نحو فقه إسلامي معاصر قائم على الكرامة الإنسانية
بروفسور موسى. في المنظور الإسلامي التقليدي تعتبر قضايا مثل الردة أو الإلحاد جرائم تستوجب العقوبة. كيف تتعامل مع هذه القضايا كعالم لاهوت؟
إبراهيم موسى: يجب أن نفكر في هذه القضايا على مستويين: الأول هو أن ندرك أن ما نطلق عليه اسم ردة ما هو في الحقيقة إلا جزءا من لاهوت إمبريالي. حتى في الإمبراطوريات غير الإسلامية – فلنفكر في التراث الإمبريالي المسيحي – عندما يتخلى أحدهم عن دينه، يُنظر له على أنه لم يعد موالياً للإمبراطورية. إذا تخليت عن دينك، فإنك بذلك تبعث برسالة سياسية. الوضع كان مماثلاً في الإمبراطوريتين الإسلامية والمسيحية: الردة كانت فعل خيانة سياسية. واليوم أيضاً ننظر إلى تغيير الولاء السياسي على أنه خيانة.
وما هو المستوى الثاني؟
موسى: المستوى الثاني هو إدراك أن اللاهوت الإمبريالي انتهى مع ظهور الدول الحديثة: مبدأ المواطنة، وأفكار جديدة حول الحقوق الفردية وطريقة جديدة لفهم دور الدين في المجتمع. في الوقت الحالي، يتبنى اللاهوت الإسلامي هذا الموقف تجاه الردة: إذا قمت بتغيير دينك، فإنه أمر بينك وبين الله. تغيير الديانة لم يعد يُنظر له على أنه خيانة للنظام السياسي.
في الدولة المعاصرة، بات الدين شأناً شخصياً وخاصاً، بينما تنظم الدولة والمجتمع المدني المجال العام. رغم ذلك، يجب ألاَّ ننسى أن هناك من يعارضون هذه الفكرة في الغرب. بعض المسيحيين أيضاً يتوقعون أن تتبنى الدولة عدداً من القيم المسيحية. هذا سيقود بالضرورة إلى تماهي الفوارق، وإلى ظهور منطقة رمادية بين المجالين العام والخاص.
لكن فكرة الردة ما تزال تستخدم كأداة لتهديد المفكرين أو إخراسهم.
موسى: لا يوجد شك في أن الوعي اللاهوتي لدى كثير من المجتمعات الإسلامية ينظر إلى الردة على أنها جريمة ضد النظام العام. فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث أنه حتى في مجتمعات مثل تونس، ما يزال الكثيرون يعتقدون بأن الردة جريمة. أعتقد أن علماء اللاهوت المسلمين فشلوا في تعليم المجتمعات أن الاختيارات المتعلقة بالدين لا يجب أن يُنظر لها على أنها جريمة. إذا ما عاقبت الناس على ذلك، فإنك تكرههم على الدين، وهو عكس ما تنص عليه النصوص الإسلامية.
ما هي أنماط إعادة التفكير المطلوبة في اللاهوت الإسلامي للتغلب على هذه المشكلة؟
موسى: نحن بحاجة إلى فهم جديد لما يعنيه الله وما يعنيه الإسلام لنا في الظروف السياسية والاقتصادية التي نمر بها اليوم. كيف يمكننا تفسير الدين في مجتمع معاصر؟ بعد أن هجرنا سياسات الإمبراطورية، لم نعد بحاجة إلى لاهوت مرتبط بها. هذا اللاهوت يغذي هيكلاً متراتباً تفضيلياً، ناهيك عن تمثيل نظرة تفوق دين على آخر، أو تمييز جنس على جنس آخر. يجب أن تضمن الدولة المعاصرة حقوق الفرد. في رأيي، أعتقد أن كثيراً من الدول المسلمة تبنت إطاراً سطحياً فقط للدولة المعاصرة، ولكن فحوى قوانينها ما تزال غير متوافقة والنقاش المعاصر المتعلق بحقوق الإنسان.
واللاهوت الإسلامي ما زال عالقاً فيما تطلق عليه اسم "المبدأ الإمبريالي"؟
موسى: نعم. بعض التشريعات المبنية على الدين الموجودة في دول مسلمة تعكس ما أسميه "اللاهوت السياسي الإسلامي الإمبريالي". هذا اللاهوت السياسي الإمبريالي المبني على الماضي يجب اجتثاثه من العقل السياسي والديني من خلال التقييم الناقد والاجتهاد والتعليم.
