تمهيد طريق حوار الثقافات بالموسيقى

 أوركسترا الديوان الغربي الشرقي بقيادة دانييل بارينبويم، الذي أسَّس هذه الأوركسترا مع إدوارد سعيد في عام 1999.
أوركسترا الديوان الغربي الشرقي بقيادة دانييل بارينبويم، الذي أسَّس هذه الأوركسترا مع إدوارد سعيد في عام 1999.

كيف يكشف إدوارد سعيد أثر الاستعمار في تشكيل النظرة "الغربية" إلى أساليب العالم الموسيقية؟ موضوع تناولته أكاديمية بارينبويم-سعيد بألمانيا في ذكرى وفاة إدوارد الـ20. متابعة جيداء نورتش لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: جيداء نورتش

لقد كان تكريمًا لمثقَّف من أكثر المثقَّفين تأثيرًا في أواخر القرن العشرين، وتقديرًا لصداقة بين سفيرين من سفراء السلام، أدَّى تعاونهما المثمر إلى ولادة مشروع فريد من نوعه في التفاهم بين الشعوب. افتتحت أكاديمية بارينبويم-سعيد في برلين وقاعة بيير بوليتس موسمهما الموسيقي لعامَيْ 2023/ 2024 في السادس والعشرين من آب/أغسطس 2023 بفعالية "أيام إدوارد سعيد" لهذا العام 2023، وذلك بالتزامن مع الذكرى العشرين لوفاة الفلسطيني الأمريكي أستاذ الأدب إدوارد سعيد.

كيف أثَّر الاستعمار وتداعيات المواجهات الاستعمارية في تشكيل النظرة "الغربية" إلى الأساليب الموسيقية في أجزاء أخرى من العالم؟ وكيف يتوافق فنُّ أداء يوكو أونو مع أفكار ومفاهيم إدوارد سعيد؟ وكيف يساعد مفهومه عن "الطِّبَاق" الموسيقي في فهم تمثيل ممارسة الأداء التبشيري المسيحي في اليابان في القرن السادس عشر؟

العلاقة بين الاستعمار والموسيقى

تناول الباحثون والباحثات في محاضرات وحلقات نقاش خلال الندوة التي استمرت يومين في برلين مثلَ هذه الأسئلة حول العلاقة بين الاستعمار والموسيقى - وكلاهما يمثِّلان جانبين أساسيين في أعمال إدوارد سعيد. تم تنظيم هذه الفعالية من قِبَل ريغولا راب، وهي مديرة أكاديمية بارينبويم-سعيد، وكذلك من قِبَل أستاذ علم الموسيقى والتأليف جيمس هيلغيزون.

يُعتَبر كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" -الصادر في عام 1978 والمترجَم إلى ثلاثين لغة- واحدًا من أكثر الكتب الموضوعية تأثيرًا وقراءةً في التاريخ الأكاديمي الحديث. يحلِّل إدوارد سعيد في هذا الكتاب باستخدام أساليب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو النظرة الأوروبية إلى مجتمعات الشرق الأوسط والشعور الغربي بالتفوُّق وتكوين شرق بشكل لم يكن موجودًا قطّ.

ريغولا راب، مديرة أكاديمية بارينبويم-سعيد. Prof. Dr. Regula Rapp, Rektorin der Barenboim-Said-Akademie. (Foto: Peter Adamik)
„Die Barenboim-Said Akademie entstand aus der engen Freundschaft zwischen Edward Said und Daniel Barenboim heraus, deren Traum von einem Konservatorium, das musikalische Ausbildung mit einem fundierten geisteswissenschaftlichen Unterricht in Philosophie und anderen Fächern verbindet, durch die Gründung der Akademie Wirklichkeit wurde“, so Regula Rapp, Rektorin der Barenboim-Said-Akademie.

ولكن إدوارد سعيد كان أكثر من مجرَّد صوت ناقد بارز. فقد كان -بصفته خبيرًا يتمتَّع بمعرفة عميقة في الموسيقى والأدب والفلسفة والسياسة- بحسب تعبير دانيال بارينبويم: "واحدًا من الأشخاص المميَّزين الذين يعرفون الروابط وأوجه التشابه بين التخصُّصات المختلفة. وأدرك أنَّ أوجه التشابه والمفارقات لا تُشكِّل تناقضات".

