نحو اتحاد أوروبي يتعدى الحضارات والثقافات والدين
منذ أمُلت تركيا عام 1999 في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تولدت آفاق مستقبلية جديدة لكثير من المجموعات العرقية والدينية والاجتماعية والسياسية. وذهب الاسلامويون والأكراد والعلويون الشركسيون وآخرون إلى محاميّ الاتحاد الأوروبي الذين يقفون بجانبهم كمشروع للسلام والاندماج. وفي الوقت الحالي يجري النقاش في الإعلام التركي حول الاتحاد الأوروبي كمشروع سلام لفض النزاع القديم بين ألمانيا وفرنسا والجديد بين ألمانيا وبولندا. في هذا السياق يُعتبر الاتحاد الأوروبي مجتمعا سياسيا لا يسعى فقط لإحلال السلام، بل أيضا لتصديره، وأن فكرة "أَوْرَبة تركيا" لم تلق استحسانا من قِبل اليونان فقط، بل من الدول المجاورة أيضا مثل سوريا والعراق وجورجيا وأرمينيا وبلغاريا.
لقد كان انفتاح الآفاق الجديدة أمام تركيا لتصبح عضوا في الاتحاد الأوروبي يعتبر في الوقت نفسه أملا في أن تصبح أحد عوامل الاستقرار المهمة في الشرق الأوسط. والاتحاد الأوروبي أصبح بالنسبة لتركيا كالفنار الذي يهديها إلى طريق الدّمقرطة واللّبْرلة والأَوْربة. كما أن القرار الذي أُُخذ عام 1999 دفع عجلة العديد من الإصلاحات في تركيا، من بينها إلغاء عقوبة الإعدام وإطلاق سراح السجناء السياسيين وإلغاء التعذيب على أيدي قوات الأمن، ومنح الصحافة أكبر قدر من الحماية، والحد من رقابة الجيش وتأثيره على القضاء والتعليم وإقرار الميزانية والإعلام، وكذلك أيضا تطبيق القوانين المدنية على الأقلية المعترف بها رسميا، مثل الأرمن واليهود واليونانيين، وتعديل قانون العقوبات.
مراجعة ذاتية
وعلاوة على ذلك أدّى الأمل في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلى خلق فرصة لمراجعة تركيا لتاريخها الخاص. لهذا قامت جامعة بلجي باسطنبول عامي 2005 و2006 بتنظيم مؤتمرين بعنوان "الأرمن العثمانيون وقت انهيار الإمبراطورية" و"المسألة الكردية". وإلى يومنا هذا تُقام احتجاجات ضد هذه المؤتمرات الخاصة المتعلقة بالموضوعات الحساسة تحض عليها منظمات سرية مثل منظمة إرغينكون Ergenekon. أما في الوقت الحاضر فقلما تُوجد مثل هذه الاحتجاجات، الشيء الذي يدل على القبول المتزايد تجاه الآخرين. هذا التحول لا يعتبر سوى تغير منطقي نتج عنه الاعتراف الرسمي بتركيا كبلد متعدد الثقافات.
وعلى الرغم من هذه النتائج المشجعة لا يزال هناك في تركيا العديد من الإصلاحات الواجب إنجازها، والقوانين التي صُودق عليها يجب أن تدخل حيز التنفيذ. ولا يزال النقاش حول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي محل نقاش داخل تركيا وخارجها. إن دول الاتحاد الأوروبي على يقين بأن انضمام تركيا للاتحاد من شأنه أن يزيد النقاش حدة حول الهوية الأوروبية وحدود القارة. علاوة على ذلك ينبغي أن تُقام حوارات بنّاءة - مع أخذ العضوية الكاملة لتركيا في الاعتبار - لإنعاش مشروع السلام الذي يعتبر أحد الأركان الأساسية التي قام عليها الاتحاد الأوروبي.
