بؤرة الروحانية
يبدأ الأمر بأنفاس عميقة وانحناءات خفيفة. عشرات من الرجال يشكلون دائرة ويمسكون بأيدي بعضهم بعضا، ويتأرجحون إلى الأمام وإلى الخلف في إيقاع الأناشيد التي تتغني بكلمات مقدسة. وفجأة تنهض من فوق البساط الأحمر مجموعة صغيرة وتقفز إلى أعلى، بوجوه بشوشة وأردية بيضاء متموجة. هكذا يبدو المشهد في "الحضرة"، عندما يتجمع المتصوفون في العاصمة الأردنية عمان في زواياهم ليذكروا الله. طوال عقود كان الشك والريبة يحيط بالصوفية، أما الآن فإن التصوف يكتسب شعبية متزايدة يوماً بعد يوم – وهي علامة على أن الصوفية وما تمنحه من تأكيد على إصلاح الذات، هكذا يقول المتصوفون، تقدم نمطاً جديداً لحياة إسلامية حقيقية ومفعمة بالمشاعر في قلب مدينة حافلة بالتغيرات.
نقاوة القلب
"للصوفية تقاليد روحانية ديناميكية قوية"، يقول سامر دجاني، أحد الذين يترددون بانتظام على "الحضرة". "في عالمنا اليوم تعاني أرواح البشر. إنها بحاجة إلى الروحانية والعودة إلى الله." هذه العودة هي هدف الصوفية التي يحاول أتباعها أن يتقربوا إلى الله بذكره، وكذلك عبر الأعمال الطيبة. يتحدث الصوفيون عن ثلاث درجات: الإسلام (أي اتباع أركان الإسلام الخمسة) والإيمان والإحسان. بارتقاء هذه الدرجات يطمح الإنسان إلى الوصول إلى حالة الكمال الذاتي. ويمارس المتصوفون الإحسان عبر تمارين بدنية وعبر الذكر، أي الترتيل، في عملية تتسم بالتطور الروحاني والأخلاقي حتى يصلوا إلى حالة تكون فيها محبة الله واضحة ومتجسدة في كل تصرف من تصرفات المؤمن.
"يهتم الصوفي اهتماماً كبيراً بالأعمال التي يمارسها على نحو هو الأصدق"، يقول الشيخ العبادلة الذي يقود حلقات الذكر على نهج الشاذلية.
وهدف التصوف في الإسلام هو النسك، وللوصول إليه يسير المتصوف على "طرق" تعود ممارستها إلى النبي محمد، هذه الطرق يتوارثها الشيوخ الواصلون حتى اليوم. وبرغم وجود مئات الطرق الصوفية، فإن الصوفيين يُجمعون على أن الطرق الأساسية ليس بينها خلافات تُذكر. "كل الطرق تبحث عن الحقيقة، وكلها طرق صالحة"، يقول الشيخ ماجد، عضو الطريقة النقشبندية. "إنها تستخدم مناهج مختلفة لتنقية قلب الإنسان، غير أن الهدف واحد".
ويتميز المريدون في الصوفية ببشاشة ولطف، كما أنهم يؤكدون على المحبة والوحدة، ولذلك يصف كثيرون الصوفية بأنها نوع من "الإسلام الوديع". غير أن هذا التعريف إشكالي. صحيح أن المتصوفين في عمان ينتقدون أشد الانتقاد التأويلات العنيفة لعقيدتهم، غير أنهم يعارضون سعي البعض إلى فصلهم عن التيار الرئيسي للإسلام، سواء كان ذلك السعي من جانب الفقهاء أم من جانب المنظمة الأمريكية "راند كوربورايشن" التي اقترحت دعم التصوف لتعزيز الأمن العالمي.
قوة جذب روحية
رغم ذلك فإن الإكزوتيكية، أو الغرائبية، هي التي تثير اهتمام الزوار الأجانب في أغلب الأحيان. أحدهم يدعي زكريا رحمن، وهو طالب في لندن قام خلال هذا الصيف بجولة عبر الأردن حاملاً متاعه على ظهره، متنقلاً بين عدة زوايا للصوفيين. "بكل بساطة، هذا شيء جديد عليّ، لم أتعرف عليه في طفولتي"، يقول الطالب. "تقدم الصوفية جانباً روحانياً من الإسلام يتناسب مع الحياة في القرن الحادي والعشرين حيث يكون الدين بالأحرى شأناً شخصيا.ً" وفي الغالب فإن الأجانب ينضمون إلى إحدى الطرق الصوفية في عمان عبر تزكيات من جانب الجاليات المسلمة في وطنهم أو من خلال الإنترنت. هذا هو الحال في حي الخرابشة في شمال عمان، حيث تتمركز الجماعة الصوفية الكبيرة نسبياً التابعة للشيخ نوح كيلر، وهو أمريكي اعتنق الإسلام وأصبح من شيوخ الصوفية. ويتبع مريدو الشيخ كيلر – وعديد منهم من الأوربيين والأمريكيين الشماليين الذين اعتنقوا الإسلام – قواعد صارمة في الملبس، ولوائح واضحة فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية، وهم يقضون سنوات عديدة للحياة تحت قيادته، ولتعلم اللغة العربية وتأسيس متاجر محلية. ويتجنب الشيخ كيلر الظهور في الأماكن العامة، غير أن كتاباته ومعارفه عن الفلسفة الغربية (التي ينتقدها انتقاداً حاد اللهجة) تجذب إليه مريدين من كافة أنحاء العالم. "بصفته أمريكياً يُعد الشيخ كيلر جسراً بالنسبة للطالبين الأجانب"، يقول أحد مريديه.
