اختلال توازن الخطاب الألماني حول حرب غزة
انفصل النقاش الألماني حول الحرب في الشرق الأوسط عن النظرة الدولية إلى الصراع. وبات يتعرَّض الصحفيون والعاملون في مجال الثقافة والمؤسَّسات والسياسيون الألمان الذين يعملون في السياقات الدولية لضغوطات -تزداد بشكل يومي- من أجل مطابقة المواقف.
وبينما توجد مساعٍ في بقية دول العالم إلى تعزيز المواقف التصالحية والمدروسة فإنَّ أية تصريحات تهدف إلى الاعتدال هنا في ألمانيا صارت تتعرَّض للتشويه والسخرية والتجاهل. وأصبح يجب علينا تقريبًا أن نشعر بالامتنان لأنَّ وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك امتلكت الشجاعة للحديث عن فتح "نوافذ إنسانية" في الاجتماع الأخير لمجلس الأمن الدولي؛ ولأنَّها امتنعت عن التصويت على قرار الأمم المتحدة الداعي إلى وقف إطلاق النار.
فلو أنَّها قد تحدَّثت عن "فتحات إنسانية" أو حتى عن "ثقوب إنسانية" بدلًا من الحديث عن وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية لما كان ذلك سيبدو غريبًا بالنسبة لأي شخص في ألمانيا. ولكن حتى هذا الموقف الإنساني البسيط للغاية من جانب الوزيرة كان أكثر من اللازم بالنسبة لصانعي الرأي في جمهورية ألمانيا الاتحادية.
خوف معرض فرانكفورت للكتاب من الأدب
لقد تضرَّرت الآن سمعة بلدنا ألمانيا بشدة بسبب هذا المسار الألماني الجديد الذي سلكته الحكومة الألمانية ووسائل الإعلام الرائدة بعد الهجوم الإرهابي الذي شنته حماس على المناطق الحدودية الإسرائيلية في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023. وأوَّل مثال مثير للانتباه قدَّمه معرض فرانكفورت للكتاب الذي كان حتى وقت قريب حصنًا لحرِّية التعبير والتواصل الدولي.
فبعد السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 شعر القائمون على معرض فرانكفورت للكتاب بأنَّهم مضطرون إلى إلغاء حفل تكريم الكاتبة الإسرائيلية الفلسطينية عدنية شبلي التي كان من المقرَّر منحها جائزة الأدب عن روايتها الشهيرة "تفصيل ثانوي".
ولكن الرياح جرت بعكس ما تشتهيه السفن. صحيح أنَّ عدنية شبلي تعيش في برلين، ولكن لديها علاقات جيدة في جميع أنحاء العالم. ولذلك أثار قرار المعرض وابلًا من مذكِّرات الاحتجاج التي جاء بعضها من حائزين على جائزة نوبل في الأدب. وقد قامت صحيفة نيويورك تايمز ووسائل إعلام دولية أخرى بتغطية القضية عدة مرات. وكان ذلك فضيحة محرجة ليس لمعرض الكتاب وحده، بل حتى لسمعة الثقافة الألمانية كلها. ولكن رد فعل الرأي العام الألماني أدَّى نتيجةً لذلك إلى تأجيج المزاج العام أكثر ضدَّ عدنية شبلي.
الخوف من النقاش
لقد أوضحت رئيسة جمعية الناشرين وبائعي الكتب الألمان، كارين شميت-فريدريش في بداية المعرض أنَّ الأسئلة والمواقف الدقيقة والتصنيفات التاريخية والمواقف المتوازنة والنقاشات لم تعد مرغوبة في ألمانيا. فقد قالت حرفيًا: "أنا أفتتح معرض فرانكفورت الخامس والسبعين للكتاب برفض كلمة ’لكن‘".
غير أنَّ مَنْ يجب عليه أن يرفض كلمة "لكن" من أجل إدانة نيران حماس القاتلة يتَّخذ بدوره موقفًا مثيرًا للتساؤل والشكّ. فهو أو هي يعارض بذلك لغة العقل التي تعتمد على التفاعل الجدلي بين "مع" وَ "ضدّ". ويختار بدلًا من ذلك لغة الإملاء والأمر والقوة البحتة التي لا تحتمل أي نقاش.
دفاع يهودي شجاع عن ثقافة النقاش في ألمانيا
ولكن الأمور تنحدر إلى الأسوأ: فقط في ألمانيا وحدها لم يعد يهم على أي جانب سياسي كان يقف النازيون؛ فقد بات يتم الآن تصوير معاداة السامية على أنَّها ظاهرة يسارية نموذجية. وفقط في ألمانيا وحدها لا يخجل المرء من إهانة نشطاء المناخ بوصفهم معادين للسامية وذلك لأنَّ بعضهم دعوا إلى وقف إطلاق النار. وفقط في ألمانيا وحدها يتباهى المرء في تجاهل وجهات النظر الدقيقة والمتوازنة والإنسانية التي يقدِّمها اليهود والإسرائيليون الذين يعيشون هنا في ألمانيا.
مع أنَّ الأجدر بنا أن نكون ممتنين لهم بشكل خاص. وذلك لأنَّ هؤلاء اليهود والإسرائيليين يُعَدُّون من القلائل الذين ما يزالون على استعداد للدفاع عن ثقافة النقاش في ألمانيا. ونظرًا لأنَّ عدنية شبلي لم يُسمح لها بالظهور في معرض فرانكفورت للكتاب فقد قرأ مؤلفون ومؤلفات يهود وإسرائيليون يعيشون هنا في ألمانيا مقتطفات من روايتها في فعالية أُقيمت تحت شعار: نادي القلم في برلين.
وبدلًا من السير بخطى واحدة في هذا المسار الألماني الخاص الجديد يجب علينا أن نتعامل مع هؤلاء الأشخاص (أي اليهود المدافعين عن ثقافة النقاش في ألمانيا) باعتبارهم قدوة لنا وأن نتحقَّق من أنفسنا قبل توجيه أصابع الاتهام إلى أولئك الذين لديهم رأي أكثر تفكيرًا وحذرًا من الرأي الذي يروِّج له بجد ونشاط ممثِّلو الدولة الألمانية ووسائل إعلامها العامة والخاصة، فيما يخص الصراع في الشرق الأوسط.
شتيفان فايدنَر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023
شتيفان فايدنَر كاتب وباحث ألماني مختص في العلوم الإسلامية. صدر له كتابٌ تحت عنوان: "المنطقة صفر - الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وولادة الحاضر"، عن دار نشر هانزَر، ميونِخ، سنة 2021.