تركيا أنموذج للعالم الإسلامي؟
إن الجهود الأوروبية التركية بدأت تقريبا في الفترة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر / أيلول 2001 عندما بدأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في تنصيب تركيا بتوجهها الإسلامي المعتدل قدوة للأمم المسلمة، حيث تم إبراز دورها كهمزة وصل ليس فقط بين القارات، بل وأيضا بين الحضارات. إن الإسلام المعتدل حظي بالمدح من قِبل الدول الغربية لدرجة شملت الحزب الإسلامي الحاكم. كما أن تنصيب تركيا قدوة للبلاد الإسلامية الأخرى لاقى أيضا ترحيبا من قِبل النخب السياسية في تركيا.
لقد قبل رئيس الوزراء أردوغان وسياسيون آخرون وعلماء هذا الدور الجديد على أمل أن يساعد في خلق موقف أنسب لتركيا في عملية الاندماج داخل أوروبا. إن دور تركيا كوسيط بين الدول المسلمة وغير المسلمة لقي تأييدا من الأمم المتحدة، حيث كلّفت رجب طيب أردوغان ورئيس وزراء أسبانيا خوسيه لويس رودريغيث ثباتيرو بإطلاق مبادرة تحالف الحضارات، إلا أنه على ما يبدو أن جهود رئيس وزراء تركيا والأمم المتحدة باءت بالفشل.
إن نموذج تحالف الحضارات أكد حتى الآن ضمنيا أن الحضارات والأديان والثقافات لها حدود تفصل بينها بيد أنها من الممكن أن ترتبط بعضها بعضا. وبهذا يصبح تحالف الحضارات إلى حد ما قريب الشبه من "صراع الحضارات"، في حين أن الأول يهتم بالحوار بين الحضارات والأديان، والثاني على العكس من ذلك يؤكد استحالة التفاهم بينهم. ومن المهم أن نعي أن النموذجين يعودان إلى مصطلح الحضارات الهولستي الذي يرتكز على أن الإحساس بالعالم قائم على نظرة ذات تركيب ديني وثقافي وعرقي في الوقت ذاته.
وتعد الطريقة التي اتبعها صمويل هانتنجتون ونيكولا ساركوزي وأنجيلا ميركل أو جورج بوش حتى الآن لا تختلف كثيرا عن تلك التي اتبعها أردوغان أو ثباتيرو، إذ أنهم جميعا يرون العالم بعدسة الدين. بيد أنه من المفترض التساؤل عن فكرة وجود حدود ثابتة بين الحضارات والثقافات والأديان، ذلك لأنهم دائما ما يكونون مرتبطين بعضهم ببعض، ويتعلمون من بعضهم بعضا، مما يخلق بينهم مجالا هجينا تتلاشى فيه الحدود وتختفي، حيث لا تستطيع الحضارات أن تقف تجاه بعضها بعضا كتراكيب منغلقة على نفسها ولكنها تنصهر فيما بينها.
وعلاوة على ذلك فإن البلاغة التي تكمن في المصطلح الغربي لـ"تحالف الحضارات" أدت إلى سيادة الرؤية التي تجبر الأوروبيين على فهم غير الأوروبيين في منظومة ذات علاقة بالدين والثقافة والحضارة. هذه البلاغة أدت في الآونة الأخيرة إلى إزعاج بعض الشخصيات البارزة من الساسة الأتراك ورجال القضاء، وبدأ كل منهم يتساءل: "في السابق كنت أعتقد أن تركيا جزء من الحضارة الأوروبية، متى تغير ذلك؟ ومتى أصبحنا ممثلي الحضارة الإسلامية"؟
نحو اتحاد أوروبي أوسع
لقد بيّن استطلاع رأى عام أجراه كل من جمينيز Jiménez وتوريبلان Torreblanca أن استخدام تركيا كأداة أو إقحام عضويتها في الثقافة لا يؤديان إلى خلق صورة إيجابية عن تركيا داخل التصور الإجمالي للرأي العام الأوروبي. ومن ناحية أخرى لم تستطع تركيا أن تؤثر تأثيرا واضحا - كهمزة وصل بين الحضارات وفهم الهوية التركية الأوروبية حتى الآن - على الرأي العام التركي حتى فيما يتعلق بدعمها للإتحاد الأوروبي.