صور نمطية وإيحاءات سلبية
تخوض الصوفية في الأردن صراعاً قاسياً ضد السلفية والوهابية اللتين يؤثران على فهم الناس للدين، واللتين تعتبران ممارسات المتصوفيين غير إسلامية. "كلمة صوفي لها إيحاءات سلبية إلى حد ما في التاريخ الإسلامي"، يقول الدكتور محمد ريّان، أستاذ العلوم الإسلامية في الجامعة الأردنية. "عندما يسمع الناس كلمة "تصوف" فهم يفكرون على الفور في صور نمطية معينة."
غير أن تلك الأحكام المسبقة غير صحيحة، يقول الفقهاء الأردنيون. إن السواد الأعظم من الطرق الصوفية في عمان يحترم القواعد العامة المُعترف بها لدى السنة، مثل الفصل بين الجنسين واستخدام الآلات الموسيقية أو الرقص خلال الحضرة. ويتهم البعض الثقافة الشعبية العربية بأنها تنشر صوراً خاطئة عن الصوفية، كما يشير آخرون إلى أمثلة مضللة، مثل "موضة الصوفية" لدى أبناء الطبقة الراقية الذين يمارسون نوعاً من "إسلام الهيبز" عبر الموسيقى والمخدرات. من أجل ذلك تأسست في الأردن حديثاً قناة تلفزيونية متخصصة في الصوفية هي الأولى من نوعها لتصحيح تلك الصورة الخاطئة.
التحرر من الأنانية
وغالباً ما تواجه الجماعات الصوفية نقداً لأنها تعزل نفسها عن العالم الخارجي، غير أن كثيرين في عمان يرون في الصوفية تعزيزاً للدعوة القرآنية للمشاركة الاجتماعية. ومن أمثلة ذلك "دار الإيمان" في حي البيادر غربي عمان، وهي وقف يضم مسجداً وكتّابا وزاوية، كما ترعى الدار عدة بيوت للأيتام. ويعمل في "دار الإيمان" نحو 50 موظفاً تحت قيادة الشيخ حسني الشريف من الطريقة الخلواتية. "يعلمنا الشيخ حسني ألاّ نخضع لأحد سوى لله، وأن نمنح كل إنسان السلام"، يقول سلطان الأسود، رئيس أحد الأقسام في الدار. يدرس صديق باثان، أحد الأخصائيين الاجتماعيين من كندا، الشريعة الإسلامية في الأردن، وهو عضو في طريقة الشيخ النقشبندي الحقاني. في رسالة الماجستير يدرس باثان منافع الروحانية الإسلامية في العلاج الجماعي. "إننا نريد أن نصل إلى حالة يكون فيها الإيمان بالله متحققاً في كل فعل من أفعالنا، وأن نحرره من ميولنا الذاتية الأنانية"، يقول باثان. "معظم الناس يفعلون أشياءً تحقق مصلحتهم الذاتية فحسب، غير أن أرقى درجة بالنسبة للبشر هي أن يفعلوا شيئاً من أجل مخلوق أسمى منهم."
ويعتبر باثان التحرر الصوفي من الأنانية مفتاح التحول الاجتماعي، وبخاصة لمواجهة الانتشار المتزايد للرأسمالية المتوحشة في الأردن. هذا العمل الخيري تحديداً هو ما قد يشجع على أن يتفهم قطاع عريض من الناس الصوفية في الأردن. "إننا نظهر الإسلام فقط عبر أفعالنا – الآخرون يرون ما نفعله، وعندئذ يستطيعون أن يقرروا أن يتغيروا"، يقول سلطان الأسود. ويثير انتشار الإيمان عبر القدوة الصالحة الإعجاب لدى الباحثين عن الطرق الصوفية في الخارج. عبر الرغبة في الوصول بالذات إلى الكمال، وكذلك عبر المشاركة الوجدانية والأفعال الصالحة، يقول زكريا رحمن، يستطيع الصوفي "أن يكون مقنعاً أكثر من أي واعظ".
ميشائل غون
ترجمة: صفية مسعود
حقوق الطبع: قنطرة 2010
قنطرة
التصوف اليهودي والإسلامي: على خطى الصوفية بعباءة يهودية أحدث الصراع في منطقة الشرق الأوسط فجوةً عميقةًً بين اليهود والمسلمين. بينما يُنسى أن هاتين الديانتين قد أغنت بعضها بعضًا في الفلسفة والتقاليد الروحانية على مدى عدة قرون من الزمن. نيمت شكر تلقي الضوء على جوانب تأثير الإسلام الصوفي على التصوف اليهودي.
قراءة في كتاب: "عند قبر الصوفي الأحمر": سحر الوجْد الإلهي الخرافات والتصوف والروحانية: في كتابه الاستثنائي يتحدث الباحث الإثنولوجي يورغن ف. فريمبيغن عن الخبرات التي جمعها في رحلة الحج السنوية التي يقوم بها إلى "الصوفي الأحمر" في المدينة الصغيرة سيهوان جنوبي باكستان. شتيفان فايدنر يقدم قراءته لهذا الكتاب.
حركة فتح الله كولن: التصوف والروحانية بأجندة أصولية؟ يعتبر عبد الله كولن أشهر داعية إسلامي في تركيا وأكثرهم إثارة للجدل ويدير أنصاره عددا كبيرا من المؤسسات التعليمية من مدارس ومعاهد، إضافة إلى مستشفيات وعدد من الصحف ومحطات التلفزة، كما يُعد في الوقت ذاته كابوسا لمنتقديه. دانيال ستينفورث من اسطنبول يسلط الضوء على هذه الحركة والجدل حولها.