أفول سياسي محتال - احتجاجات الجزائر ضد بوتفليقة
"أنا الجزائر بأكملها. أنا تجسيد الشعب الجزائري" – جملة أسطورية قالها عبد العزيز بوتفلقية بابتسامة متعجرفة مقاطعا أسئلة صحفيين فرنسيين بعد استلامه مقاليد الحكم في صائفة 1999. جملة كان يفترض أن تدق ناقوس الخطر لدى الجزائريين إزاء نوايا رئيسهم الجديد، لكن الحرب الأهلية الطويلة التي راح ضحيتها نحو 200 ألف قتيل خلفت مجتمعا منهكا ومصدوما نفسيا، لم يعد قادرا على كبح جماح جنون العظمة الذي لم يكلف بوتفليقة نفسه حتى عناء التستر عليه.
جاء الجنرالات ببوتفليقة من منفاه الاختياري ليكون واجهة مدنية لنظامهم المتهالك واغتروا بما كان يروجه عن نفسه بأنه سياسي مخضرم ودبلوماسي محنك. وروج الإعلام الحكومي الذي يسيطر عليه الجنرالات لبوتفليقة على أنه المهدي المنتظر الذي سيعيد السلم إلى الجزائر ويخرجها من عشريتها السوداء، وصوره للشعب وكأنه الخيار الوحيد المتاح. لذا قوبل الحاكم الجديد باستقبال الأبطال واحتفالات حاشدة أينما حل.
بعد عقدين من الزمن وأربع ولايات على رأس الدولة الجزائرية، يخرج ملايين الجزائريين إلى الشوارع الجمعة تلو الأخرى ويرددون هتافات "ارحل يا بوتفليقة"، و"لن تزيد دقيقة يا بوتفليقة"، و"الشعب يريد إسقاط النظام" الذي يذكر بأيام الربيع العربي. غالبية المحتجين من الشباب الذين لم يعرفوا لبلادهم رئيسا سوى بوتفليقة ضاقوا ذرعا بالمخلص المزعوم. ما أكبر التباين بين المشهدين!
نصاب متعطش للسلطة
أثناء ولايته الأولى تعالت أصوات تحذر من أن بوتفليقة نصاب متآمر وحقود، وعادت سمعته السيئة المرتبطة بمسيرته السياسية الأولى لتنتشر بين عامة الناس. فبعد رحيل الرئيس هواري بومدين الذي شغل بوتفليقة لسنين طويلة منصب وزير خارجيته، اضطر الأخير للفرار نحو سويسرا بعد إدانته باختلاس 60 مليون فرنك سويسري من ميزانية التمثيليات الدبلوماسية الجزائرية في الخارج.
لم يخشَ الرئيس بوتفليقة أي عواقب، فعند انتشار هذه المعلومات كان قد ترسخ في السلطة وأحكم قبضته على زمام الأمور. وقد نجح في ذلك عبر قمع الاحتجاجات كالربيع الأسود في منطقة القبائل الأمازيغية الذي أوقعت فيه قوات الأمن بين عامي 2000 و2001 أكثر من 100 قتيل و5000 جريح، وعبر ضرب أجنحة النظام المتنافسة بعضها ببعض وإنشاء قاعدة خاصة به من الناهبين.
بفضل إيرادات المحروقات الهائلة تمكن بوتفليقة من شراء ذمم الناس في كافة مفاصل الدولة والمجتمع: في الجيش والمخابرات والأحزاب السياسية الموالية والمعارضة وفي الإعلام وبين رجال الأعمال. وصل حجم الفساد أثناء حكم بوتفليقة مستويات جعلت منظمة الشفافية الدولية تصنف الجزائر بين أكثر الدول فسادا في العالم. بالرغم من ثرواتها الطائلة التي تجعل منها دولة غنية، إلا أن الجزائر بقيت دون قدراتها في كل المجالات والجزائريون يئنون تحت وطأة النظام الصحي والتعليمي المترديين والبطالة المتفشية.
لذا لم يستغرب أحد عندما لم يواجه بوتفليقة بمقاومة تذكر حين غير الدستور عام 2008 حتى يستطيع البقاء على كرسي الحكم لأكثر من ولايتين. ولما أبى إلا أن يفوز بنسبة 90 في المائة في الانتخابات العام التالي، بدأ يتضح أنه يريد أن يحكم مدى الحياة وأنه لن يغادر كرسي الحكم إلا محمولا على نعشه في جنازة دولة.
علق الكثيرون آمالهم على أن يحصل ذلك قريبا. فمنذ 2005 انتشرت الإشاعات بأن بوتفليقة مصاب بسرطان الأمعاء. لكن الرئيس أظهر قدرة كبيرة على البقاء.
أفول بطيء
في 8 مايو / أيار 2012 خاطب بوتفليقة الجزائريين لآخر مرة. في كلمات رنانة أعلن بأن الأوان قد حان لانسحاب جيله من السلطة ولتسليم المشعل للشباب ليديروا مصير بلادهم. كلماته هذه أعادت الأمل للجزائررين في أن تغييرا سلميا للحكم ممكن، لكن بوتفليقة عاد ليخيب آمالهم مجددا.
