"أنا مصدوم من قسوة القلوب"
السيِّد يوآف بيك، كيف عشت شخصيًا الأشهر السبعة الماضية؟
يوآف بيك: كانت البداية صدمة تامة. وكنتُ متأكِّدًا من أنَّنا يجب أن نرد ردًا عسكريًا. وقد أذهلني رعب هجوم حماس وفشل إسرائيل التام في حماية شعبنا. وبعد أسبوعين كان من الواضح أنَّ إسرائيل ستدخل غزة بقوَّاتها البرية. وكان لديَّ خوف كبير من أنَّ الوضع قد يصل في الواقع إلى ما وصل إليه.
وكنت أخشى من أن تغرق إسرائيل في مستنقع رهيب وأن ندخل قطاع غزة في هجوم بري خامس وأنَّ ذلك لن يؤدِّي إلَّا إلى إبعادنا أكثر عن أية فرصة للتوصل إلى تسوية سلمية. لقد عبَّرت عن معارضتي الحرب في وقت مبكر جدًا عندما كان حتى أصدقائي الليبراليون ما يزالون متردِّدين. والآن أشعر بقلق عميق من أنَّنا لن نجد حلًا يكون عادلًا لكلا الطرفين.
لقد بدأت إسرائيل هجومها البري في رفح متجاهلةً جميع التحذيرات الدولية. فكيف يبدو المزاج العام في داخل إسرائيل؟
يوآف بيك: نحن منقسمون. فبعض الإسرائيليين يواصلون الضغط من أجل تحقيق "النصر التام على حماس" ويدعمون العمليات العسكرية في رفح. والكثيرون غيرهم -وليس فقط الليبراليين واليساريين- مقتنعون بأنَّ اجتياح رفح لا يؤدِّي إلَّا إلى إبعادنا عن الحلّ القائم على المفاوضات.
وما نزال مستمرين في ذبح أهالي قطاع غزة الأبرياء بشكل عشوائي ومن دون أي تمييز. المزاج كئيب، كئيب جدًا. كثير من الإسرائيليين يائسون. والكثيرون يخططون لمغادرة البلاد. ومعظم الإسرائيليين يعتقدون أنَّ تحرير الرهائن يجب أن يحظى بالأولوية قبل تحقيق "نجاح" عسكري، وكأنَّ هذا النجاح العسكري ممكن أصلًا. ويرى المزيد من الإسرائيليين أن مقتل أكثر من 600 جندي إسرائيلي كان هباءً ومن دون جدوى ومن أجل لا شيء.
كارثة غزة: دمار وحصار وتشرد وجوع وموت
غضب وحزن على مقتل ستمائة جندي
كيف تأثر أصدقاؤك في ورشات عمل مشروع الصلحة للسلام بالحرب؟
يوآف بيك: أنا ما أزال أشارك في اللقاءات على الرغم من أنَّني لم أعد أعمل في مشروع الصلحة. وقد أُلغِيَت جميعُ التصاريح الممنوحة -من أجل فترة الأعياد اليهودية- لفلسطينيي الضفة الغربية حتى قبل السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023. وهذا يعني أنَّ زملاءنا من الضفة الغربية لم يعد بإمكانهم الدخول.
ولذلك فقد عقد مشروع الصلحة ورشات عمل مع فلسطينيين من القدس الشرقية وإسرائيليين. وما يزال يوجد أمل في أن تتمكَّن هذه الاجتماعات من إلهام بعض الأفراد. ومع ذلك فإنَّ جميع النشاطات باتت محاطة بجو من اليأس - وذلك خاصةً لأنَّ العديد من أصدقاء مشروع الصُّلْحَة الفلسطينيين لديهم عائلات في غزة.
هل يمكن المحافظة على روح مشروع الصُّلْحَة حيةً؟
يوآف بيك: يجب على كلِّ مَنْ انكسرت روحه بسبب الأحداث أن يتحقَّق بنفسه من مدى تجذُّر هذه الروح لديه أصلًا. وإذا كان المرء يؤمن في أعماق قلبه بإمكانية السلام والتضامن والمصالحة فلن يتمكَّن أي ظرف -من الظروف- من تدميرها. ولكن نعم توجد لدى الكثير من الناس شكوك جديدة. والكثير من الإسرائيليين شعروا بخيبة أمل لأنَّ أصدقاءنا الفلسطينيين لم يدينوا بشكل واضح هجوم حماس في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023.