كيف يمكن العمل على تغيير ذلك في ظل كون معظم علماء الدين في الدول العربية ألعوبة في أيدي أنظمتها؟
موسى: في المجتمعات التي تهيمن عليها الشمولية، يشعر علماء الدين بأنهم إما أن يكونوا خاضعين تماماً للنظام السياسي، أو أن يشمئزوا من حكامهم الذين لا يحظون بشرعية. يمكن للساسة أن يكونوا علمانيين في ممارساتهم السياسية، ولكنهم في عقيدتهم الدينية مرتبطون تماماً بنظرة لاهوتية عفا عليها الزمن. فالكثير من الحكومات الإسلامية العلمانية تقمع وتسجن وتستهدف المفكرين وعلماء الدين الناقدين لإثبات مصداقيتها الإسلامية، وذلك في محاولة لإظهار أنها إسلامية أكثر من خصومها الإسلاميين.
هل يهدفون لإرضاء شعوبهم أم عقليتهم؟
موسى: إنهم ينظرون للاهوت على أنها لعبة كرة قدم سياسية يمكنهم استخدامها لتهدئة الشعوب. أعتقد أن غياب علم لاهوت مبني على الكرامة يخلق فراغاً كبيراً في المجتمعات المسلمة. هذا اللاهوت المبني على الكرامة يجب أن يصبح معيار كل القيم. تفاسير النصوص والتعاليم الدينية التي لا تتوافق وهذا المعيار يجب تهميشها. ستكون هناك حاجة إلى جهد كبير في إعادة تفسير الشريعة واللاهوت والممارسات الأخلاقية من أجل الوصول إلى هذا الهدف.
خلال خطابك في ألمانيا، قلت إن اللاهوت الإسلامي مات. ما الذي كنت تعنيه؟
موسى: اللاهوت الإسلامي ميت من ناحية أن هناك مجتمعات طبيعية قليلة يمكن لأفرادها أن يفكروا في طبيعة الخير ضمن ظروف مستقرة. أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي تمر بقلاقل سياسية. وحيثما كانت الدول مستقرة، مثل إندونيسيا وماليزيا وتركيا وتونس، فإن سكانها سيكونون قادرين على اكتشاف سبل جديدة لفهم طبيعتهم وما يعنيه الله بالنسبة لهم وكيفية تجليه في هذا العالم. لكن هناك نوعاً آخر من اللاهوت الذي ما يزال حياً بشكل كبير: ذلك اللاهوت الذي يمجّد العنف والقوة على حساب كل شيء، مثل ذلك الذي يمارسه تنظيم "الدولة الإسلامية" والذي ينشره علماء الدين في الأنظمة القمعية.
هل ترى علامات إحياء للدين في أي مكان؟
في لبنان وإندونيسيا وبين الأقليات المسلمة في جنوب أفريقيا والولايات المتحدة، على سبيل المثال، بدأت علوم لاهوت جديدة تنبثق. الفضاء السياسي الذي سمح بالتعبير عن أفكار جديدة مهم للاجتهاد اللاهوتي. أنت بحاجة إلى حرية التعبير كي تمنع علماء الدين من شن حملات ديماغوجية على خصومهم الفكريين أو أن يطالبوا الحكومة بالزج بخصومهم في السجن.
تاريخياً، تميز اللاهوت الإسلامي بالتنوع. أما اليوم فيبدو أن ذلك التنوع مفقود.
موسى: هذه إحدى أكبر مآسي الإسلام المعاصر! التنوع الذي كان في يوم ما واضحاً في المجتمعات المسلمة بات مفقوداً، ولكننا بحاجة ماسة إليه اليوم. جزء من المشكلة أن المسلمين أصبحوا غرباء عن ماضيهم. يجب علينا دراسة الماضي لنكتشف دروس التنوع العظيمة، بدلاً من الاعتماد على النسخ الأحادية والمبسطة والواهية للغاية التي تتنكر في زي اللاهوت الإسلامي اليوم. هذا أكبر تحد للأغلبية المسلمة وللأقليات المسلمة أيضاً.
ماذا لو ذهب الرئيس المصري السيسي إلى الأزهر وطالبه بإصلاحات...
موسى: طلبات الإصلاح هذه لن يكون لها جاذبية على المدى الطويل. بعض علماء الدين قد يوافقون، ولكن الإصلاحات ستبقى سطحية وغير عضوية.
