"أمنيتي أن تكون عائلتي معي في ألمانيا...ثم العودة إلى فلسطين"
عد انتهائك من دراسة الموسيقى في جامعة البعث في مدينة حمص، ما الذي دفعك إلى العودة إلى مخيم اليرموك في دمشق؟
أيهم أحمد: بعد أن بدأت الثورة السورية في عام 2011، أخذ الوضع الأمني في التصاعد يوماً بعد يوم لذلك قررت العودة إلى المخيم. وبعد وصولي بفترة قصيرة، فُرِضَ الحصار الخانق على المخيم من قبل قوات النظام وبات سكانه عالقين في أوضاع كارثية. لم يكن لدينا كهرباء أو مياه صالحة للشرب وأصبح هناك شح في الطعام كما كانت الأسعار مرتفعة بشكل جنوني، حتى اضطررنا لأكل أوراق الشجر وحتى القطط للنجاة من الموت جوعاً. وبالرغم من هذه المحاولات كان شبح الموت يسيطر على المخيم ويخطف أرواحاً بريئة يومياً. الكثير من أصدقائي وأقاربي وجيراني قضوا جوعاً بسبب هذا الحصار القاتل، في حين أن العالم يكتفي بمشاهدة هذه الأوضاع المأساوية، دون اتخاذ خطوة حقيقية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
دموع طفلي وصراخه جوعاً كان من أصعب المواقف التي اختبرتها في حياتي. كنت أشعر بالعجر الكامل أمام ألم صغيري لأنني لم أستطع تأمين الطعام له. آنذاك لم أعد أملك ما أخسره وبات الموت المحتم هو قدرنا جميعاً في ذلك المخيم، فقررت أن أواجه هذا القدر بكرامة عالية. وكمحاولة لبث الأمل بين سكان المخيم، وضعت البيانو في عربة وذهبت بها إلى الشارع حيث قمت بأداء الأغنيات التي ألفتها مستلهماً كلماتها من الوضع المرير في المخيم وبسوريا بشكل عام، حيث الموت والدماء بات الواقع الأكبر. عزفت البيانو هناك وقمت بأداء الأغاني مع مجموعة من الأصدقاء وأحيانا مع الأطفال، كالطفلة زينب، التي قتلت برصاص القناص. بإمكانك مشاهدة الفيديو على اليوتيوب وهي تغني. مجرد التفكير بزينب وما حدث لها يؤلمني كثيراً.
تحملت الكثير من المعاناة خلال تلك الفترة في المخيم، فما الذي دفعك لمغادرة سوريا أخيراً؟
أيهم أحمد: يوم عيد ميلادي، قررت أن أغادر المخيم لأعزف في مكان آخر مجاور. أثناء قيامي بنقل العربة التي تحمل آلة البيانو، وصلت إلى نقطة تفتيش (حاجز) حيث استوقفني أحد عناصر (داعش) وقال مشيراً إلى البيانو: " ألا تعلم أن هذه الآلة (حرام)"، وقام بإحراقها ببساطة! في تلك اللحظة شعرت بأنه لم يحرق البيانو فقط، بل قام بإحراق قلبي أيضاً.
بعد تلك الحادثة، اتخذت القرار النهائي بمغادرة سوريا والهرب إلى ألمانيا. أريد أن أكون صوت مخيم اليرموك في ألمانيا وربما أتمكن من فعل شيء لسوريا هناك. كما أريد تأمين مستقبل آمن بعيداً عن الحرب لصغاري، أحمد البالغ من العمر 3 سنوات، وكنان، وعمره سنة.
استطاعت والدتي لاحقاً تأمين المبلغ اللازم لرحلة الهروب، ما يقارب الـ3 آلاف يورو، قالت حينها: "أرجوك أن تأخذ المبلغ وتغادر سوريا بسرعة، لا أريد أن ينتهي بك الأمر كأخيك". أُعتقل أخي منذ ثلاث سنوات ومنذ ذلك الوقت لا نعرف إن كان على قيد الحياة أم لا.
