بلوز فلسطيني
تروي ريم كيلاني أن فيلم "لاتشو دروم" لتوني غاتليف هو التجربة الأساسية في حياتها: "حين قالت إحدى النساء "إنني أحسد كلابكم"، وسمعت الغجريات يغنين، نسيت تماما أين كنت، بكيت وصرخت. من المؤكد أن الناس في السينما ظنوا أنني فقدت رشدي تماما. ولكن في هذه اللحظة أصبح واضحا لدي أن الغجر ونحن الفلسطينيين نغني نفس البلوز. صرت منذ ذلك الحين أذهب إلى خيريز دي لا فرونتيرا كل صيف.
ريم كيلاني متعددة المواهب
سواء بدأت بكانتي جوندو فلسطيني أو غنت واحدة من أغاني الجاز القديمة أو صدحت بأغنية خفيفة بالعربية، أو عقدت مثل حبات اللؤلؤ سلسلة من مقاطع التشاه ـتشاهي بلبلي الفارسية، وسواء ألفت في الموسيقى أو كتبت النصوص، درّست أو أنتجت برامج إذاعية مثل "نغمات بعيدة" المسلسل الناجح المؤلف من ست حلقات لإذاعة بي بي سي 4، حول الثقافات الموسيقية لمجموعات المهاجرين في لندن، تكاد ريم كيلاني المغنية الفلسطينية التي ولدت في مانشستر ونشأت في الكويت تستطيع كل شيء.
في ظهورها في أحدث اسطوانة لعازف الساكسفون الإسرائيلي غيلاد عتزمون("منفى") امتدحها ناقد الجاز البريطاني جون فوردهام من جريدة الغارديان امتداحا شديدا. ورشحت البي بي سي الاسطوانة لجائزة الموسيقى العالمية لعام 2003 . ورغم ذلك لم تنشر ريم حتى الآن ولا ألبوما واحدا خاصا بها. لماذا؟
" لم يكن الربو هو السبب"، تقول ريم مازحة. "فأفضل الإجراءات ضده هما السباحة والغناء، وانا أمارسهما بكثافة." أكثر من ذلك لعبت خلفيتها الثقافية دورا في ذلك. "لا زلت حتى اليوم ألوك قرار أن أصبح مغنية، فالعائلة بالنسبة لي كفلسطينية مهمة جدا."
لقد قاطعها أبواها سنوات طويلة، "رغم أن المغنية الجيدة تحظى في البلاد العربية بالإجلال الحار، ولكن من الأفضل أن تكون إبنة الجيران وليس إبنة المرء نفسه. توضح ريم. "حين تغني إمرأة راشدة بالعربية فإن ذلك أكثر حسية بكثير مما في الموسيقى الأوروبية. لا يستخدم الغناء العربي إلا القليل من الرنين، حيث يغني المرء من جسده مباشرة، كما لو أنه يقلب باطنه إلى الخارج. وهذا يكون للجمهور العربي شديد الإغراء، والمرأة التي تقدم نفسها على هذا النحو لا تكاد تجد رجلا يتزوجها. وهو أمر يصعب على أية عائلة فلسطينية قبوله."
دراسة ـ قرآن – جاز
فضلا عن ذلك ظهرت ريم كمغنية أمام الجمهور وهي في الرابعة من عمرها. في روضة الأطفال في الكويت حيث أقامت العائلة هناك سنتين. تنحدر الأم من الناصرة، الأب فلسطيني من جنين ينحدر من عائلة صوفية محترمة، درس الطب في انكلترة وكان قادرا على إرسال أطفاله إلى مدارس مختلطة الجنسيات.
كان تواجد الثقافتين الأوروبية والعربية إلى جانب بعضهما بالنسبة لريم واقعا يوميا: تعلمت العزف على البيانو على يد معلمة هولندية، تلت القرآن من أوله حتى آخره، وغنت أهم أعمال غيرشفين وعمرها سبع سنوات. "أدهشت حتى عازف البوق غي باركر أثناء أحد التمارين بقطعة رائعة لغيرشفين. لم يكن غي باركر قد سمع القطعة المهمة من قبل. لكننا كنا نملك الاسطوانة في الستينات في الكويت. وكنت أكثر ميلا إلى سماع جون باييز."