لقد كتبتَ في واحدة من مشاركاتك الأخيرة: "نحن لن نحقِّق السلام أبدًا طالما بقي الاحتلال قائمًا. فالاحتلال يُلوِّث أرواحنا". ما هي ردود الفعل التي تتلقاها من زملائك الإسرائيليين عندما تدلي بمثل هذه التصريحات؟
يوآف بيك: معظم الإسرائيليين المحترمين -وليس فقط "أنصار السلام"- يفهمون أنَّ الاحتلال المستمر لا يُقدِّم أي مستقبل وأنَّه ببساطة أمر لا يمكن تحمُّله. بينما يفكِّر آخرون أنَّ استمرارنا في احتلال الضفة الغربية يمنحنا الأمن والأمان ويردون عليَّ بغضب.
ويسود من نواحٍ عديدة فصلٌ عنصري في إسرائيل وفلسطين. إذ توجد لدينا شوارع وقوانين ومحاكم منفصلة. نحن لدينا معايير مختلفة لداخل إسرائيل وللأراضي الفلسطينية المحتلة. هل نحن "رسميًا" دولة فصل عنصري؟ بالطبع لا، ولكننا في الواقع دولة فصل عنصري.
كان جزء كبير من عملك مع مشروع الصلحة يدور حول خلق التعاطف من خلال مشاركة قصص شخصية. فكيف تُفسِّر انعدام التعاطف في إسرائيل مع الجانب الفلسطيني؟
يوآف بيك: أنا مصدوم من قسوة القلوب التي ألاحظها لدى كثيرين من الإسرائيليين. الناس في إسرائيل لا يستطيعون النظر إلى غزة من دون رؤيتهم الضحايا الألف وأربعمائة الإسرائيليين الذين قتلوا في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023. وبقدر ما كان ذلك فظيعًا فإنَّ هذا العدد أقل من أربعة بالمائة من عدد الضحايا الفلسطينيين الذين قتلناهم.
يقول الناس في إسرائيل: "لا توجد لدينا أية مساحة للشعور بمعاناتهم... فنحن منشغلون جدًا بمعاناتنا". وأنا لا أستطيع قبول ذلك. والمشكلة هي أنَّ هذه الصدمة مستمرة. ووسائل الإعلام لا تزال مليئة كلَّ يوم بـ"قصص السابع من أكتوبر". وكلّ يوم يُقْتَل المزيد من الجنود الإسرائيليين. وبالتالي يُعاد تنشيط صدمة أكتوبر باستمرار. إنَّ السبعة وخمسين عامًا من الاحتلال ساهمت كثيرًا في جعلنا غير مبالين بمعاناة الفلسطينيين.
غزة - "لا فظائع تبرر اقتراف فظائع أخرى"
ترى خبيرة القانون الدولي هايدي ماثيوز ضرورة تبيُّن اتهامات ارتكاب حماس لعنف جنسي ممنهج بالسابع من أكتوبر خاصةً أنها تُهَمٌ مستخدمة لتبرير الرد الإسرائيلي المُفرِط بالقتل والتدمير في غزة. حاورتها حنَّة الهيتامي لموقع قنطرة.
"القتلى الفلسطينيون غير مهمين"
من فضلك هل يمكنك الحديث حول تجاربك أثناء المظاهرات من أجل السلام في الأشهر الأخيرة؟
يوآف بيك: القمع الحكومي مستمر من دون رادع. وفي ثلاث مرات نزعت الشرطة من يدي لافتاتي المناهضة للحرب. لقد تظاهرت مع الكتلة المناهضة للاحتلال في مظاهرات أوسع تركَّز بشكل رئيسي على إطلاق سراح الرهائن.
وكان يظهر في كلِّ مظاهرة أنصار نتنياهو اليمينيون من أجل مضايقتنا. ثم كانت تقع أعمال عنف. والشرطة تكون في كلِّ مرة تقريبًا أعنف مما يجب. ومن الواضح تمامًا أنَّ رئيسها -البلطجي إيتَمار بن غفير- يُشجِّع أفراد الشرطة على التعامل ضدَّ المتظاهرين بقسوة أكثر من اللازم من أجل الحفاظ على النظام. وقبل فترة قصيرة أقدم ضبَّاط الشرطة على ضرب عائلات الرهائن أثناء مظاهرة في تل أبيب.
