معاداة السامية كعقيدة دولة؟
فريدة مطربة يهودية مشهورة كانت تعيش ببغداد في ثلاثينيات القرن الماضي. وكان يحبها العراقيون رجالًا ونساء. ولكن بعد ذلك جاءت الحرب العالمية الثانية وبدأت معها الدعاية النازية المعادية لليهود والتحريض ضدَّهم. وكان العراقيون يأملون - كغيرهم من أبناء البلدان العربية - في التخلص من الاحتلال البريطاني المكروه بمساعدة النازيين.
وفي شهر نيسان/أبريل 1941، قامت مجموعة من القوميين العرب بانقلاب عسكري شارك فيه دبلوماسي ألماني على الملك الموالي لبريطانيا. وبعد استسلام بغداد للبريطانيين في الحادي والثلاثين من أيَّار/مايو 1941، حدثت هناك خلال اليومين التاليين أعمال قتل وانتهاكات منظمة ضدَّ السكَّان اليهود تعرف باللهجة العراقية باسم "الفرهود"، أي الاستيلاء على ممتلكات الآخرين ومصادرتها بالعنف.
هذه الفترة، التي بدأت فيها هجرة اليهود من العراق، تناولها في روايته "فريدة" الكاتبُ نعيم قطان، الذي يعدّ من أعظم ممثِّلي الأدب اليهودي العربي. لقد مضى على الفرهود الآن، في عام 2022، واحد وثمانون عامًا، ولكن العراقيين لم يعودوا يذكرون هذه الكلمة.
ومع ذلك لا تزال تداعيات هذا الحدث موجودة حتى اليوم في كلِّ مكان. وما يزال العراق معاديًا للسامية. وأحدث مثال على ذلك قانون أقرَّه مؤخرًا مجلس النوَّاب في بغداد، يحظر ويجرِّم الاتصال والتطبيع مع إسرائيل وشعبها.
ويمنع هذا القانون أيضًا المحادثات والدردشة مع الأصدقاء أو الأقارب الإسرائيليين. ومن الممكن أن تصل عقوبة من يخالفه حتى الإعدام. وهذا القانون لا ينطبق على العراقيين وحدهم، بل ينطبق حتى على الشركات والأفراد الأجانب العاملين في العراق. وهذا يعني مثلًا أنَّ كلَّ مَنْ يوجد في جواز سفره ختم إسرائيلي بات يعيش من الآن وصاعدًا في خطر.
العراق معادٍ للسامية
وإذا غامر مثال الألوسي بالسفر إلى بغداد، فسيتم اعتقاله على الفور وعرضه أمام المحكمة. فقد صدرت مذكرة اعتقال بحقّ هذا النائب البرلماني العراقي، الذي يبالغ عمره تسعة وستين عامًا. وجريمته هي: محاولة التصالح مع إسرائيل وزيارة الكنيست بصفته نائبًا عراقيًا والخيانة. هذه الاتهامات ليست جديدة، ومذكرة الاعتقال صدرت قبل تسعة أشهر.
في شهر أيلول/سبتمبر 2021، عُقد مؤتمر في مدينة أربيل الكردية حضره نحو ثلاثمائة شخص طالبوا بتطبيع العلاقات مع إسرائيل. ومن جانبها ردَّت الحكومة المركزية في بغداد بقسوة واتخذت إجراءات قانونية ضدَّ عدد من المشاركات والمشاركين في ذلك المؤتمر.
وصدرت ست مذكرات اعتقال واحدة منها بحقّ مثال الألوسي. والقانون الجديد "المناهض لإسرائيل" هو نتيجة أخرى لهذا الحدث. لقد تم عقد ذلك المؤتمر داخل إقليم كردستان المتمتع بحكم ذاتي في وقت كانت فيه دولة الإمارات العربية المتَّحدة والبحرين تقيمان علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، بالإضافة إلى إعلان المغرب والسودان عن عزمهما تطبيع العلاقات مع إسرائيل. ولذلك اعتقد مثال الألوسي والمشاركون معه أنَّ العراق أيضًا سينفتح على إسرائيل، خاصة وأنَّ آلافًا من يهود العراق يعيشون في إسرائيل ويتمنون المصالحة مع بغداد. ولكن الألوسي ورفاقه كانوا مخطئين.
