تجاهل متبادل وغسيل دماغ إعلامي

جراء الحرب في غزة تواجه إسرائيل مخاطر اضمحلال ديمقراطيتها في وقت يُنكر فيه أيضا جزء كبير من الصحافة الغربية الخطر المـتأتي من حركة حماس كما يرى الأديب والإعلامي الإسرائيلي آساف غافرون في هذا التعليق.

تعمل يونيت ليفي مذيعة لبرنامج إخباري في القناة الإسرائيلية الثانية، التي تعد الأكثر مشاهدة في إسرائيل. وتتسم ليفي بالجمال والجدية، ما يجعلها "ملكة من ملكات الجليد" المحبوبات وسط المشاهدين الإسرائيليين المتلهف للأخبار، على الأقل حتى الأسبوع الماضي. ثم وضع على إحدى صفحات الانترنت رجاءً لليفي بإنهاء عملها. فهل كان ذلك بسبب تصرفاتها؟

فقد قالت إنه – في ثاني أيام العملية العسكرية في غزة- سيصبح من الصعب على إسرائيل تبرير حرب، قتل فيها 350 فلسطينياً مقابل إسرائيلي واحد فقط (وصل عدد القتلى خلال العملية فيما بعد إلى أكثر من ألف فلسطيني مقابل أقل من عشرة مواطنين إسرائيليين)- وهو في الحقيقة استنتاج منطقي وموضوعي وبسيط.

شتائم واضطراب

ويتهم منتقدو المذيعة الإسرائيلية بان تعابير وجهها أوحت بالتأثر حين أخبرت عن موت مدنيين فلسطينيين. وبعد يومين فقط وقع على الطلب أكثر من 30 ألف شخص. ورافق ذلك توجيه سيل من الشتائم إلى ليفي في الصحف وعلى موقع "مكان القرية الجديد" بشكل خاص، وفي منتديات الانترنت، حيث يمكن لكل شخص أن يعبر عن رأيه بحرية ومن دون الإفصاح عن هويته (إن أغلب الأخبار الحديثة تورد منفردة المئات من المداخلات المنشورة على الموقع الإسرائيلي).

وإن كان هذا مصير مذيعة إسرائيلية محبوبة أظهرت تعابير حزينة على وجهها، فيمكنكم أن تتصوروا ربما حال الذين يطرحون تساؤلات حقيقية حول الحرب، أو أولئك الذين أتوا بالحجج ضدها بصراحة.

كان هنا خلال الأسابيع الثلاثة الماضية الكثير من الغضب وخيبات الأمل. وبعضها يتضح ذاتياً في ضوء حالة الحرب: فأنس أبرياء يُقتلون ويُجرحون، ومنازل تُقصف وتُدمر، والعنف والأعمال العدائية وصلت إلى ذروتها.

الناس قلقون ويعتريهم الخوف. وهم يحملون "الأشرار" على جانب العدو المسؤولية عن كل شيء ويصرون على صحة وجهة نظرهم الخاصة، من دون الاكتراث إلى وجهات نظرهم السابقة، لكنها جميعاً تصر على الخصومة إلى النهاية.

كان وما يزال يجب احتمال كل ذلك بمأساوية. كما أن هذا الوضع ليس سوى جولة جديدة في الدورة، التي يجب علينا نحن الإسرائيليين والفلسطينيين (وجيراننا) أن نعتاد عليها طوال حياتنا.

لكني أجد أن من المحزن والمخيف بشكل خاص، هو ذلك التجاهل على الجانب الإسرائيلي تجاه أصوات، لا تريد أن تتبع "جوقة المحاربين" العامة، وتجاه الذين شككوا في العملية أو رفضوها، نعم بل وحتى لم يُسمح لإجراء نقاش حول مغزى هذه الحرب.

غسيل دماغ إعلامي

من المؤكد أن كلمة "غسيل دماغ" قاسية للغاية، لكن لا تكاد توجد كلمة مناسبة للتعبير عن كيفية تصوير الحرب في وسائل الإعلام التقليدية: فلم تُعرض صور القتلى الفلسطينيين والدمار في غزة وحُملت حماس وحدها مسؤولية الضحايا المدنيين على الجانب الفلسطيني. وكل الخبراء الذين دعوا لاستوديوهات التلفزيون، يدافعون عن رؤية وطنية موحدة ويمجدون عمليات قوات الجيش الإسرائيلي. أما الآراء النقدية أو المغايرة فلم تُبث على الإطلاق.

