أزياء الشرق في الغرب - روايات منسية
مقتطفات من كتاب "نساء مصريات حديثات والموضة والإيمان: خطابات وتمثلات" للباحثة أماني الصيفي والذي تَقرَّرَ صدوره باللغة الإنكليزية في شهر نوفمبر / تشرين الثاني 2023 عن دار نشر بلغراف ماكميلان بلندن.
Modern Egyptian Women, Fashion and Faith: Discourses and Representations
عندما نتحدث عن الموضة والحداثة والمرأة، يتبادر إلى ذهن القارئ عادةً الثقافة الغربية الاستهلاكية الحديثة وتأثيرها على "تحرير" و"تحديث" المرأة في المجتمعات الشرقية. ولكن نادرًا ما نفكر في تأثير الثقافات الشرقية على نموذج الموضة في الغرب وما يعنيه ذلك بالنسبة للمرأة في المجتمع الغربي. في هذا المقال، سنستعرض عددًا من اللحظات التي يتقاطع فيها الثقافتان الشرقية والغربية فيما يتعلق بالموضة والمرأة.
يرى مؤرخو الأزياء أن مفهوم "الموضة، والذي يعني أن فئة واسعة من الناس تتبنى نمط ملابس سائدًا لفترة قصيرة نسبيًا، قد بدأ خلال العصور الوسطى وانتشر على نطاق واسع في القرون اللاحقة. وقد جاءت شعبية مفهوم "الموضة " في سياق العديد من القوى الثقافية والسياسية والاقتصادية المتشابكة، حيث يربط المؤرخون ظهور الاهتمام بـ" الموضة " بظهور الرأسمالية، إذ ربطت الرأسمالية المبكرة بين زيادة التجارة ونمو المدن وبداية انهيار المجتمع الهرمي في عصر النظام الإقطاعي وصعود الطبقة البورجوازية.
في هذا المجتمع في عصر النهضة، سعت الطبقة الوسطى الثرية إلى المنافسة مع الطبقة الملكية الأرستقراطية التي كانت الطبقة الوحيدة التي تتبنى مفهوم الموضة والأزياء الفخمة. ارتدت الطبقات الوسطى ملابس أنيقة تقلد الطبقات الارستقراطية ولكنها كانت أقل فخامة.(نيسروم 1928 ؛ ويلسون 2003).
كما تعتبر التجارة بين المجتمعات الشرقية والغريية من أهم العوامل التي ساهمت في تطور مفهوم " الموضة" في أوروبا.
على الرغم من الاعتقاد السائد بأن "الموضة" قد نشأت وتطورت في الغرب، إلا أن الالتقاء الثقافي مع الشرق أثر بشكل كبير على تطورها "الموضة" في الغرب منذ القرن الحادي عشر كما يؤكد العديد من الباحثين في تاريخ "الموضة"، فتتناول العديد من النصوص الأدبية فيما يعرف بـ Crusade Literature حول الحملات الصليبية التي جرت في الفترة من 1095 إلى 1100 كما في مقال "Fashion in French Crusade Literature: Desiring Infidel Textile أو الأزياء في الأدب الصليبي الفرنسي: رغبة في الأقمشة الكافرة (2002) للباحثة سارة غريس هيلر وهي رئيسة قسم اللغة الفرنسية والإيطالية تعمل كمديرة ونائبة المدير لمركز الدراسات الوسطى والنهضة في جامعة ولاية أوهايو.
حين شهدت الموضة التركية رواجا في أوروبا
في مقالها -السابق الذكر- ترصد هيلر أثر الالتقاء الثقافي أثناء هذه الفترة ممثلا في إعجاب الكتاب والجمهور الأوروبي بالأقمشة الفاخرة والملابس الشرقية. فقد انغمس الأوربيون في استهلاك سلع شرقية متنوعة، وخاصة الحرير الذي كان يقتصر على النبلاء ورجال الكنيسة. وعلى الرغم من القوانين التي حاولت منع التشبه بالأزياء الشرقية الأنيقة -خاصة فيما يخص الطبقات الاجتماعية الدنيا- فقد أصبح الشغف بالأزياء الشرقية سمة للطبقة البورجوازية الأوروبية خلال القرن السابع عشر عندما ظهر أثر الموضة التركية على المجتمع الأوروبي خلال هذه الفترة، حيث انتشر الهوس بتقليد كل ما هو تركي في غرب أوروبا فيما يعرف بـ Turquerie.
