قوة المرأة في أرض الرافدين

صورة من: Birgit Svensson - نساء مشاركات في احتجاجات عام 2019 - العراق - بغداد.  Frauen auf dem Tahrirplatz in Bagdad, Irak
نساء مشاركات في احتجاجات عام 2019 بساحة التحرير وسط العاصمة العراقية بغداد. صورة من: Birgit Svensson

بعد عناء نساء العراق لسنوات بعد سقوط نظام صدام حسين إثر الاجتياح الأمريكي وصعود قوى متزمتة تغير الوضع وصار رائعاً أن تكون العراقية امرأة شابة ببلدها. مشاهدات الصحفية الألمانية بيرغيت سفينسون من بغداد لموقع قنطرة مع اقتراب ربيع عام 2024.

الكاتبة ، الكاتب: Birgit Svensson

مشهد يبدو لأعيننا وكأنَّه لوحة مرسومة في معرض بما في هذا المشهد من وجوه نساء مزيَّنة وكأنها أعمال فنِّية، وليس هذا المشهد إلا حفلًا أقامه "منتدى الإعلاميات العراقيات" في أغلى فندق بالمدينة من أجل احتفاء الصحفيات العراقيات بأنفسهن وبغيرهن من الصحفيات من العالم العربي. ومن أجل ذلك فقد ارتدت النساء العراقيات أجمل ملابسهن وربَّما أمضين ساعات أمام المرآة؛ وذلك لأنَّ الأنوثة مطلوبة هنا في مجال الصحافة أيضًا.

وعلى الرغم من دعوة رجال أيضًا إلى هذا الحفل إلَّا أنَّ غالبية الحضور في هذا المساء كانت من النساء؛ كما أنَّ الجائزة -التي تُمنح فيه كلَّ عام لأفضل الإعلاميات في العالم العربي- تُجسِّد امرأة أيضًا على شكل تمثال برونزي صغير، هي: العراقية أطوار بهجت التي كانت تعمل كمذيعة وصحفية ومراسلة لقناة العربية الفضائية التي تبث من العاصمة السعودية الرياض.

لقد اختُطِفت واغتيلت أثناء تغطيتها لتفجير استهدف به تنظيم القاعدة ضريح العسكريين الشيعي ذا القبة الذهبية في مدينة سامراء عام 2006. وقد أشعل هذا الهجوم حربًا أهلية دامية بين السُّنة والشيعة، أثَّرت بشكل خاص على العاصمة بغداد التي بدأت تتعافى منها الآن فقط وببطء.

وتُمنَح جائزة أطوار بهجت سنويًا في اليوم العالمي للمرأة لصحفيات من دول عربية مثل مصر والأردن والمملكة العربية السعودية واليمن وطبعًا من العراق، وذلك تقديرًا لهن على إنجازهن عملهن بشجاعة وإقدام.

صورة من: Birgit Svensson - حفل تسليم جائزة أطوار بهجت في منتدى الإعلاميات العراقيات ببغداد. Preisverleihung des IWF in Bagdad
حفل تسليم جائزة أطوار بهجت في منتدى الإعلاميات العراقيات ببغداد، وهي جائزة تُمنح سنويًا في اليوم العالمي للمرأة لصحفيات من دول عربية مثل مصر والأردن والمملكة العربية السعودية واليمن وطبعًا من العراق، وذلك تقديرًا لهن على إنجازهن عملهن بشجاعة وإقدام. صورة من: Birgit Svensson

وتقول رئيسة المنتدى الدكتورة نبراس المعموري التي عملت صحفية في وسائل الإعلام التلفزيونية والمطبوعة طيلة اثنين وثلاثين عامًا: "عندما بدأنا في هذا المنتدى كشبكة للصحفيات قبل ثلاثة عشر عامًا، كان عددنا عشر صحفيات أو اثنتي عشرة صحفية". وقد موَّلت السفارة الألمانية ورشات عمل ودورات تعليمية كان آخرها في عام 2020 وقدَّمت اللجنة الأمريكية لحماية الصحفيين الدعم والمساعدة لهذا المنتدى الذي أصبح يُعَدُّ اليوم جزءًا من هيئة الأمم المتحدة للمرأة ويضم أكثر من أربعمائة عضوة مسجَّلات في جميع أنحاء العراق ويعملن بنشاط في الصحافة العراقية.

