الحياة ليست جنة ولا جحيما بل تعرجات
الرواية الصادرة عن دار الشروق المصرية، تبدو في أحد أوجهها كنص يروي حكاية الثورة، أو بمعنى أدق يشتبك معها من خلال رحلة بطلين ينتميان لأجيال مختلفة هما: "دولت" الفتاة العشرينية الثورية، و"محسن الحكيم" الكاتب الخمسيني.
أشبه بلحظة الانفجار العظيم التي ولدت من رحمها الحياة
لكن الحكاية المرتكزة على حدث الثورة، تحمل بداخلها طبقات أخرى من الحكايات والأسئلة والمشاعر، تصبح معها الثورة أشبه ببوابة عبور للعالم، شيء يشبه لحظة الانفجار العظيم التي ولدت من رحمها الحياة، وكما توارت لحظة الانفجار لصالح الحياة ذاتها.
كذلك تتوارى الثورة بوجهها السياسي، وصراعاتها الحادة لتتركنا نتأمل حيوات الشخصيات الأساسية في الرواية "دولت، ومحسن، ورباب، ومنسي، ورينجو، ومحمود، وميادة، ومصعب، وغيرهم".
"كانت ساحة الثورة مفتوحة لظهور العديد من الأدوار، فوق طاقة خشبة مسرحها، للنضال والحب والخيانة، ولكن لو لم نلعب هذه الأدوار جميعها فمن سيلعبها؟"
"إنها مسرحية تؤدّى للنهاية ويجب أن تنتهى بمأساة. قبولنا بالأدوار غير المناسبة من البداية، أو تصديقنا بأننا نغير وجه العالم، وليس فقط وجه مصر المباركي القبيح، وضع نهاية مأساوية ومبكرة للمسرحية. تلك النهاية التى تقضى على كل الأدوار ليعود المسرح خاليا من جديد. ركبنا بحقائقنا المزيفة وبأنانيتنا، وبصدقنا أيضا، وبأكاذيبنا، وبتضحياتنا، على حصان طروادة الثورة؛ لنغزو تلك القلعة الحصينة للإنسانية".
لحظة أشبه بالخروج من شرنقة الفراشة
جمعت دولت بمحسن علاقة تمزج بين الحب والأبوة، الصداقة والأمومة، علاقة يصعب تصنيفها، تشبه لحظة الثورة حيث كل شىء مضطرب ومتغير، بصورة تولد معها معاني جديدة ومختلفة لتصوراتنا المسبقة عن ذواتنا ومشاعرنا والحياة ككل، لحظة تشبه خروج الفراشة من الشرنقة، وهو ما يعني اكتمال مراحل نموها وتطورها، لكنه يعني أيضًا اقتراب نهاية دورة حياتها القصيرة.
تخوض دولت رحلة الخروج من الشرنقة، رحلة اكتشاف الذات والعالم، اللذة والألم، الجسد والروح، الحب والكراهية، الحرية والخوف، الحب والخذلان، بينما يقف محسن الحكيم يتأمل حياته الماضية وتصوراته عن ذاته والعالم، علاقته بزوجته وأزمة منتصف العمر، والتطلع لحب/عمر جديد، والخوف من التبعات والأثمان الكبيرة لجموح مشاعره، كل هذا يحدث بينما أمواج الثورة تدفع الجميع لمساحات أبعد بكثير مما يتوقعون.
"كل فترة عمرية يصاحبها العديد من الرغبات المفقودة، التي لا يقدرها العمر جيدا في وقتها، بسبب عدم نضجه، لتظهر من جديد في عمر آخر، ولكن بعد أن فقد الجسم القدرة على الاستمتاع، ولكنه اكتسب النضج الذي يمنحه تحويل المتعة إلى خيال. في تلك الحالة تدخل الرغبة والمتعة في وريد الذهن مباشرة بدون أن تعبر على ذاكرة الجسد. هناك دائما تضاد وتداخل، وذوبان أحيانا، بين الرغبة والنضج والعمر المصاحب لها".