وإدوارد سعيد -الذي درس الموسيقى في مدرسة جوليارد وكان ناقدًا موسيقيًا مرموقًا- نقل أساليب التفسير من الأدب إلى تخصُّصات أخرى مثل التاريخ والموسيقى. ولذلك فإنَّ مناهجه النظرية تعتبر مصدر إلهام مهمًا للباحثين المختصين في الموسيقى، الذين يناقشون موضوع التبادل ضمن سياق الاتصالات الاستعمارية والإمبريالية التاريخية والمعاصرة.

الأندلس نموذجًا للتعايش

أكَّد البروفيسور داغ نيكولاوس هاسه من جامعة فورتسبورغ الألمانية على التوجُّه الرئيسي لكل من هذا التركيز الأكاديمي وعمل أكاديمية بارينبويم-سعيد، مستندًا في ذلك إلى رؤية إدوارد سعيد للأندلس. وقال إنَّ إدوارد سعيد رأى في تاريخ إسبانيا الإسلامي واليهودي والمسيحي نموذجًا للتقاليد والإيمان. وحذَّر في الوقت نفسه من جعل الأندلس الجنة المثالية المفقودة.

وفي بحثه في الجوانب التي يمكن في الواقع أن تُستخدَم في المستقبل كنماذج للمدن المتعدِّدة الأعراق - قال داغ نيكولاوس هاسه باختصار: "ثمة شيء فقدناه نحن في الأندلس. ويبدو لي أنَّ هذا هو الدرس الأهم من الماضي". وأضاف أنَّ نموذج الأندلس والشرق الأوسط العثماني أظهرا أنَّ تقاليد الاحترام الروتينية مهمة ويمكن تطبيقها. وقال: "هذا هو التشجيع. وقد نجح في ذلك العصر. نحن يمكننا أن نعمل على التعايش - سواء في أعلى أشكال ثقافاتنا أو في حياتنا اليومية. ويمكننا أن نتعلم ذلك من الأندلس ومن إدوارد سعيد".

اللقاء مع الآخر

يعتبر اللقاء مع الآخر جانبًا أساسيًا في عمل إدوارد سعيد؛ الذي يقدِّم الطريقة المنهجية لذلك، أي المفهوم الموسيقي للـ"طِبَاق"، وهو مزيج من عدة أصوات مستقلة عن بعضها لحنيًا وإيقاعيًا ولكنها مرتبطة مع بعضها بشكل متناغم - نقله إدوارد سعيد إلى مجالات أخرى خارج الموسيقى، مثلًا إلى وصفه حياة شخص مَنْفِي.

وعلى أساس هذا المفهوم تساءل ماكوتو هاريس تاكاو من جامعة إلينوي الأمريكية عن تمثيل ممارسات الأداء التبشيري اليسوعي في اليابان خلال القرن السادس عشر. ووجدت في المقابل بريغيد كوهين من جامعة نيويورك أوجه تشابه مع فكر إدواد سعيد في فن أداء الفنانة اليابانية يوكو أونو، مثلًا في عرضها "قطعة مقطوعة" (1964 Cut Piece)، الذي تم تفسيره على أنَّه احتجاج على قصف هيروشيما ومواجهة الجمهور المتفاعل بجسد يوكو أونو الآسيوي؛ ذلك العرض "الذي لم يعرفوا ماذا يقولون عنه"، بحسب تعبير يوكو أونو.

وبناءً على أساس نظرية إدوارد سعيد عن ما بعد الاستعمار ناقشت محاضرات أخرى موضوعات الاستحواذ الثقافي والتمثيل والتأثير المتبادل مع أخذ القاهرة كمثال، وكذلك تحليل التقنيات الموسيقية في أفريقيا ما قبل الاستعمار وتركيز إدوارد سعيد على الأوبرا.

وفي محاضرته الختامية، دعا كوفي أغاو، وهو أستاذ متميز في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك، الباحثين في الموسيقى إلى التركيز على الموسيقى الفنية الأفريقية التي تمثِّل مجالًا ما يزال مجهولًا ومليئًا بإمكانيات الاكتشاف.

وتم اختتام يومَيْ هذه الاحتفالية بحفلين موسيقيين أقامتهما أوركسترا الديوان الغربي الشرقي بقيادة دانييل بارينبويم، الذي أسَّس هذه الأوركسترا مع إدوارد سعيد في عام 1999.