هل شهدت خلال الأشهر الأخيرة أي شيء يبعث على الأمل؟
يوآف بيك: لقد قمنا ببعض المظاهرات المتعدِّدة الأديان مع مسيحيين ومسلمين فلسطينيين، وهذا أمر مُشجِّع جدًا. وما يمنحني الأمل هو اعتراف ثلاث دول الآن بالدولة الفلسطينية وتقييد بايدن شحنات أسلحته المرسلة إلى إسرائيل وكذلك إصدار مذكرة اعتقال نتنياهو. نحن بحاجة إلى المزيد من الضغط الدولي - ضغط قوي "بكلّ ضراوة" ـ يُجبر حكومتنا على الاعتراف بأن السبيل الوحيد هو المفاوضات.
أنت انتقلت لتعيش في إسرائيل قبل خمسين عامًا. فكيف كان البلد الذي انتقلت إليه آنذاك وما رأيك فيه الآن؟
يوآف بيك: كانت إسرائيل بلدًا ألطف في عام 1972. وكنا أكثر دفئا مع بعضنا. لقد جعَلَنا نتنياهو والاحتلال أكثر تشدُّدًا وأكثر أنانية وأكثر تعصُّبًا وأكثر عنصرية. ولكن ما تزال توجد نواة من الإسرائيليين المحترمين والرائعين الذين ألتقي بهم في المظاهرات وهم يمنحوني الأمل.
يرى بعض المراقبين أنَّ هذه الحرب تكشف الغرب ونفاقه فيما يتعلق بتعزيز حقوق الإنسان والديمقراطية. فهل نشهد مع هذه الحرب الحالية تفكيك الأسطورة الإمبريالية؟
يوآف بيك: آمل كثيرًا أن يكون هذا التحليل صحيحًا. ومن الممكن أن تؤدِّي هذه الفترة الكارثية إلى تطوُّر كبير. ومن أجل ذلك لا بد من استبدال حكومة نتنياهو واتخاذ الإجراءات اللازمة من أجل تسهيل حياة الفلسطينيين، وهذا لا يمكن إلَّا أن يكون في مصلحة إسرائيل. والسلام مع الفلسطينيين من شأنه أن يزيل جزءًا من دوافع حزب الله وإيران للعمل ضدَّ إسرائيل.
المصالحة تحتاج وقتًا
=ما هي الرؤية التي تريد بناءها من الآن فصاعدًا للإسرائيليين والفلسطينيين وكيف يمكن تحقيقها؟
يوآف بيك: الرؤية التي نأمل في أن نتمكَّن من بنائها ستبدو تقريبًا على هذا النحو: اتفاق إسرائيل وحماس على وقف الأعمال العدائية وإعادة جميع الرهائن وآلاف المعتقلين الفلسطينيين إلى منازلهم. ثم تخطيط الطريق إلى علاقات جوار فيها منفعة متبادلة لكلِّ مَنْ يعيشون في غزة وإسرائيل والضفة الغربية.
ويمكن تحقيق هذا من خلال انتخاب قادة جيِّدين وتعبئة روح السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ومن الممكن أن تصبح هذه المنطقة نموذجًا مستقرًا يمكن للعالم أن يتعلم منه، وذلك فقط عندما ننجح معًا في تغيير الأمور.
وخير مثال على ذلك إيرلندا الشمالية: حيث تم التوقيع قبل ستة وعشرين عامًا على اتفاق الجمعة العظيمة في إيرلندا الشمالية. والناس هناك يدركون أنَّ الأمر سيستغرق سنين عديدة للتغلب على الجرائم المرتكبة وشفاء الضحايا. وتغيير طرق التفكير العنصرية سيحتاج لأجيال عديدة.
ولكن لا يمكن لأي شيء من ذلك أن يبدأ في وقت لا يزال يوجد فيه أشخاص يموتون. وإيرلندا الشمالية ليست مثالية ولكن لأنَّ الناس هناك لم يعودوا يقتلون بعضهم فهم يستطيعون القيام بخطوات من أجل الشفاء. وكما قال فيدِل كاسترو بعد إطلاق آخر رصاصة في هافانا: "الآن بدأت الثورة".
حاوره: ماريان بريمَر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024