رحلة نضال المرأة العمانية ضد التمييز
تواصل الروائية العمانية بشرى خلفان تتبع التحولات الاجتماعية والظواهر الحضارية في عُمان عبر عدة أجيال متعاقبة باستخدام أدب "روايات الأجيال"، من خلال روايتها "دلشاد: سيرة الدم والذهب" التي صدرت عن دار تكوين الكويتية في سبتمبر/أيلول الماضي، بعد أن نالت عن الجزء الأول "دلشاد: سيرة الجوع والشبع" (2021) جائزة كتارا للرواية العربية عام 2022.
تعتمد الرواية على تصوير حياة المهمشين وتجاربهم اليومية مع الفقر والجهل والتهميش، من خلال شخصيات رئيسية مثل "دلشاد" و"مريم" و"فريدة". تعكس هذه الشخصيات اهتمام الكاتبة برصد حياة الناس البسطاء الذين واجهوا التغيرات التاريخية الكبرى، مثل الحرب العالمية الثانية، وحرب الجبل الأخضر التي انتهت بتوحيد سلطنة عُمان خلال خمسينيات القرن الماضي، دون أن يدركوا بشكل كامل أسباب تلك الأحداث أو مآلاتها. وذلك، على عكس التركيز التقليدي على شخصيات النخبة، كالقادة والزعماء والشخصيات التاريخية، وهو أسلوب مألوف في روايات الأجيال ضمن أدب ما بعد الاستعمار.
في الجزء الأول من الرواية، تعود خلفان إلى بداية القرن العشرين في حيّ ولجات بمسقط، حيث يعيش البلوش والعرب جنبًا إلى جنب في فقر مدقع دون تمييز. وتحكي عن قصة دلشاد، اليتيم العربي الذي ربته امرأة بلوشية كأخٍ لابنها الوحيد. بسبب الفقر والمرض، يضطر دلشاد، لاحقًا، لترك ابنته "مريم" للعمل لدى عائلة ثرية مقابل مأكلها ومسكنها.
ورغم ذلك يبدو دلشاد كشخصية مقاومة وفعّالة، رغم تهميشها أمام القوى الاجتماعية والاقتصادية. لتأتي مريم كامتداد لشخصية أبيها، في مقاومة كل أشكال التمييز التي عانت منها منذ ولادتها. فقد وُلدت لأم بلوشية توفيت أثناء ولادتها، قبل أن تتكاتف نساء الحارة من العرب والبلوش معًا على إرضاعها دون تمييز. إذ تقدم الكاتبة، من خلال مريم، فكرة التلاحم الإنساني المبني على القيم المشتركة الذي يتجاوز الحواجز العرقية والاجتماعية.
سلطة أبوية
في الجزء الثاني من الرواية، تتحدى مريم، تلك الحواجز الاجتماعية في نضالها لتأمين مستقبل أفضل لابنتها فريدة. إذ ترفض ترك ابنتها بعد وفاة زوجها الثري مع عمتها كما تقتضي التقاليد. وبدلاً من ذلك، تهرب مريم إلى ولاية مطرح، حيث تبدأ حياة جديدة وتكافح بمفردها، وتشتري بالحلي التي أهداها لها زوجها متجرًا لبيع الأقمشة في سوق يحتكره الرجال. هناك، تتعرض مريم لمضايقات من التجار الرجال الذين يرفضون وجودها في السوق، ورغم ارتدائها غطاء الوجه وزيّ النساء الثريات، فإن عملها في السوق يضعها في مرتبة نساء الطبقات الدنيا، وهو ما يزيد الأمر تعقيدًا.
في هذا السياق، تشير الكاتبة إلى أن غطاء الوجه كان يُستخدم كرمز للطبقة الاجتماعية أكثر منه كرمز ديني مفروض على جميع النساء العربيات أو المسلمات. كما تسلّط الضوء على معاناة المرأة من السلطة الأبوية، التي غالبًا ما تُبرر بالقيم الدينية أو التقاليد الاجتماعية، وتأثرها في الوقت نفسه بالظروف الاقتصادية.