لقد أصبحت الحملات الهادفة إلى رفع مستوى الوعي بقضايا مثل العنف ضدَّ المرأة وزواج الأطفال وحرِّية التعبير عن الرأي في العراق جزءًا لا يتجزَّأ من أنشطة هذا المنتدى، بالإضافة إلى نشره نشرة دورية اسمها مجلة "صوتها".

هذا وقد أشاد المتحدِّث الوحيد في هذه الأمسية، السيِّد مجاهد أبو الهيل -عضو مجلس مفوضي هيئة الإعلام والاتصالات الحكومية- بجهود المنتدى وأثنى أيضًا على مدى تقدُّم المرأة في العراق.

وأشار إلى أنَّه بات من الطبيعي اليوم رؤية وجه امرأة على شاشة التلفزيون أو سماع صوت امرأة في الراديو. وأضاف منتقدًا أنَّ الصحافة بشكل عام لا تزال تبحث عن مكانها في العراق، حيث لا توجد تقريبًا وسائل إعلام مستقلة وذلك بسبب ارتباطها إمَّا بأحزاب سياسية أو بجماعات دينية، وهنا لا يختلف وضع الصحفيات عن وضع زملائهن الرجال.

صورة من: Birgit Svensson - جدارية – رسمة امرأة عراقية ثورية. Irakische Revolutionärin
بدأت في العراق حركةٌ مضادةٌ منذ تقهقر تنظيم الدولة الإسلامية داعش في عام 2017: "منذ ذلك الحين صار يتضاءل نفوذ المتديِّنين باستمرار وارتفعت بسرعة معدَّلات الطلاق وصارت النساء يطالبن بالاستقلال. وأصبحت أعداد النساء العاملات ترتفع باستمرار وترتفع معها أعداد النساء اللواتي يقرِّرن نزع حجابهن ويردن العيش بمفردهن ويُشكِّكن في المرجعيات"، كما تكتب بيرغيت سفينسون. صورة من: Birgit Svensson

وذكرت رئيسة منتدى الإعلاميات العراقيات السيِّدة نبراس المعموري أنَّ هدف جهودها الأساسي هو المساواة بين الرجل والمرأة في الإعلام. وأضافت أنَّ هذه المساواة ما تزال بعيدة المنال وأنَّ: "النساء يتعرَّضن لضغوطات أضخم بكثير مما يتعرَّض له الرجال، ويجب عليهن الكفاح أكثر من الرجال". وقالت بعد سؤالها عن ارتباط الصحافة العراقية بالأحزاب السياسية والجماعات الدينية إنَّ تبعية وسائل الإعلام العراقية هذه ما تزال حاليًا غير مطروحة للنقاش.

نيتا أرشاجيان امرأة عراقية من أصول أرمنية - تقول إنَّها لا تستطيع تصوُّر العمل كصحفية. لقد عملت مترجمة فورية من الإنكليزية إلى العربية في ورشات عمل أقامها المنتدى ودعا إليها مدرِّبين أجانب. وتقول إنَّ "الصحفيين يتعرَّضون باستمرار لانتقادات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ". وتضيف أنَّ النساء على وجه الخصوص يتعرَّضن باستمرار لانتقادات هنا وهناك.

روان الزيدي شابة عمرها ستة وعشرون عامًا وهي تجد الضغط الذي تتعرَّض له الصحفيات في العراق شديدًا جدًا ولذلك فقد قرَّرت عدم تعريض نفسها له على المدى الطويل. وقد حصلت بعدما أكملت دراستها على وظيفة في محطة تلفزيونية عراقية. وتقول معلقةً على الوضع في بلدها: "تواجه المرأة العاملة في مجال الصحافة انتقادات مستمرة من جميع الجهات". وتضيف أنَّها لم تتحمَّل ذلك - ولم تكن تريد تحمُّله أيضًا. ولذلك فقد أصبحت روان الزيدي سيدة أعمال.

العمل باجتهاد ونجاح

وأسَّست شركة تساهم في إعادة تشجير أشجار النخيل في بلاد الرفدين دجلة والفرات، وهي منطقة تضرَّرت بشدة من تغيُّر المناخ، والعراق يشتهر تقليديًا بأشجار النخيل التي يمكن العثور عليها في شعارات كثيرة وعلى بطاقات العمل وشعارات الشركات والرايات.