أما المظاهرات المعارضة بالحرب فلم ترد إلا في الصفحات الأخيرة من الصحف أو في نهاية الأخبار، إن حالفها الحظ. كما أن ذكرها أخذ يقل مع مرور الوقت وتعرض بطريقة هزلية تقريباً. وخلال ذلك تم تصوير معارضي الحرب كحفنة من المخابيل الضالين، مع تخصيص وقت أطول لإظهار الناس الذين يشتمون هؤلاء المتظاهرين (حتى وإن كانت التظاهرة تجمع أكثر من 10 ألف شخص).

أجواء- "لا تزعجنا، نحن منشغلون بإطلاق النار!"

وعلى عكس ذلك استحوذت على اهتمام كبير القصص الوطنية عن إسرائيليين، يقدمون الحلوى للجنود وعن أشخاص يساعدون الضحايا المصابين بالهلع جراء سقوط الصورايخ. إن تأثير أجواء –"لا تزعجنا، نحن منشغلون بإطلاق النار!" كانت طاغية بشكل كبير: ففي استطلاع للرأي نشر مؤخراً قال 78 في المائة من الإسرائيليين (وهو ما يقارب عملياً جميع اليهود في إسرائيل)، إن العملية العسكرية كانت "ناجحة".

واجد أن من الغريب أن تُعتبر العملية العسكرية ناجحة، حتى إن تم بعد قرابة ثلاثة أسابيع من القصف وبعد قتل أكثر من 1000 فلسطيني وجرح عدة آلاف آخرين ومن فقدوا منازلهم ويجب أن يبقوا على قيد الحياة الآن من دون كهرباء وماء وغاز، وما تزال تطلق مجاميع من الصواريخ على إسرائيل يومياً.

هل يسمى هذا نجاحاً، إن كان بين الضحايا أكثر من 300 طفل؟ وهل يُسمى هذا نجاحاً، إن قُتل في الأسبوع الأول من العملية أربعة مدنيين إسرائيليين، بعد أن كان عدد الضحايا الإسرائيليين طوال العام السابق لذلك شخصاً واحداً فقط؟

ازدراء غير متساو تجاه إسرائيل

وفيما يتعلق بالاحتجاجات العالمية على إسرائيل، يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الأمور التالية. أعتقد تمام الاعتقاد أن على إسرائيل أن توضح كيف تريد أن تبرر الطريقة التي تمت بها هجماتهم ونسبيتها. إضافة إلى ذلك يجب أن يقام حساب لمدى تحقيقها للأهداف التي وضعتها للعملية وأين تكمن هذه الأحداث على الإطلاق.

لكن يظهر هنا مرة أخرى تجاهل وعدوان لا يمكن وصفها سوى كوقع الصاعقة، ومحبطة كذلك لإسرائيلي، ينتقد حكومته وجيش بلده والرأي العام، لكنه يدل على أي تعليقات قدمها عن بلده. وهنا بدأ واضحاً في هذه الإثناء مقدار كبير من ازدراء غير متساو وغير محايد ومضحك بعض الشيء تجاه إسرائيل.

ومثال على ذلك نأخذ تعليقاً نشر في صحيفة الغارديان البريطانية في 29 كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي، دار الحديث فيه بشكل صريح عن مذبحة، من دون ذكر كلمة واحدة عن أسباب الهجوم الإسرائيلي.

وبشكل نفسه لم يتم التطرق إلى غباء قيادة حركة حماس –بشكل مفهوم أو غير مفهوم- إلا قليلاً، وهي التي ساهمت بشكل حاسم في حدوث هذا التصعيد. ويمكن أن نورد مثالاً من تعليق آخر في الصحيفة ذاتها، طالبت فيه كاتبة مرموقة بمقاطعة إسرائيل اقتصادياً، لكنها توقع في الوقت ذاته عقداً مع احدى دور النشر الإسرائيلية (كيف يمكن توظيف هذا؟)

ضرورة وجود رؤية مختلفة

إن هذا التأرجح بين النقد الجارح لأفعالنا في بلدنا وبين الشعور بدفعنا إلى الوطنية واتخاذ موقف المدافع أمام النقد غير المشروع والمتأتي من جهة خارجية، يولد هذا كله إحساساً في أنني ألفت تماماً محاولتي في الوصول إلى رؤية مغايرة للأشياء.