فماذا ينبغي إذن أن نفعل؟ فمن المؤكد أن الرؤى التوظيفية والثقافية لم تستطع أن تقرّب بين الاتحاد الأوروبي وتركيا. وعلى ما يبدو أن الإمكانية الوحيدة لمراجعة العلاقة بين الجانبين تكمن في العزوف عن سيطرة الجدل الثقافي والحضاري والديني الذي مهد الطريق إلى الخلافات القومية والدينية والإقليمية داخل الاتحاد الأوروبي وتركيا على السواء. ويجب تذكير الرأي العام الأوروبي أن الاتحاد ما هو إلا مشروع اندماج وسلام وليس مشروع انشقاق، إذ إنه من المفروض أن يتم إعادة تفعيل جاذبية الاتحاد، ليس فقط بالنسبة للرأي العام الأوروبي فحسب، بل وأيضا بالنسبة لدول الجوار والعالم أجمع، وهذا لن ينجح إلا عن طريق بناء قارة أوروبية تتعدى كونها قومية أو غربية حدودها تخضع لتأثيرات مستمرة وتتجاوز المعالم الحضارية الرجعية والثقافية والدينية، الشيء الذي يُعد مشروع الاتحاد الأوروبي الجوهري. إنه اتحاد أوروبي يتعدى الحضارات والثقافات والانتماء الديني ويتطلع نحو المستقبل، وهذا ما تحتاجه تركيا والعالم أجمع. هذا النوع من التعريف السياسي لأوروبا التي تخضع لمنطق التطور والتوسع هو بعينه ما يحتاجه الاتحاد الأوروبي كي يتغلب على المشاكل المستمرة في بِنْيته.
وبينما في انتظار تركيا الانضمام إلى أوروبا التي تتعدى كونها قومية أو غربية يبقى عليها أن تقوم ببعض الواجبات والمهام الداخلية. وعلى الأخص دفع عجلة الإصلاح القضائي حتى تقنع الرأي العام الأوروبي بعزمها على تطبيق الديمقراطية. كما ينبغي لها أن تتخلى عن الجدل الثقافي والقومي والديني والحضاري وأن تحاول الاستعاضة عنه بجدل سياسي اقتصادي يتجاوز نسق الحضارات وحدودها. لأجل ذلك ينبغي لها ألاّ تتأثر بالأزمة السياسية المستمرة التي نتج عنها التغير الاجتماعي والاقتصادي الحالي في البلاد. وعوضا عن ذلك كان يتوجب عليها أن تقتنص فرصة هذه الأزمة لتجبر المجموعات الاجتماعية على اختلافها إلى الترابط مع بعضها بعضا بغية حل مشاكلها وتسويتها.
أيهان كايا
ترجمة: عبد اللطيف شعيب
حقوق الطبع محفوظة: Kulturaustauch/ قنطرة 2009
أيهان كايا، أستاذ للعلوم السياسية ومدير المعهد الأوروبي بجامعة بلجي في اسطنبول. في عام 2005 صدر له كتاب "Majority and Minority Politics in Turkey: Citizenship Debates on the way to the European Integration" (TESEV Verlag, Istanbul)
قنطرة
مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي:
بين دواليب البيروقراطية وعصا المسألة القبرصية
بعد عامين من توقف محادثات الانضمام بين تركيا والاتحاد الأوروبي يؤمل أن يتم خلال العام الجاري إعطاء دفعة جديدة لهذه المفاوضات التي تصطدم بمعوقات كبيرة مثل المسألة القبرصية. دانيلا شرودر في تحليل لهذه المفاوضات.
جدل حول انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي:
نادي الرجال البيض؟
سوف يفقد الاتِّحاد الأوروبي على مستوى عالمي من مصداقيته إذا لم ينجح في دمج تركيا في الاتِّحاد ومنحها عضويته، حسب رأي شيلا بن حبيب، أستاذة العلوم السياسية في جامعة ييل الأمريكية.
الجدل حول "القيم الأوروبية":
أيديولوجيا لتحصين أوروبا وعزلها ؟
هل تعتبر القيم التي بنيت عليها حقوق الإنسان خاصية من خواص الحضارة الأوروبية التي تعزل القارة الأوروبية عن مناطق العالم الأخرى؟ تراوغوت شوفتهالر يلقي نظرة ناقدة على آراء مراكز الأبحاث والمؤسسات الأوروبية.