من المعروف أنَّ أفضل التمور في العالم كانت تأتي في الماضي من بلاد ما بين النهرين. ولكن ذلك انتهى منذ فترة طويلة. أمَّا اليوم فتصطف في الشوارع غابات من أشجار النخيل الميِّتة. وروان الزيدي تريد تغيير ذلك. وفي عام 2018 جاءتها فكرة تجديد زراعة ملايين من أشجار النخيل التي من المفترض أن تمتص غاز ثاني أكسيد الكربون في العراق.

وبدأت عملها بقرض بنكي. وحول ذلك تقول: "كان من المهم بالنسبة لي أن أُوفِّر السلسلة بأكملها: من زراعة الشتلات إلى الحصاد وصولًا إلى المستهلك". وتضيف أنَّ المعرفة بطبيعة التربة وخصائصها في مختلف المناطق في العراق وبالحاجة إلى الماء والري الصحيح تمثِّل شرطًا أساسيًا لنمو أشجار النخيل بشكل جيِّد.

وتقول: "نحن نعتني بأشجار النخيل من الألف إلى الياء". أطلقت روان الزيدي اسم النخلة على شركتها التي صارت توظِّف الآن خمسين موظفًا وتعمل في جميع أنحاء العراق - من محافظة الديوانية ومدينة الكوت في الجنوب وحتى مدينة الموصل في الشمال. وبحسب تعبيرها فقد كانت الموصل في الماضي مدينة باردة ولكن تغيُّر المناخ جعلها أكثر دفئًا.

"واليوم بإمكاننا زراعة أشجار النخيل هناك أيضًا"، كما تقول. وفي عام 2022 حصلت الشابة روان الزيدي -المولودة في منطقة الكرادة ببغداد- على "جائزة الطاقة الدولية النمساوية" التي تُعَدُّ أهم جائزة بيئية في النمسا، وذلك تقديرًا لها على عملها المستدام في مجال حماية المناخ.

صورة من: Birgit Svensson - الشابة العراقية الناشطة البيئية روان الزيدي المولودة في منطقة الكرادة ببغداد. Unternehmerin Rawan al Zaidi
حصلَت في عام 2022 الشابة روان الزيدي -المولودة في منطقة الكرادة ببغداد- على "جائزة الطاقة الدولية النمساوية" التي تُعَدُّ أهم جائزة بيئية في النمسا، وذلك تقديرًا لها على عملها المستدام في مجال حماية المناخ. صورة من: Birgit Svensson

لهذا تراجعتْ مكانة المرأة في العراق إثْر الاجتياح الأمريكي

لقد مرَّت على النساء في العراق تقلبات كثيرة خلال العشرين سنة الماضية. وفي الواقع لم يكن نظام صدام حسين الدكتاتوري يستهدف النساء بشكل خاص، بل كان يستهدف جميع الذين يُشكِّكون في سلطته، وكان يلاحقهم بلا رحمة، بمن فيهم النساء أيضًا. ولكن على الرغم من ذلك يقول الكثيرون إنَّ حقوق المرأة في المجتمع العراقي كانت أفضل في عهد الطاغية صدام حسين مما باتت عليه منذ إسقاط نظامه.

فقد عانت النساء بشكل خاص بعد الاجتياح الأمريكي في عام 2003 من عواقب فوز المتديِّنين المتشدِّدين في الانتخابات ودخلولهم البرلمان وتشكيلهم الحكومة وملئهم فراغ السلطة.

كما أنَّ العراقيين المنفيين -الذين عادوا من إيران إلى العراق وأدخلوا معهم عادات الملالي الشيعة- حوَّلوا مدينة البصرة الجنوبية إلى مدينة لـ"طيور البطريق": حيث كانت النساء يرتدين في الخارج العباءات السوداء والنقاب الأسود وتحته ربطة بيضاء على جبهاتهن. وحتى النساء المسيحيات استسلمن في النهاية لهذه الضغوطات وبدأن فجأة في تغطية أنفسهن تمامًا باللون الأسود.

ومن جانبهم قام المتطرِّفون السُّنة في تنظيم القاعدة بتشديد الأحكام المفروضة على النساء. ولم تعد قيادة السيارات مسموح بها للنساء وأصبح كشف المرأة عن أي شيء منها من أشدّ المحرَّمات. وهكذا صارت حتى إلهة السومريين القدماء "إنانا" -التي تعود إلى قبل خمسة آلاف عام وكانت تُصَوَّر عارية- تُغطَّى بحجاب أو يُمنع ظهورها في الأماكن العامة مثل المتاحف أو في رواق وزارة الثقافة.

