محنة العراق: نتاج طبيعي للنسيج الاجتماعي أم لدموية النظم السياسية؟
يرى كثير من الباحثين أنّ صدام حسين كرّس حالة الإنقسام بين العرب شيعة وسنة وبين العرب والاكراد في العراق خصوصا بعد إنتفاضة عام 1991 التي كادت أن تسقط حكمه وقد نجم عنها قيام إقليم كردستان ذي الحكم الذاتي.
هذا الانقسام تفاقم بعد أن أسقط التحالف الدولي نظام صدام حسين في 9 نيسان عام 2003. بعد هذا التاريخ ظهر الانقسام الاجتماعي الى السطح وصار شمال العراق يعرف رسميا باقليم كردستان ويضم الكرد بشكل عام ومكونات صغيرة أخرى ويتمتع بقدر كبيير من الاستقلال وله وبرلمان وحكومة وعلم وجيش يحميه، فيما يضم جنوب العراق العرب الشيعة وأقليتين صغيرتين، مندائية وأرمنية، و يضم غربه العرب السنة.
أما الوسط فيضم المكونات الثلاثة الكبرى والكرد الفيلية ( فرع من الاكراد يتحدّر من أقلية اللر التي تدين بالمذهب الشيعي- خلافا لباقي الاكراد- سكنت جانبي الشريط الحدودي العراقي الايراني الممتد من بدرة وجصان وزرباطية جنوب شرق الكوت حتى مدينة خانقين في ديالى شمالا، وقد رحّل نظام البعث أغلبهم الى إيران باعتبارهم من أصول ايرانية)، علاوة على مكونات أخرى صغيرة مجتمعة بنسب متباينة.
بعد التغيير عام 2003 بدأت مكونات العراق الأصغر تتعرض الى هجمات وعمليات قتل وترحيل منظّمة أدت الى هجرة أعداد كبيرة منها الى إقليم كردستان أو الى خارج البلد. كما أن المكونات الكبرى بدأت تنحى بشكل متزايد الى الانعزال مبدية نزوعا دائما الى الاستقلال عن بعضها، ما دفع بخبراء السياسة والسوسيولوجي والسايكولوجي الى التساؤل: هل يدفع النسيج الاجتماعي في العراق باتجاه تفكيك تكوين هذا البلد كدولة؟
المفكر فالح عبد الجبار، مديرمعهد الدراسات العراقية في حوار مع موقع قنطرة، يعتبر أن النسيج الاجتماعي المتجانس لم يكن قط شرطا لقيام دولة موحدة في أي مكان في العالم، كما أن اختلاف النسيج الاجتماعي لم يمنع قط قيام دولة موحدة، مستشهدا باليابان والولايات المتحدة الأمريكية كأمثلة على ذلك ومشيرا الى "أن النظام السياسي هو الذي يسهل التجانس الاجتماعي إن كان من نسيج واحد أو يدمر تعايشه إن كان من مكونات مختلفة تفترق عن بعضها في الدين واللغة او القومية، إذ أن التعايش أو التجانس يقود الى بناء أمة موحدة في حالة وجود نظام سياسي منفتح على الجميع يفتح باب المشاركة في السياسية والأقتصاد والإدارة والثقافة ، وفي حالة وجود نظام سياسي منغلق، مها بلغ التجانس، سيحصل تفكك بين المناطق أو بين الطبقات الاجتماعية وغير ذلك".
وفي معرض حديثه عن العراق تحديدا أشار عبد الجبار الى أن هذا البلد "أسوة بباقي دول المنطقة العربية والاسلامية ليس متجانسا، لا من الناحية الإثنية بتعدد قومياته ولا من الناحية الدينية بوجود مسلمين ومسيحيين وطوائف أخرى ولا من الناحية المذهبية بوجود السنة والشيعة، التعايش والتجانس في العراق يقوم من خلال النظام السياسي القائم، ولو نظرنا الى ليبيا فهي مثال للتجانس حيث الجميع عرب الاثنية مسلمو الدين سنة المذهب.
لكن الانقسام المناطقي والقبلي الذي خلقه النظام السابق قاد إلى انهيار البلد رغم وجود هذا التجانس. ولو أخذنا السودان كنموذج لعدم التجانس والاختلاف لوجدنا أنه بسبب الحروب الاهلية حصل فيه حالة انفصال.
العراق أيضا ومنذ العهد الملكي كان بلدا يفتقر الى التجانس، ولكن بسبب النظام الملكي الليبرالي الديموقراطي، كان استقرار لحمة النسيج الوطني والاجتماعي أعلى منه خلال العهود والانظمة التي تبعت إسقاط النظام الملكي، العراق اليوم يمر بحالة صعبة بسبب تسييس الفروقات بين المذاهب والاديان والاثنيات، الحل في النظام السياسي نفسه، يجب أن ينفتح هذا النظام على الجميع عندئذ ستكون الفروقات غير مسيسة".
قنطرة: يقال أن الشخصية العراقية عبر التاريخ كانت شخصية صعبة القياد لا ترضى بقائد، هل هذا سبب التناحر الموجود اليوم؟
فالح عبد الجبار: الشخصية مفردة تنضوي تحت علم النفس وليس تحت علم الاجتماع ولا علم السياسة، كما أنه لا توجد شخصية واحدة في أي مجتمع، فهناك الشخصية البدوية والشخصية المدنية أو الفلاحية، ولكل منها طريقة في العيش تحدد سماتها. هناك شخصية مرحة متسامحة، كما أن هناك شخصية تميل الى العنف وعبوسة، والحقيقة أنه لا يوجد شيء إسمه شخصية ثابتة، الشخصية مفهوم متغير.