منح الثورة زمنا ممتدا عبر أجيال على الماضي والمستقبل
تبدو رواية "بيت الحرير" في وجه آخر، أقرب ما تكون لرواية أجيال، تشبه ثلاثية الأديب الراحل علاء الديب "أطفال بلا دموع، وقمر على مستنقع، وعيون البنفسج"، في هذه الثلاثية قدم "الديب" شهادته على نصف قرن عاشه بكل تغيراته المجتمعية والنفسية، بكل آماله وهزائمه ولحظات التيه واليقين والألم والخوف والوحدة والحب والكراهية، من خلال ثلاث شخصيات رئيسية هي: الزوج "منير فكار" والزوجة "سناء فرج" والابن "تامر".
تجمع "بيت الحرير"، والثلاثية" عدة سمات مثل: تعدد أصوات الرواة، ومعاناة أبطالها من الإحساس بالاغتراب والضياع، والارتكاز على حدث كبير وفارق في حياة أبطالها سواء ثورة 25 يناير ، أو نكسة 1967 وتبعاتها، ورغم غياب البناء العائلي كرابط يجمع الشخصيات الرئيسية في بيت الحرير، إلا أن ظلال العائلة المأزومة تظهر في خلفية حياة دولت بطلة الرواية، ومن خلال هذا الحضور العائلي، يحررعلاء خالد الثورة من كونها مجرد لحظة زمنية محددة ويمنحها زمنا ممتدا على الماضي والمستقبل.
"كان أبي يصف عائلة أمي بأنها عائلة طماعة. إقامتنا في هذه العمارة الخاصة بعائلة أبي والتي بناها جدي عبد الحميد بعد انتقالهم في السبعينيات من خلوصي لمصر الجديدة، جعلت علاقتي أنا وميادة ومحمود بهذا الفرع الأبوي قوية للغاية، وأيضًا مثار خلاف دائم معه قبل وبعد وفاة أمي. لم تقف شكوك أبي في العالم عند حدود الطبقات الأدنى، والتي كان يسخر منها ويرى فيها كل المساوئ، ولكنها ترعرعت وتشعبت لتكسر في طريقها حدودًا إنسانية يجب ألا تُكسر".
تعامل مع الثورة وحيوات أبطال القصة بروح أمومية
أكثر ما يميز رواية "بيت الحرير" أنها تتعامل مع الثورة وحيوات أبطالها بروح أمومية، قادرة على العفو والمغفرة، روح محبة ومتفهمة لأزمات أبناءها، وهواجسهم، وحبهم، وأنانيتهم، وغضبهم، ووحدتهم، واغترابهم، وغربتهم. روح حنونة وصادقة تعرف أن الحياة ليست جنة مثالية، ولا جحيما مطلقا، ولكنها مسارات متعرجة نخوضها أفراد وجماعات وأمم، بعضنا يبحث فيها عن لحظة يقين وطمأنينة، وآخرون يبحثون عن لحظة هيمنة وخلود.
"ما علاقة الثورة بالأمومة؟، هل تنشط الثورة هرمونات الاحتواء الذي بلا مقابل، تنثر التضحيات، وتطوي التأججات، وتطالب الجميع بالبحث عن تلك الأنثى الغابة، سواء كانت الأم أو الوطن أو النفس المنسية؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات أكتشف هذا البعد الغائر؟ أغلب علاقاتي الجديدة، التي تكونت بعد الثورة، كانت لصالح استمرار دور الأم في حياتي. بينما عجلة الثورة تدور للأمام، كنت مازلت مشدودة بقوة للوراء، لما ضاع مني وصعب علي تعويضه. كان نعش أمي مازال يطفو فوق حشود الثورة. ربما لهذا حدث الصدام، وفشلت ثورتنا ومعها فشلت علاقتي بمصعب. فجميعنا كنا ننظر للوراء، لتلك الفقاعة النفسية التي نخشى أن نتركها".
إسلام أنور
حقوق النشر: موقع قنطرة 2021
[embed:render:embedded:node:42972]