إرهاب تنظيم داعش والعنف الأسري

وكانت الكتب والمنشورات تخضع للرقابة من أجل التحقق من محتواها الديني والرسوم التوضيحية وغالبًا ما كانت تُسحب من السوق. وكانت بعض النساء يشعرن بخوف شديد من هذا الوضع الجديد بحيث أصبحن لا يغادرن بيوتهن طيلة أشهر. ثم جاء إرهاب ميليشيا تنظيم الدولة الإسلامية داعش الذي يطلق عليه العراقيون اسم "القاعدة 2.0" - مما أدَّى من جديد إلى تفاقم الوضع بالنسبة للجميع.

ولكن النساء لم يعانين فقط من عنف المتطرِّفين الإسلامويين، فقد زاد خلال هذه السنين العنفُ الأسري أيضًا، ولذلك شكَّل التحرير من تنظيم الدولة الإسلامية داعش في عام 2017 سببًا خاصًا جدًا لراحة النساء، فقد بدأت حركة مضادة.

ومنذ ذلك الحين صار يتضاءل نفوذ المتديِّنين باستمرار وارتفعت بسرعة معدَّلات الطلاق وصارت النساء يطالبن بالاستقلال. وأصبحت أعداد النساء العاملات ترتفع باستمرار وترتفع معها أعداد النساء اللواتي يقرِّرن نزع حجابهن ويردن العيش بمفردهن ويُشكِّكن في المرجعيات.

وحتى وإن كانت حركة الاحتجاجات التي دفعت جماهير الشباب العراقي إلى الشوارع في عامي 2019 و2020 قد فشلت في الوقت الراهن فإنَّ الثورة داخل المجتمع العراقي ما تزال مستمرة. وروان الزيدي ليست إلَّا مثالًا واحدًا من بين أمثلة كثيرة.

صورة من: Birgit Svensson - رئيسة منتدى الإعلاميات العراقيات السيِّدة نبراس المعموري (هنا على اليسار في الصورة). IWF Vorsitzende  Nibras Al Mamory
تقول رئيسة منتدى الإعلاميات العراقيات السيِّدة نبراس المعموري (هنا على اليسار في الصورة) إنَّ هدف جهودها الأساسي هو المساواة بين الرجل والمرأة في الإعلام. صورة من: Birgit Svensson

التودُّد للعراقيات الناجحات

ومن بين هؤلاء النساء مثلًا مصمِّمة الأزياء آلاء التي أسَّست علامتها التجارية الخاصة بها وصارت تملك مشغلًا وأستوديو ويعمل بهما الآن خمسة موظفون. أو كذلك غادة التي تدير أكبر مجموعة إعلامية في العراق وأصبحت قدوة بالنسبة لكثير من النساء.

أو هايدي التي يبلغ عمرها أربعة وعشرين عامًا وتعتبر حاليًا عازفة الكمان المنفردة الأكثر رواجًا في العراق ولا تقف في دائرة الضوء خلال حفلاتها الموسيقية فقط بل تُقدِّم نفسها أيضًا وبنشاط في وسائل التواصل الاجتماعي. وأخيرًا وليس آخرًا سهاد التي كسرت الحواجز مع محيطها الثقافي في مدينة البصرة جنوب العراق وذلك بسبب التزامها بالحوار بين الجنسين.

يمكننا ذكر الكثير من الأمثلة الأخرى التي تُظهر قوة النساء في العراق. وحاليًا أصبح رائعًا في العراق أن يكون الشخص امرأة وشابة. فقد بات السياسيون وكبار الشخصيات يتودَّدون للنساء الناجحات ويمنحونهن جوائز ويهتف لهن الشباب العراقيون الذين يحتفون بهن كأيقونات. وصارت المنظمات القديمة تُجدِّد نفسها بلجان نسائية وبدأت تظهر مجموعات دردشة للنساء وكذلك لقاءات نسائية لكلِّ مجموعة مهنية تقريبًا.

كما أنَّ الناشطات المدافعات عن حقوق المرأة -مثل الكاتبة العراقية نازك الملائكة (1923-2007) التي وُلِدَت في بغداد قبل مائة عام- أصبحن يعشن نهضة. وصار يأتي لحضور الأمسية المخصصة لإحياء ذكراها كلُّ مَنْ توجد لديه حاليًا مكانة واسم في العراق - وحتى الذين اشتهروا طيلة سنين بقمعهم للنساء.

 

بيرغيت سفينسون

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2024

Qantara.de/ar