي لكلمة "مزامير" كما أنَّ مؤلف كتاب المزامير التوراتية هو الملك (النبي) داود، واسمه مثل اسم المؤلف كمال داود. الشعر والخيال في هذه الرواية أكثر أهمية من التاريخ. عندما يستسلم القارئ لذلك أثناء القراءة، فعندئذ تتم مكافأته بثراء.
الأب إبراهيم مريض في فراش الموت وابنه إسماعيل بات يتصوَّر أنَّ كتابته يمكن أن تُطيل الحياة. الحبر هو الدم وطالما أنَّه يتدفَّق على الورقة فإنَّ الدم يبقى في النهر، وحتى في كلِّ الوجود. ولكن بحسب التصوُّرات الإسلامية التقليدية يعتبر في المقابل كلُّ شيء مقدَّرًا ومكتوبًا منذ الأزل: "لقد رُفِعَتْ الأقلام وجَفَّتْ الصحف"، مثلما يرد لدى فقيه إسلامي قديم.
وإسماعيل يريد من خلال كتابته أن يقلب هذه العملية رأسًا على عقب. وبما أنَّه ينافس الله، فإنَّ هذا أمر سيِّء للغاية! وبما أنَّ الكلمة الأولى الموجَّهة إلى النبي محمد كانت "اقرأ"، فإنَّ إسماعيل يتساءل: "لماذا لم تكن الكلمة الأولى من الملاك (جبرائيل) هي’اُكتب‘؟".
التحرُّر بواسطة لغة المستعمرين الفرنسيين
وبطبيعة الحال فإنَّ اللغة التي يتوقَّف عليها البقاء على قيد الحياة ليست اللغة العربية العريقة، التي تعلَّمها إسماعيل في المدرسة القرآنية. وبقدر ما هي مشحونة بتصوُّرات سحرية وما لديها من قدرة ساحرة خاصة بها -يتم نقلها بمصداقية من قِبَل كمال داود في العديد من أوصافه الشعرية- فإنَّ هذا الشاب لا ينجح في الاستفادة من هذه اللغة القديمة وإحيائها مرة أخرى. وهنا يكتشف على غلاف رواية بوليسية فرنسية (صورة) امرأة جميلة ويتعيَّن عليه أن يقرأ هذه الرواية، على الرغم من أنَّه لم يتعلم الفرنسية بالشكل الصحيح.
وفي الحقيقة هذا هو الفرق الكبير بين كمال داود ومعظم الكتَّاب المغاربيين الذين يكتبون باللغة الفرنسية: فهو لم ينشأ مع اللغة الفرنسية، بل اضطر إلى تعلُّمها كلغة أجنبية. وبالتالي فإنَّ استخدام اللغة الاستعمارية السابقة لا يرتبط بالنسبة له -مثلما هي الحال مثلًا مع آسيا جبار وغيرها- بالحزن على عدم توفُّر اللغة العربية له كلغة أدبية. والمفارقة أنَّ اللغة الفرنسية ترمز هنا للتحرُّر بالذات.
ولكن كيف يمكن للمرء أن يُعَلِّم نفسه لغةً من دون وسائل مساعدة ومعلِّمين في قرية متخلِّفة تقع في منطقة نائية في عمق الجزائر؟ بقوة الخيال الجنسي! "لقد كان كافيًا أن يقرأ أكثر ويستمر في التقدُّم في فهم الكلمات لكي يلمس الجسد بشكل أكثر حميمية وليشعر ليس فقط بصورة الجسد، بل حتى بالعاطفة!".
إسماعيل يتصوَّر نفسه كَـ "روبنسون كروزو" اللغة، الذي يُجَمِّع لنفسه على جزيرته المنعزلة المعاني من كلمة حطام السفينة الجانحة. ما يخرج من ذلك يبدو من الخارج فقط مثل الفرنسية العادية. أمَّا من الداخل فتملؤه روحٌ تنحدر مباشرة من الفهم اللغوي الساحر للغة العربية القرآنية: "بين حرف العطف والميتافيزيقيا يوجد ارتباط. [...] الكتابة والسرد هما الوسيلة الوحيدة من أجل العودة بالوقت ولقائه واستعادته أو السيطرة عليه".
يصل الراوي إلى معرفة مفادها: بمجرَّد أن يتم نقل سحر اللغة، يمكن للغة الفرنسية أن تقوم بهذه المهمة على نحو أفضل من العربية. وعلى الرغم من ذلك فإنَّ الأب يموت في النهاية وتموت معه أيضًا السلطة الأبوية. إن كان المجتمع المتحجِّر في التقاليد لم يعد يمتلك لغة لما يعاني منه وما يجعله غير حرّ، فقد أصبحت الفرنسية بالنسبة لإسماعيل، وهو الاسم المستعار للكاتب كمال داود، وسيلة للتعبير عن ذلك. وهذا بحدّ ذاته أمر ساحر بما يكفي!
في ربيع عام 2019، الذي أجبر خلاله الجزائريون باحتجاجاتهم الرئيس العجوز صاحب السلطة الأبوية عبد العزيز بوتفليقة على الاستقالة، من الممكن أن تخطر ببالنا فكرة أنَّ جميع الجزائريين قد مرّوا بتجارب تشبه تجربة كمال داود. وبطبيعة الحال لقد طُلب منه أن يشارك على المستوى السياسي أيضًا في هذه المرحلة الانتقالية. وبحسب تصريحاته فقد قرَّر في الوقت الحاضر رفض ذلك. ولكن لماذا؟ إذا كان التحرُّر يبدأ من اللغة فإنَّ كمال داود قد وضع مع هذه الرواية المهووسة باللغة والمحتفلة باللغة (الفرنسية) مفاتيح التحرُّر في يدِّ جميع القرَّاء.
شتيفان فايدنَر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019
رواية كمال داود، "زبور أو المزامير"، صدرت ترجمتها الألمانية عن دار نشر كيبِنهُويَر وفيتش، سنة 2019، في 384 صفحة.