وفي فرنسا خصوصا شهدت الموضة التركية شعبية غير مسبوقة بعد تعيين أول سفير عثماني في باريس، ، سليمان آغا، في عام 1666 فظهر التأثير التركي في اللوحات الفنية للنساء الأوروبيات الأنيقات خلال هذه الفترة، حيث يظهرن يرتدين الثياب التركية وغطاء الرأس الذي أصبح أيضًا يمثل الزي الباريسي الأنيق كما في لوحات شهيرة مثل "فتاة ترتدي أقراط من اللؤلؤ" للفنان الهولندي يوهانس فيرمر (1675-1632)Girl with a Pearl Earring والسيدة هورتون، السيدة الفيكونتيسة ماينارد في وقت لاحق (توفيت 1814/15) للفنان البريطاني جوشوا رينولدز (1723-1792) Mrs. Horton, Later Viscountess Maynard
نرى التأثير التركي في وضع المرأة الغربية من خلال الأزياء مع ظهور أكثر الحركات النسائية أهمية في الغرب الحديث "في القرن التاسع عشر، إذ بدأت العديد من النساء الأوروبيات المدافعات عن حق المرأة انتقاد زيهن" الفستان والمشد" المقيد لحركتهن وموقعهن في المجتمع.
كانت حركة إصلاح الزي في أوروبا مستوحاة بشكل رئيسي من كتابات الناشطة الأمريكية أميليا بلومر (1818-1894). سعت بلومر إلى تغيير الزي الأوروبي الأنيق والمقيد وغير الصحي للنساء إلى زي مريح وعملى حديث ليتماشى مع موقف نسوي يطالب بمشاركة المرأة في المجال العمومي وتحدي المعايير الجندرية في المجتمعات الغربية التي تقيد المرأة للعمل المنزلي.
كان زي بلومر يتألف من قميص وتنورة قصيرة فوق زوج من السراويل مستلهما من زي النساء التركيات خلال هذه الفترة (السروال الذي كان منتشرا في الامبراطورية الإسلامية منذ احتكاكها مع الامبراطورية الفارسية، التي يعود إليها أصل كلمة "سروال"، كان يتأرجح بين الترويج لارتدائه تحت الملابس كرمز للحشمة، والنبذ أحيانًا عندما تستحدث النساء موضات تتطلب تقصير الزي فوق السروال ليتألق جمال السروال أو الحذاء). واجه هذا الزي –زي بلومر النسوي- المعارضة واستُقبل بالسخرية كخطوة رمزية نحو تبني الموضة التركية التي تعني جرأة المرأة وتخليها عن المعايير الأوروبية للأنوثة.
ومن الجدير بالذكر هنا أن ارتداء السروال التركي أطلق عليه "سروال الحريم" حيث أصبح مفهوم "الحريم" يرمز إلى قمع المرأة المسلمة ابتداءً من الربع الأخير من القرن التاسع عشر في الكتابات والرسومات الاستشراقية إلا أن الزي التركي" الحريم " في النصف الأول من القرن التاسع عشر كان يرمز للمرأة الأوربية المتحررة التي خرجت عن السلوك الأنثوي والنموذج الأخلاقي السائد كما نرى في الكاريكاير الشهير: مرحبًا! الأتراك في غوثام ( الاسم القديم لنيويورك ) !Halloo! Turks in Gotham!.
في الصورة الكاريكاتورية من عام 1851 تسخر الجريدة من الزي الجديد لبلومر فيصور الكاريكاتور امرأة غربية تمشي تحت مظلة وفي أعلى المظلة هلال يرمز إلى الثقافة التركية. تظهر في الكاريكاتور كذلك المرأة تمسك بين أصابعها سيجارًا كرمز لسلوك غير مرغوب فيه وغير أنثوي خلال العصر الفكتوري كما يؤكد الرسام من خلال التشديد على صفة "جريئة" لوصف المرأة المرتدية لمثل هذا الزي الشبية بزي المرأة التركية . كتب تحت الكاريكاتور ما يمكن ترجمته: "السيدة تركي بعد حضورها محاضرة السيدة أوكس-سميث حول الزي التحرري، تقرر فورًا أن تتبنى الموضة الجديدة، ولكي تفعل ذلك بمزيد من الحماس ، ترغب في أن ينضم السيد تركي إليها في هذه المحاولة الجريئة".