والعراق في حالة حرب رسمية مع إسرائيل منذ قيام الدولة اليهودية في عام 1948. وقد شارك العراقيون في ثلاث عمليات عسكرية عربية ضدَّ إسرائيل. وأثار برنامج صدام حسين النووي السري قلق إسرائيل. وفي عام 1981، قامت طائرت من سلاح الجو الإسرائيلي بغارة على مفاعل تموز النووي (مفاعل أوزيراك) الواقع غربي بغداد ودمَّرته بالكامل.
وبعد عشر سنوات، أطلق الديكتاتور العراقي صدام حسين عشرات من صواريخ سكود باتجاه حيفا وتل أبيب ردًا على مهاجمة أمريكا وحلفائها بلاد الرافدين بعد غزو العراق للكويت.
واليوم، يبرِّر العراق موقفه المناهض لإسرائيل بالتضامن مع الفلسطينيين. شدَّدت وزارة الخارجية العراقية على "موقف العراق الثابت ودعمه الكامل للقضية الفلسطينية" وَ "الرفض القاطع لمسألة التطبيع مع إسرائيل". وأضافت أنَّ هذه إرادة العراقيين وقرارهم المستقل. صوَّت مئتان وخمسة وسبعون نائبًا من أصل ثلاثمائة وتسعة وعشرين نائبًا عراقيًا لصالح هذا القانون، الذي يجعل عمليًا معاداة السامية عقيدة من عقائد الدولة العراقية.
البرلمانيون الأكراد صوتوا أيضًا لصالحه
ولكن من المدهش أنَّ النوَّاب الأكراد الحاضرين صوتوا أيضًا لصالح القانون. فمن ناحية أخرى، أقيم مؤتمر المصالحة مع إسرائيل في أربيل عاصمة إقليم كردستان. وكان المبادر إلى عقده المنظمة الأمريكية "مركز اتصالات السلام"، التي تكرِّس جهودها من أجل السلام والمصالحة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. بينما يعتبر الأكراد حلفاء الأمريكيين.
ومن ناحية أخرى، صحيح أنَّ إقليم كردستان المتمتع بالحكم الذاتي لا يقيم علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل، إلَّا أنَّ لديه "اتصالات ودية" مع الدولة اليهودية. وإسرائيل تشتري النفط الكردي وتخطط حتى لإنشاء خط أنابيب من المفترض أن يزوِّد الأردن وإسرائيل بالغاز الكردي في المستقبل، كما أنَّها أيَّدت استفتاء الاستقلال عام 2017، والذي أغضب من خلاله مسعود بارزاني -رئيس إقليم كردستان المتمتع بالحكم الذاتي- الكثيرين بمن فيهم الأمريكيون.
ويتوقَّع عرفات كرم -وهو مستشار لمسعود بارزاني- أنَّ هذا "القانون المناهض لإسرائيل" سيزيد من تعميق الخلاف بين بغداد وأربيل. وقال لقناة "رووداو" التلفزيونية إنَّ تصويت الأكراد لصالح هذا القانون لا يعني أنَّ أربيل قد انضمَّت إلى الجوقة المناهضة لإسرائيل. وقد علل حيدر اللامي، عضو ائتلاف دولة القانون السابق بزعامة رئيس الوزراء الشيعي الأسبق نوري المالكي، الإجماع على هذا القرار بممارسة ضغط من مختلف الجهات على السياسيين من أجل الموافقة على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، مما دفعهم أكثر إلى إصدار القانون.
ومن جهته يرى مثال الألوسي أنَّ نفوذ إيران المتزايد في العرق هو سبب التصويت ضدَّ إسرائيل. في شهر آذار/مارس 2022 أطلقت طهران اثني عشر صاروخًا باليستيًا على أربيل، زاعمةً أنَّ في المدينة معسكرًا تدريبيًا لجهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد، الذي يخطط لعمليات في إيران. وبما أنَّ رجل الدين الشيعي المؤثِّر مقتدى الصدر وأنصاره قدَّموا مشروع القانون في البرلمان وتبعتهم جميع الكتل البرلمانية الشيعية الأخرى المتأثِّرة بإيران، فمن الواضح من يقف وراءه، مثلما يفترض مثال الألوسي.