ونسمع في هذا الصدد مثلا أن الشخصية المصرية مرحة ومسالمة ومستكينة، ولننظر الآن الى ما آلت اليه هذه الشخصية في مصر، أنظر الى العنف والإحتراب، الذي يسود المجتمع بسبب إنغلاق النظام السياسي لخمسين عاما. يوغسلافيا كانت من أكثر المجتمعات لطفا وكياسة وأدبا، وانقلبت الى جهنم حقيقية بالقتل والذبح والعنف، التعميم في هذا الصدد غير صحيح ويندرج تحت عنوان تخيلات.
ترددت في مراحل عدة من التاريخ مقولة مفادها أنه لا يصلح لقيادة العراق الا ديكتاتور، كيف ترى هذه المقولة؟
فالح عبد الجبار: هذه فكرة الديكتاتوريين أنفسهم، فهم يروجون أن هذه الشعوب يجب أن تُساس ( بمعنى تحكم)، ولكن في هذه المقولة جانب من الصحة يتعلق بأن في كل مجتمع يجب أن يكون هناك نظام أي (Order) ، لتنظيم السير مثلا، ضوء أحمر للوقوف، أصفر للاستعداد، أخضر للحركة، أماكن وقوف المركبات، وفي البلدان غير المعتادة على النظام الجماعي يجري في البداية نشر المزيد من الشرطة لتطبيق القوانين، وعند تعود الناس على تلك القوانين، يستبدل الشرطة بكاميرات المراقبة، وهذا موجود في كل المجتمعات، وكذا نظام جباية الضرائب مثلا.
وعلى العموم فإن القوانين في بدايتها في كل الجتمعات تُفرض قسرا، حتى يألفها الناس وتصير جزءا من حياتهم يمتثلون له بالعادة فتقل الحاجة الى عنصر القسر، ولننظر الى المجتمع الياباني بعد الزلزال والتسونامي والكارثة النووية، لم تقع حادثة سرقة واحدة، ولم تسجل حالة اغتصاب واحدة مثلا، لم يقع أي شيء على الاطلاق، سبب ذلك أن التزام الناس بقواعد النظام والعمل الجماعي كان عاليا جدا بسبب سنوات طويلة من التربية ، ولابد أن المسؤولين في البداية اعتمدوا وسائل إكراه عنيفة حتى وصل الناس الى تقبلها واعتبارها جزءا من حياتهم، ثم تخلى عنها النظام السياسي".
كيف تكون البداية في العراق؟
فالح عبد الجبار: قلنا في البداية أن الاساس هو النظام السياسي، يجب ان يكون هذا النظام منفتحا دون ميل للاحتكار يمكن أن يدمر التعايش بشكل كامل، وهذا هو الشرط الأساس. أما الشروط التكميلية فتتضمن القواعد التي ينبغي أن يتبعها الناس إزاء بعضهم البعض وإزاء أنفسهم، وهي تحتاج بدءا الى وسائل إكراه عالية من الأجهزة الحكومية والادارية ، وتتحول شيئا فشيئا الى قواعد يقبلها الجميع ، فتقل الحاجة الى وسائل الإكراه شيئا فشيئا حين يتعلم الناس القواعد دون إكراه.
دولة العراق والتاريخ الديموغرافي
قامت دولة العراق الحالية ضمن اتفاقيات سايكس- بيكو بين فرنسا وبريطانيا، حيث جمعت الأخيرة الولايات التركية الثلاث ، بغداد والبصرة والموصل ضمن حدود رسمتها السياسية البريطانية المستشرقة غيرترود بيل . بين عامي 1917 و1932 تشكّلت الدولة العراقية ليكون على رأسها الملك الهاشمي فيصل الاول . بريطانيا واجهت مشكلة المكونات الثلاثة - الشيعة والسنة والكرد حتى غادرت العراق نهائيا عام 1958.
وفي تعريفه التاريخي الديموغرافي يمكن القول إن العراق هو الأرض الواقعة بين وحول مجرى نهري دجلة والفرات بصرف النظر عن توصيفه السياسي والإداري ، وقد ضم على مدى التاريخ مكونات إثنية ودينية متعددة نجحت الى حد ما في الغالب في العيش بسلام مع بعضها البعض.
فالح عبد الجبار في سطور
مفكر وعالم اجتماع عراقي. عمل أستاذا وباحثا في علم الاجتماع بجامعة لندن، ومدرسة السياسة وعلم الاجتماع في كلية بيركبيرك. كماعمل محاضرا في جامعة لندن ميتروبوليتان. منذ عام 1994 قاد مجموعة بحث المنتدى الثقافي العراقي في كلية بيركبيك. عمل مديرا للبحث والنشر في مركز الدراسات الاجتماعية للعالم العربي ومقره نيقوسيا وبيروت بين عامي (1983-1990). يرأس حاليا معهد الدراسات العراقية ومقره مؤقتا في بيروت وله فرع في كردستان العراق وله مؤلفات عدة باللغة العربية والإنكليزية، كما نشر ترجمات لعديد من الكتب.
أجرى الحوار: ملهم الملائكة
مراجعة: لؤي المدهون
حقوق النشر: قنطرة 2012