من ناحية أخرى، تعيش مريم الأم في صراع داخلي بين التمسك بالتقاليد والرغبة في التغيير. يتجلى هذا بوضوح في تمسكها بتعليم ابنتها فريدة الكتابة، رغم مخاوفها من ردود فعل المجتمع الذي يرى في تعليم الفتاة تهديدًا للنظام الاجتماعي الراسخ. إذ لا تزال تتذكر كلمات زوجها عندما طلبت منه تعليم ابنتهما: "البنات لا يكتبن".
تصل الرواية إلى ذروتها مع فريدة، حفيدة دلشاد، التي تمثل التحولات الفكرية والاقتصادية والتوتر بين الأجيال. إذ تتأرجح هي الأخرى بين طاعة أمها والتمرد على قيود المجتمع. على سبيل المثال، تريد فريدة زوجًا يشاركها الطموحات ورؤيتها للعالم، وليس مجرد رجل ينفق عليها مع مشاعر عاطفية عابرة بين زوجين. حينها تقارن مريم بين زواجها ونظرة ابنتها للزواج الذي يعتقد أنه تم في السبعينيات، وتقول: "تسأل (فريدة) لأنها حرة، أما أنا، وإن لم أولد عبدة، فإن الرجال اتفقوا على زواجي... موافقتي أمر مفروغ منه"، وذلك في إشارة إلى تطور مفاهيم الزواج والعلاقات بين الجنسين داخل المجتمع.
حرية الاختيار والقرار
تواصل فريدة النضال لصياغة هوية المرأة العُمانية على طريقتها الخاصة من خلال التحرر الداخلي والوعي الجديد. وذلك عن طريق اختيار أسماء طفليها "قيس" و"ليلى" كفعل رمزي يُعيد صياغة تاريخ المرأة العُمانية والعربية. فهي تحاول تفكيك الخيال العربي والاستعماري الذي يضع هوية المرأة العربية والعلاقات الجندرية في قالب جامد. إذ أن شخصية ليلى، التي لطالما عُرفت في التراث العربي بالمحبوبة المقهورة تحت وطأة التقاليد الذكورية ولم تتمكن من الزواج من حبيبها قيس، هي الآن ابنة لعائلة عُمانية لديها حرية الاختيار والقرار.
لكن القارئ يواجه تحدي غياب تأريخ الأحداث على امتداد ما يقارب ألف صفحة للرواية بجزأيها، إذ تترك الكاتبة مهمة تتبع الزمن وحسابه للقارئ نفسه. قد يكون هذا النهج منطقيًا، خاصة أن معظم شخصيات الرواية تنتمي إلى فئة البسطاء الذين لا يجيدون القراءة أو الكتابة، ولا تجمعهم علاقة مباشرة بأحداث التاريخ الكبرى.
بالنسبة لهؤلاء، تظلّ التواريخ مجرد خلفية باهتة لا تؤثر بشكل مباشر على تفاصيل حياتهم اليومية. وبدلًا من ذلك، وبدلًا من ذلك، تترك الكاتبة المجال للشخصيات لتروي قصصها بنفسها، مما يساهم في توثيق تاريخ البلوش في عُمان والوجود العُماني في زنجبار شرق أفريقيا، ويعمل أيضًا كوسيلة تعليمية لتفكيك التصورات النمطية حول المرأة.
لهذا، تُعد رواية خلفان جديرة بالقراءة بفضل اتقانها الربط بين الماضي والحاضر، فضلاً عن إبرازها التنوع الثقافي والاجتماعي في عُمان، بعيدًا عن الصور النمطية الشائعة عن المجتمعات العربية والإسلامية.
"دلشاد: سيرة الدم والذهب"
دار تكوين
408 صفحات باللغة العربية
(5 دينارات كويتي) 15.95 يورو
© قنطرة