فرغم إصابته بجلطة دماغية عام 2013 أردته عاجزا عن الكلام والحركة وأقعدته على كرسي متحرك، فرض بوتفليقة إعادة انتخابه في العام التالي. وسخر أجهزة الدولة لخوض حملته الانتخابية نيابة عنه، فيما اقتصر حضوره على صورة ضخمة تظهره في أيام العز لتمثله في الفعاليات الرسمية. وهو ما مثل إهانة صارخة لأكثر من 40 مليون جزائري.
من أجل تهدئة بوادر الاستياء وسط الشعب، تعهد نظام بوتفليقة بصياغة دستور جديد يؤسس لجمهورية ثانية ويستطيع منافسة أكثر دساتير العالم في الديمقراطية، وبإجراء إصلاحات جذرية في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تضع خطوطها العريضة جمعية وطنية يتم إنشاؤها خصيصا لهذا الغرض. غير أن بوتفليقة بقي وفيا لنفسه ونكث وعده مجددا.
في الأثناء، ورغم ضعف الرئيس الواضح للعيان، تمكنت عصابة بوتفليقة الحاكمة المكونة من سياسيين ورجال أعمال ينحدرون من المنطقة الحدودية الجزائرية المغربية، من حسم صراع -يدور منذ سنين- لصالحها. بمساعدة قائد أركان الجيش الجنرال أحمد قايد صالح أسقطت حاشية الرئيس في خريف 2015 رئيس جهاز المخابرات الجنرال محمد مدين الذي كان معظم الجزائريين يخافون حتى من ذكر اسمه. ورافق سقوط من كان يلقب برب الجزائر تهميش معظم حلفائه في أجهزة الدولة وعالم الاقتصاد.
بصيص أمل غير متوقع
في 2016 عدل الدستور الجزائري بالفعل، لكن عوض أن يصبح أحد الدساتير الأكثر ديمقراطية في العالم كما تعهد بذلك النظام قبل عامين، فصلت التعديلات على مقاس بوتفليقة وعززت سلطته بشكل غير مسبوق، فيما انتشر اليأس وسط خصومه.
منتشية بنصرها الحاسم، مضت عصابة بوتفليقة قدما في ترشيحه لولاية خامسة، رغم أنه بقي مغيبا طوال السنوات الست الأخيرة وضربت عرض الحائط كل التحذيرات من العواقب الوخيمة التي قد تترتب عن ذلك. وعند ظهور مؤشرات الاحتجاجات الأولى، عول النظام على اعتقال الناقدين وتخويف الشعب بالأوضاع في سوريا وليبيا وبأهوال الحرب الأهلية التي عايشها في التسعينيات من أجل احتواء الوضع. لكن السلطات أخطأت حساباتها في هذه النقطة بالذات.
في 22 فبراير / شباط 2019 خرج مئات الآلاف من الجزائريين في مختلف أنحاء البلاد، بما في ذلك العاصمة التي تحظر فيها التجمعات، وطالبوا بالتراجع عن ترشيح بوتفليقة لولاية خامسة. بعد تعنت النظام وتهديده بالعودة إلى الحرب الأهلية، خرج في الجمعتين التاليتين ما يقارب العشرين مليون جزائري ضد هذه القرارات وصاروا يطالبون بإسقاط النظام بأكمله.
الاحتجاجات تتسم بالتنظيم الجيد وبالسلمية التامة وتعمها أجواء من الأهازيج والفرح، يسير فيها مختلف فئات المجتمع جنبا لجنب ويحملون لائحات بشعارات تعبر عن تيارات كان النظام يصورها على أنها متعادية فيما بينها.
ونظرا لهذا الوفاق والعدد غير المسبوق من المحتجين في تاريخ البلاد، بدأ النظام يناور من أجل كسب الوقت. فألغى الانتخابات الرئاسية ومدد لولاية بوتفليقة الحالية من أجل أن يسهر على تأسيس جمهورية ثانية ووضع دستور جديد يلبي مطالب الجميع. وعندما قوبل كل ذلك بالرفض الجماهيري، بدأ النظام يلمح إلى إمكانية عزل بوتفليقة عن منصبه بطرق دستورية.
لكن المحتجين رفضوا حتى ذلك ويصرون على رحيل كل النظام ولم يرضوا حتى بتعيين ممثلين للتفاوض معه، لأنهم لا يرون فيه شريكا في الحوار. وبذلك تفاجئ الجزائر المتابعين بمجتمع مدني واع وواثق من نفسه، تعلم من تجاربه ومن تجارب الدول العربية الأخرى. وهي تجارب تؤكد على خطورة الثقة في الأنظمة الحاكمة.
هناك شبه إجماع في الجزائر على ضرورة مواصلة الاحتجاجات حتى الإطاحة بالعصابات الحاكمة، وبعدها سيبدأ النقاش لاختيار شخصيات معروفة بنزاهتها تكلف بإدارة مرحلة انتقالية، تتمخض عن تأسيس جمهورية ثانية، يريدون لها أن تكون ديمقراطية بالفعل هذه المرة. طموحات تبدوا واقعية في ظل إجبارهم النظام لتقديم تنازلات متتالية.
بشير عمرون
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019