 

 

أوركسترا الديوان الغربي الشرقي: من تجربة إلى مستوى عالمي

كانت الصداقة بين الباحث الأدبي الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد، المولود عام 1935، وبين عازف البيانو وقائد الأوركسترا الأرجنتيني الإسرائيلي دانييل بارينبويم، المولود عام 1942، صداقةً قصيرةً ولكنها قوية وذات تأثير كبير. وكانا كلاهما على قناعة بأنَّ السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين أمر ممكن وبأنَّ الموسيقى بالذات تُمهِّد طريق الحوار بين الثقافات.

لقد حافظا على تبادل ثقافي حيوي وعلني أيضًا حول الفن والسياسة ومفارقات الحياة وأوجه التشابه فيها حتى وفاة إدوارد سعيد في عام 2003، وقد تجلى هذا التبادل وحلمهما المثالي المشترك في تأسيسهما أوركسترا الديوان الغربي الشرقي (WEDO) للموسيقيين العرب والإسرائيليين الشباب.

وهذا المشروع الذي بدأ في عام 1999 كتجربة في "الاستماع المتبادل" أصبح الآن أوركسترا مشهورة عالميًا تعزف في أكبر دور الأوبرا والصالات - مثل قاعة ألبرت الملكية في لندن وفي مهرجان سالتسبورغ - من دون أن تغيب عن بالها رسالتها.

 

 ناقش كلّ من الدكتور ماكوتو هاريس تاكاو (من جامعة إلينوي) والأستاذة الدكتورة بريغيد كوهين (من جامعة نيويورك) والدكتورة كلارا فينتس (من جامعة فورتسبورغ) والأستاذ الدكتور جيمس هيلغيزون - موضوع الموسيقى ضمن سياق الاتصالات الاستعمارية العالمية. Über Musik im Kontext globalen kolonialen Kontakts diskutierten Dr. Makoto Harris Takao, University of Illinois, Prof. Dr. Brigid Cohen, New York University, Dr. Clara Wenz, Universität Würzburg, Prof. Dr. James Helgeson. (Foto: Peter Adamik)
Über Musik im Kontext globalen kolonialen Kontakts diskutierten Dr. Makoto Harris Takao, University of Illinois, Prof. Dr. Brigid Cohen, New York University, Dr. Clara Wenz, Universität Würzburg, Prof. Dr. James Helgeson.

 

"نحن مقتنعون بأنَّ مصير هذين الشعبين -الشعب الفلسطيني والشعب الإسرائيلي- مرتبط ارتباطًا وثيقًا وأنَّ من واجبنا -جميعنا- أن نجد طريقًا للتعايش معًا. وذلك لأنَّنا إمَّا أن يقتل بعضنا بعضًا أو نتعلم كيف نتقاسم ما يمكن تقاسمه. نحن جئنا إليكم اليوم بهذه الرسالة"، كما قال دانيال بارينبويم في حفل لأوركسترا الديوان الغربي الشرقي في مدينة رام الله الفلسطينية عام 2005.

المثلث الأخلاقي الموسيقي

وبهذا المعنى تأسَّست في عام 2015 أكاديمية بارينبويم-سعيد؛ وهي معهد موسيقي يتلقى فيه الموسيقيون الموهوبون -وخاصةً من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا- تكوينهم المهني، وتُولي أهمية كبيرة للتعليم الشامل بما فيه العلوم الإنسانية أيضًا.

تم منح دانيال بارينبويم وإدوارد سعيد جائزة أمير أستورياس في عام 2002 تقديرًا لجهودهما من أجل المصالحة الإسرائيلية الفلسطينية. وفي عام 2016، كانت أوركسترا الديوان الغربي الشرقي أوَّل أوركسترا تم تعيينها من قِبَل الأمم "كمدافع عالمي للأمم المتحدة عن التفاهم الثقافي".

وقد أوضحت الباحثة كلارا فينتس من جامعة فورتسبورغ في محاضرتها خلال احتفالية أيام إدوارد سعيد أنَّ أكاديمية بارينبويم-سعيد تمثِّل ضمن سياق تاريخي أكبر لقاءً من عدة لقاءات عربية يهودية في برلين. وبناءً على ذلك فإنَّ أكاديمية بارينبويم-سعيد تتبع تقليد حوار وأماكن لقاء في برلين مثل شركة الإسطوانات اللبنانية بيضافون أو بار الشربيني، وهو نادٍ خاص بموسيقى الجاز كان يعزف فيه موسيقيون مصريون ومكان لقاء للبوهيميين في برلين خلال عشرينيات القرن العشرين، وبالتالي فإنَّ هذه الأكاديمية تزدهر في مثلث أخلاقي وكذلك موسيقي.

 

 

جيداء نورتش

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de