أولاً يجب على السيسي أن يصلح نفسه لأنه طاغية. ولكنه ليس أول زعيم يتصرف بهذا الشكل. جمال عبد الناصر حول الأزهر إلى أداة من أدوات الدولة. لا توجد حرية أكاديمية مضمونة للأزهر. كما أن كل ما يقوله علماء الدين في مصر اليوم يمكن أن يستخدم ضدهم. الحرية السياسية شرط مسبق للإصلاح الديني الشامل، لأنها تسمح بنقاش مدى أوسع من الأفكار.
المجالان الخاص والسياسي مترابطان في الإسلام. لماذا يصعب الفصل بينهما؟ ما هو موقفك تجاه العلمانية؟
موسى: لا يوجد لدي موقف ثابت في هذا الصدد. أعتقد أن فكرة الفصل بين المجالين إلى العلماني والديني هي خيال إدراكي مفيد. إنها خيال سياسي انبثق عن الصراع الأوروبي الفريد من نوعه للفصل بين سلطة الكنيسة وسلطة الحكومة. هذا جزء من تاريخ أوروبا، ولكنه ليس جزءاً من تاريخ شمال أفريقيا أو الشرق الأوسط.
الإصرار على هذا النموذج لكل شعوب الأرض ما هو إلا إكراه لهم عليه. القضية الأساسية هنا هي أن تجد المجتمعات طريقة يمكن من خلالها لحكوماتها أن تمارس سلطتها بشكل فعال دون أن تقف حائلاً في وجه ازدهار المجتمع. من خلال فصل دوائر السلطة، فإن العلمانية ما هي إلا أحد هذه الطرق. لكن بالطبع هناك نماذج أخرى ممكنة لذلك.
هل تعني الفصل بين المجالين بدون استخدام كلمة العلمانية؟
موسى: عدد من علماء الدين المسيحيين والمسلمين واليهود قلقون من قطار العلمانية المسرع في اتجاه واحد، ناشراً عجرفته العلمانية ومتجاهلاً طرق العيش الأخرى. الاعتراف بذلك لا يعني الدعوة إلى أوروبا مسيحية مرة أخرى، أو حتى مسلمة أو يهودية. لكن على الأوروبيين أن يتقبلوا بعض النقد لعلمانيتهم.
العلمانية دفعت الأديان إلى إعادة التفكير في بعض مواقفها، وبطريقة ما، يمكن للأديان أيضاً أن تساعد العلمانيين على إعادة التفكير في بعض أوجه علمانيتهم. على سبيل المثال، دعا يورغن هابرماس في سنواته الأولى إلى عقلانية علمانية مشددة دون أي حوار مع الدين. أما اليوم، فهو يقول إننا بحاجة إلى حوار عميق مع الدين، لأنه بات يقدّر أهمية الدين في وقتنا الراهن.
لما نحتاج إلى هذا الحوار مع الدين؟
موسى: من المهم رعاية حوار عميق مع المسلمين في أوروبا، بدون أن نشترط مسبقاً أن يصبح الإسلام علمانياً. يجب أن يتوقف الناس في أوروبا عن قول ذلك. أعطوا المسلمين في أوروبا مساحة كافية ليجعلوا أوروبا موطنهم أولاً.
إذا ما أخذتم العنف الذي يمارسه بعض الأفراد المسلمين كحجة لوصم كل المسلمين في غرب أوروبا، فإنكم بذلك تحشرون المسلمين في زاوية وتجبرونهم على الاختيار بين دينهم، الإسلام، وموقعهم السياسي، أوروبا. سيختارون الإسلام. أعطوا المسلمين مساحة لالتقاط أنفاسهم في أوروبا كي يتمكنوا من تطوير لاهوتهم، واسمحوا لهم بمواجهة العلمانية، وذلك كي تتمكن العلمانية من تصحيح نفسها.
حاورته كلاوديا منده
ترجمة: ياسر أبو معيلق
حقوق النشر: موقع قنطرة 2020
إبراهيم موسى أحد أبرز الباحثين في الفكر الإسلامي المعاصر. ولد موسى عام 1957 في جنوب أفريقيا، وهو يركز في دراساته على الأخلاق الإسلامية والشريعة وقضايا التقاليد والحداثة في الإسلام. موسى أيضاً أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة نوتْردام في الولايات المتحدة.