فازت الكتلة الصدرية بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات البرلمانية في شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2021 وتحاول منذ ذلك الحين تشكيل حكومة. ويبدو وكأنَّ هذا "القانون المناهض لإسرائيل" يوحِّد الأحزاب العراقية -المنقسمة في خلاف ذلك- بشكل ميؤوس منه. لم يعد يعيش في العراق اليوم سوى عدد قليل فقط من اليهود، الذين غادرت غالبيَّتهم العظمى العراق بعد تأسيس دولة إسرائيل.
هجوم على حرِّية التعبير
واجه هذا القانون انتقادات شديدة من الولايات المتَّحدة الأميكية. وقد وصفه متحدثٌ باسم وزارة الخارجية في واشنطن بأنَّه هجوم على حرِّية التعبير. وكذلك يرى القاضي الدستوري العراقي ميثم حنظل في هذا القانون أداة تستخدمها السلطة التشريعية من أجل إخضاع حرِّية التعبير لمصالح الدولة العليا. وقال لقناة تلفزيون الحرّة: يجب من الناحية الدستورية التعامل مع كلِّ حالة بمفردها، لأنَّ حرِّية التعبير عن الرأي مكفولة في الدستور العراقي. ومع ذلك فهو أيضًا يرى خطرًا من احتمال استخدام هذا القانون في تكميم أفواه المعارضين السياسيين.
ويشير مثال الألوسي إلى سبب آخر محتمل لهذا القانون المعادي للسامية، وهو -مثلما يقول- سبب لم يجد أي اهتمام في النقاش الحالي، ولكن له أهمية كبيرة. في المؤتمر المنعقد في أربيل دار الحديث أيضًا حول موضوع أملاك اليهود، الذين تركوا العراق. حيث طالب مثال الألوسي بإعادة هذه الأملاك إلى أصحابها. وقال إنَّ "جميع اليهود، الذين غادروا العراق، فقدوا بعد عامين كلَّ أملاكهم في العراق".
لقد أصبح الوضع القانوني لتلك الأملاك غير واضح منذ الغزو الأمريكي البريطاني للعراق في عام 2003 وإسقاط الديكتاتور العراقي صدام حسين. ومنذ ذلك الحين، أصبحت إيرادات إيجار العقارات اليهودية تذهب إلى سرايا القدس الإيرانية، بينما يعيش في تلك البيوت عناصر من المليشيات المموَّلة من إيران. تسيطر الميليشيات الشيعية بشكل خاص على حيّ الكرادة في بغداد، الذي كان يعيش فيه اليهود والمسيحيون والشيعة معا.
وهذه الأملاك، التي يبلغ ثمنها ملايين، إن لم يكن مليارات، تم تسجيلها في السجل العقاري بواسطة أوراق مزورة. وقبل فترة غير بعيدة، حكمت محكمة عراقية بإعادة قطعة الأرض المبنية عليها وزارة المالية إلى مالكها اليهودي. وقد تسبَّب ذلك في موجة من البلبلة ولانتقادات. "مؤتمر أربيل مثِّل تهديدًا كبيرًا لكلِّ مَنْ استولوا على أملاك يهودية"، مثلما قال مثال الألوسي معلقًا على قرار المحكمة، وأضاف: "إذا تمكَّن اليهود من إثبات ملكيتهم لعقارات في العراق، فيحق لهم استعادة عقاراتهم". والآن جاء هذا القانون ليضع حدًا لذلك.
وطالما ما زال هذا القانون المناهض لإسرائيل مطروحًا على مكتب الرئيس العراقي برهم صالح بتوقيعه فقط يمكن أن يدخل حيز التنفيذ، علمًا بأنَّ برهم صالح كردي.
بيرغيت سفينسون
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022