ورغم كل الخبرة بالعالم فإن عائلة الكيلاني لا زالت تحافظ على التقاليد الريفية الفلسطينية بما في ذلك الصورة المحافظة للمرأة. " كانت أمي تعد كرات اللبن المجفف المحفوظ في الزيت، أو تحشو ورق العنب بالرز، وتغني خلال ذلك أغاني الأعراس القديمة. بينما كان أبي يروي قصصا عن طرد الفلسطينيين من بلادهم عام 1948 ".
تتذكر ريم. "كان يقول لي دائما، إني لست فتاة حقيقية، وإنما مثل رجل دون شارب. كان أحب إليه لو كنت رجلا، لقد سماني إمرأة قوية." أحست ريم في مجتمع الكويت متعدد الثقافات أنها مواطنة عالمية. وهي تعترف "لم أحب الموسيقى العربية مطلقا، كانت فيروز اللبنانية حسنة. أما أغاني أم كلثوم فقد وجدتها مكررة النغم وطويلة بصورة مرعبة. كنت أفضل الاستماع إلى جون باييز وبوب ديلان".
لم يستيقظ لديها الشعور بأنها تنتمي إلى المهجرين الفلسطينيين إلا وهي في الثالثة عشرة خلال الزيارة السنوية للعائلة في الناصرة حين شهدت عرسا فلسطينيا تقليديا. "كنت فخورة. رأيت النساء يرقصن وفكرت: هذه الموسيقى، هذه الطقوس، هذه هي ثقافتنا. نحن هنا، نحن موجودون على الخارطة. كان بعض النساء في العرس سافرات وبعضهن محجبات، لكن هذا لم يمنعهن من أن يعبرن عن أنوثتهن عبر الموسيقى. وحتى الأمهات البدينات، هاته النساء الفلسطينيات اللاتي تتدلى أثداؤهن حتى خصورهن وهن يزغردن ـ كنت فجأة فخورة بهن، وفخورة بأن أكون فلسطينية. أصبح واضحا لدي في هذه اللحظة أنني سأكون موسيقية وأدرس كل هذه التقاليد في وقت ما."
الغناء أو البيولوجيا؟
إلا أن ريم درست بعد الثانوية في الكويت بايولوجيا السواحل البحرية نزولا عند ضغط الأبوين. وترى ريم وهي تلقي نظرة إلى الوراء أن هذه الدراسة لم تكن عبثا: "بدلا من أن أبحث في الأسماك والروبيان أبحث الآن في الموسيقى العالمية والأغاني التقليدية الفلسطينية وأجري مقابلات مع الأمهات الكبيرات في معسكرات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. التناول المنهجي، النظام، الفضول الذي اكتسبته من علم الأحياء - كل هذا يفيدني كعالمة موسيقى وصحفية.
"إلى جانب الدراسة وخلافا لرغبة الوالدين اللذين كانا يفضلان أن يريا الإبنة في ميناء الزوجية، عملت ريم كمغنية في النوادي العالمية في الكويت. لكنها لم تتخذ قرارها النهائي لصالح الموسيقى إلا بعد حرب الخليج عام 1990/1991 : "كنت في ذلك الوقت في انكلترة للحصول على الدكتوراه، وبقيت عائلتي بعد دخول العراقيين الكويت غير قادرة على المغادرة . لم أعرف طيلة خمسة شهور ما إذا كان أفرادها على قيد الحياة. كان وضعا مرعبا. أصبح واضحا لدي بعد هذا أنني لن أفعل إلا ما أريد حقا. الحياة أقصر من أن نضيّعها في المساومات."