واليوم يتجه المؤشر نحو مخاوفي. فكلما أفكر في قصة يونيت ليفي، يتضح لي أنها كان لها أن ربما أن تكون قصة كوميدية للغاية، لولا أنها حزينة بشكل، كما أنها تشكل مثالاً حياً على تلك المخاطر، التي تهدد ديمقراطيتنا التي استحالت هشةً.

وإن لا يتمكن الناس من الصبر لأكثر من ذلك، من أجل الاستماع لبعضنا البعض، وإن وصلوا إلى هذا القدر من العدوانية، فإننا سوف لا نهدم الطريق إلى الهدوء والسلام في المنطقة فحسب، بل سنفقد أيضاً طموحاتنا في مجتمع ديمقراطي وسليم ومدني.

ولا أتحدث هنا عن المستقبل البعيد، بل عن أسبوع واحد، إذ لم تقرر اللجنة المركزية للانتخابات إلا قبل أيام قليلة، منع حزبين عربيين، بلاد وحزب تعال المنتمي إلى القائمة العربية الموحدة من المشاركة في الانتخابات القادمة في 10 شباط/ فبراير. وليس من باب المصادفة أن يتم اتخاذ هذا القرار في هذا الوقت، الذي تستعر فيه الحرب وما لذلك من أجواء، وليس في السنوات الماضية، التي شارك بها الحزبان في العديد من الانتخابات وجلس نوابها البرلمان الإسرائيلي.

لقد تعودنا أن نخشى على حياتنا، لكن الخوف على الديمقراطية، كما كان علينا أن نعيش في الأسابيع الماضية، وهذا شعور، لم أعرفه إلا الآن.

آساف غافرون
ترجمة: عماد م. غانم
حقوق الطبع: قنطرة 2009

ولد آساف غافرون عام 1968 وترعرع في القدس ويقيم اليوم في تل أبيب. درس في لندن وفانكوفر . أصدر عددا من الأعمال الأدبية التي تصدرت قوائم أكثر الكتب مبيعا في بلاده.

قنطرة

حوار مع الكاتب الإسرائيلي آساف غافرون:
لعبة كمبيوتر في خدمة السلام
وضع الكاتب الإسرائيلي آساف غافرون نصوص لعبة كمبيوتر تحمل اسم "صانع السلام" في محاولة منه لتعزيز رؤية السلام في الشرق الأوسط. غافرون عرض كذلك في روايته "اغتيال جميل" وجهات نظر غير معتادة بسبره غور العالم الداخلي الخاص بشخص إسرائيلي وقع ضحية الإرهاب وبشخص انتحاري فلسطيني. أريانا ميرزا تحدَّث مع هذا الكاتب الإسرائيلي.

رواية آساف غافرون "اغتيال جميل"
عين على تراجيديا الإرهاب
الأديب الإسرائيلي آساف غافرون في روايته "اغتيال جميل" يروي قصة إسرائيلي نجا بأعجوبة من ثلاث عمليات انتحارية، كما يصور في روايته هذه أيضا حياة فلسطيني وقع ضحية التطرف والتفكير بالقيام بعملية انتحارية. فولكر كامينسكي يعرض لنا هذه الرواية.

إسرائيل والسياسة الأمريكية الخارجية:
"يجب حماية إسرائيل من قوّتها"
يرى عالم الاجتماع الإسرائيلي ليف غرينبيرغ أنَّ الساسة الإسرائيليين طالما نظروا بسياساتهم إلى الولايات المتَّحدة الأمريكية ولهذا السبب بدأت الحرب الإسرائيلية على غزة في فترة اقتراب تنصيب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة. والآن توجب عليه الضرورة القصوى أن يحمي إسرائيل من قوَّتها.