ولكن هل قمت بهذه الرحلة وحيداً أم برفقة أسرتك؟
أيهم أحمد: كان المخطط أن أسافر مع زوجتي وطفلي. ولكنني أشكر الله على أنهم لم يشاركوني هذه الرحلة القاسية. لقد رأيت رجالاً ينهارون من شدة التعب والألم.
في البداية، ذهبنا إلى مدينة حمص التي تقع في مركز سوريا حيث أردنا أن نتابع من هناك إلى تركيا ثم اليونان ومن ثم المحطة الأخيرة ألمانيا. إلا أنني اعتُقلت حال وصولي إلى حمص. أمضيت في السجن 9 أيام. لذلك توجب على زوجتي والصغار العودة إلى المخيم في دمشق. بعد إطلاق سراحي كنت منهاراً تماماً ولكنني قررت المضي قدماً بما خططت له ومواصلة رحلتي إلى ألمانيا، من ثم استقدام أسرتي إلى هناك.
وكيف كانت رحلتك؟
أيهم أحمد: واجهنا الموت عدة مرات أثناء عبورنا البحر بالقارب المطاطي من تركيا إلى اليونان، كانت رحلة محفوفة بالمخاطر.
إلا أنني وصلت إلى ألمانيا بأمان أخيراً. أريد أن أشكر الشعب الألماني والحكومة الألمانية أيضاً لمعاملتهم لنا بقمة الإنسانية. بعد نقلي من عدة مراكز أنا الآن بمركز إيواء للاجئين يقع قرب مدينة غيسن الألمانية في مقاطعة هيسن، بانتظار النقل الأخير. ألمانيا قامت وتقوم بتقديم الكثير من الخدمات للاجئين. لكنني أود التنويه لمسألة الإجراءات القانونية التي تتطلب الكثير من الوقت والانتظار. لا أقصد التذمر أو عدم الامتنان، ولكن الناس في سوريا ينتظرون وخطر الموت محدق بهم من كل الجهات. لا أطلب المساعدة المالية من أحد، ولكنني أتمنى أن أحظى بالدعم اللازم لإنهاء الأمور القانونية بأسرع وقت ممكن والتكمن من إحضار زوجتي وطفلي للعيش معي. إنهم يواجهون أوضاعاً كارثية هناك مما يشعرني بالذنب الكبير لتركهم.
الآن وقد حصلت على جائزة بيتهوفن، ماذا تعني لك هذه الجائزة التي تُقدم للمرة الأولى؟
أيهم أحمد: أعادت لي ذكرياتي في المخيم بسوريا، والحزن والأسى اللذين عشتهما مع كل كلمة غنيتها وكل لحن ألفته وعزفته. فلكل أغنية ذكرى موجعة في قلبي. كالطفلة زينب التي غنت معي وقُتلت لاحقاً، وكصديق آخر لي من غزة، قُتل أيضاً...
أهدي هذا النجاح لصديقي العزيز زكريا الخطيب وروح زوجته، التي توفيت أثناء ولادتها لابنهما البكر. كل هذه الأغاني تعيد إلي ذكريات ومشاعر غريبة بحلوها ومرها من الأوقات التي قضيتها في مخيم اليرموك.
ما هي أمنياتك التي تسعى لتحقيقها؟
أيهم أحمد: كل ما أتمناه هو أن أحظى بالمساعدة اللازمة لاستقدام عائلتي للعيش معي بأسرع وقت. وحلمي الكبير طبعاً هو العودة لوطني، فلسطين.
مجدداً، أريد أن أشكر ألمانيا على كل ما تقدمه للاجئين من مساعدة في حين أن المملكة العربية السعودية أغلقت أبوابها في وجوهنا، وفي حين خذلنا الرئيس الفلسطيني محمود عباس حين رفض استقبال اللاجئين الفلسطينيين-السوريين.
حاورته: ريم ضوّا
حقوق النشر: موقع قنطرة/ دويتشه فيله 2016