بحث عن الموسيقى الفلسطينية
عادت ريم إلى دراسة الغناء وظهرت في حفلات عامة كثيرة - إلا أن ذلك لم يكن كافيا لتحقيق انتقالة في حياتها. فلكي تحصل على وجبة طعام ساخنة في اليوم على الأقل، قامت بتقديم الحساء لدى جيش الخلاص. ولكن كان أجر الحلقات الدراسية الموسيقية العربية للأطفال والراشدين التي كانت تقدمها في المتحف البريطاني أعلى من ذلك. ولكنها لمست هناك أيضا ماذا يمكن أن يعني أن تكشف عن هويتها الفلسطينية.
"كم قتلت من الإسرائيليين؟" سألها أحد الأطفال، و "لكنك جميلة جدا! وقد ظننا دائما أن الفلسطينين أناس قبيحون!" تابعت ريم رغم ذلك عملها. إضافة إلى الحلقات الدراسية كتبت لإذاعة البي بي سي موضوعات ساخرة من منظور المهاجرات. سافرت عام 1996 إلى لبنان لدراسة الموسيقى الفلسطينية التقليدية في معسكرات اللاجئين الفلسطينيين التي لا زالت تغنى من قبل النساء بالدرجة الأولى:
"تعلمت هناك أغاني قديمة رائعة وجمعت مادة غزيرة، سأضم قسم منها في حلقاتي الدراسية عن الموسيقى العربية والفلسطينية. ولكن المشروع لم ينته بعد. هذه التقاليد تنقل شفويا وحسب، وإذا لم يوثقها المرء قريبا ستضيع نهائيا."
لقاء مع غيلاد عتزمون
إضافة إلى هذا بدأت ريم بالتأليف الموسيقي، أغان خاصة بها، وبين حين وآخر موسيقى لأفلام. ما جمع بين ريم كيلاني وغيلاد عتزمون وفرقة بيت الشرق كان فيلما أيضا. صورت المخرجة الأفريقية الجنوبية جيني مورغان فيلما وثائقيا عن القتال حول معسكر جنين الفلسطيني في النصف الأول من عام 2002، وفاتحت إلى جانب الفلسطينية الإسرائيلي، الذي لم يكن معروفا كموسيقي لامع فقط وإنما كمعاد عنيد للصهيونية أيضا وهو يعيش منذ 1995 في لندن.
تحمس عتزمون جدا لصوت ريم ودعاها لتسجيل قطعتين لاسطوانته التي كانت على وشك الانتهاء. لم يكن أمرا بديهيا لريم كفلسطينية أن تعمل مع يهودي اسرائيلي. إلا أنها وافقت في النهاية، مقتنعة بأن "السلام ممكن فقط حين يبدع الإسرائليون والفلسطينيون معا." حظيت الاسطوانة لدى صدورها في انكلترة في ديسمبر/كانون الأول 2002 بتقريظ متحمس، وكانت الحفلات التي أحيتها ريم كيلاني مذذ ذلك الحين مع غيلاد عتزمون وفرقة بيت الشرق في اوروبا ناجحة جدا.
أما ما إذا كان عتزمون وريم كيلاني سيعملان معا على مدى طويل فهو أمر مفتوح. فغيلاد عتزمون يهتم في الوقت الحاضر بالتانغو، أما ريم فالطلب عليها كمغنية منفردة في تزايد. وعدا هذا فإنها لا تريد أن تستغل سياسيا.
تقول: "لا أريد أن أن يتغلب ما هو سياسي على رسالتي الفنية، يجب أن تتمكن الموسيقى من الوجود وحدها أيضا. هويتي كفلسطينية وكمغنية ترتبطان مع بعضهما ارتباطا وثيقا، موسيقاي هي نوع من البلوز الفلسطيني. لكني أريد أن أتمكن أيضا من غناء أغاني الحب والجاز، وبذلك ينظر إلي بجدية."
، قنطرة 2003بقلم مارتينا صبرا
ترجمة: سالمة صالح