على الرغم من أن حركة "بلومر" النسائية لم تحشد زخمًا في البداية إلا أن المصادر التاريخية تؤكد أن بعض النساء في المجتمع الأمريكي اعتنقنها، خصوصًا من خلال الزي العملي لحياة حضرية حديثة سريعة، تم سرعان ما تم تبني أشكال متنوعة من زي "البلومر" أيضًا من قبل النساء الشابات المهتمات بالرياضة، وخاصة الممارسات لرياضة ركوب الدراجات، والساعيات لتبني نمط الحياة الصحي .كما ازدادت هذه الشعبية لزي بلومر بفضل انتشار المعلومات حول الأزياء المعاصرة في مجلات النساء، واختراع التصوير الفوتوغرافي في الأربعينيات من القرن التاسع عشر علاوة على ظهور المجتمع الاستهلاكي الحديث ومولات التسوق الكبيرة التي رأت النور أولاً في المدن العالمية في أوروبا.
ارتداء المرأة للسروال من أهم تغيرات ثقافة المجتمع الغربي
يعتبر العديد من الباحثين أن ارتداء المرأة للسروال يعد أحد أهم التغيرات الثقافية في المجتمع الغربي، والحديث تجاه ظهور جسد المرأة في المجال العمومي حتى القرن العشرين، فقد كانت السراويل تُعتبر بشكل رئيسي رمزًا لتدنى أخلاق للنساء أو الطبقة الاجتماعية الأدنى.
فالسراويل كانت ترتديها الممثلات والراقصات أو النساء من الطبقة العاملة واللائي كان عليهن أن يكسبن قوتهن من خلال وظائف شاقة، على سبيل المثال في المصانع أو المناجم.
كان ارتداء السراويل من قبل النساء الأوروبيات مقبولا فقط على الشاطئ أو في الملاعب الرياضية أو لأغراض الترفيه حتى بعد الحرب العالمية الثانية. نعم، ارتداء النساء للسراويل يعد من أهم القضايا التي ناضلت من أجلها النساء في الديمقراطيات الأكبر والأكثر ثورية للدفاع عن المساواة بين الجنسين ولكن سيكون من الساذج إن اعتقدنا أن ارتداء السروايل قد حقق للمرأة حقوقا متساوية مع الرجل. وعلى الرغم من الإشارة إلى التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لم تعكس تغييرات قواعد اللباس بالضرورة التغيرات الجذرية في مكانة المرأة وحقوقها المتساوية في المجتمع الأوروبي المتحضر الحديث.
وعلى الرغم من أن النساء الأوروبيات سعين لتحقيق الحقوق الاجتماعية والسياسية في الساحة العامة خلال القرن الثامن عشر، ولا سيما عقب الثورة الفرنسية التي دافعت عن القيم الليبرالية مقابل القيم الدينية الاستبدادية، مع كتاب
Mary Wollstonecraft's Vindication of the Rights of Woman (1792)
فقد ظلت النساء الأوروبيات تحت وصاية آبائهن أو أزواجهن خلال القرن التاسع عشر. كان تبعيتهن مستندة إلى القوانين المتأثرة بالقانون المدني النابليوني لعام 1804 كما تشير الباحثة أوتا غيرهارد في مقالها المترجم للعديد من اللغات "حقوق المرأة في القانون المدني في أوروبا القرن التاسع عشر.
Women's Rights in Civil Law in Europe (nineteenth century)
في الواقع، لم تتمكن النساء الأوروبيات من تحقيق حقوقهن المدنية المتساوية في العديد من البلدان الأوروبية حتى القرن العشرين، على الرغم من التنوع في مواقف البلدان الأوروبية تجاه الأديان والقوانين والقيم الدينية.
تلك الإنجازات النسوية وحقوق المرأة نتجت عن نضال النساء الأوروبيات ضد القوانين الذكورية والمناهضة للمرأة، وليس بسبب إنشاء نظام سياسي علماني جديد أو مجرد تبني النساء للأزياء العصرية (ويلسون 2003؛ برايدوتي 2008؛ غيرهارد 2018). ومع ذلك، يجب علينا أن نتذكر -كما تشير الباحثة في مجال الموضة إليزابيث ونسلون- أن المرأة التي تعتقد أنها تساوي الرجل لأنها ترتدي السروال، يجب أن تتذكر أنها تساوت معه بحسب معاييره. ومع ذلك، يجب ألا نغفل أن تاريخ السروال وارتباطه بالرجل دون المرأة هو تاريخ معقد وطويل اختلف بحسب الحقبة التاريخية والسياق الاجتماعي حتى وإن ارتبط في ذهن القارئ بالرجل الغربي الحديث والمرأة الغربية العاملة خصوصًا.
أماني الصيفي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023
[embed:render:embedded:node:43426]