صراعات الشرق الأوسط الحالية وليدة حروب الماضي الاستعمارية
سوريا المجزَّأة تغرق في فوضى، وبالعراق تنتشر حالاتُ تمرُّدٍ، وفي بعض مناطق المشرق يسعى الأكراد إلى فرض حكمهم الذاتي، وفي الضفة الغربيَّة تؤدي هجمات عربيَّة على مستوطنين يهود إلى ردود فعلٍ مماثلةٍ. وفي آخر الأمر يتم الإعلان عن خليفةٍ جديدٍ، لكن لا يعترف به سوى أتباعه. إذًا، بعد سنواتٍ قليلةٍ عمَّت فيها أجواء التفاؤل تنتشر الخيبة في كلّ مكان.
كلمات هذه السطور تبدو وكأنـَّها تـُعدِّدُ أحداث سنة 2014 في الشرق الأوسط، لكنها في الواقع تَصِفُ وضع المنطقة في منتصف عشرينيات القرن الماضي. ورغم انقضاء العام السابق في ظل إحياء ذكرى الحرب العالمية الأولى، قلما نجد أحدًا يضع التطورات الحالية في الشرق الأوسط في سياق عواقب الصراع الكبير الذي كان قائمًا قبل قرنٍ من الزمن. هذا على الرغم من أنَّه لم تتم إعادة رسم خريطة أوروبا من جديدٍ بعد انتهاء الحرب وحسب، إنما أيضًا خريطة الشرق الأوسط.
زوال الخلافة – من الإمبراطورية العثمانية إلى المملكة العربية السعودية
هُزم العثمانيون في نهاية الحرب العالمية الأولى، وتم الإعلان عن قيام مملكة عربية في دمشق – وبدا الأمر وكأنَّ شعوب المنطقة على وشك أنْ تنال استقلالها. وبعد فترةٍ وجيزةٍ صار الشرق الأوسط بدءًا من المناطق السكنية الكرديَّة في الشمال نزولًا إلى البحر الأحمر وصولاً إلى الخليج العربي تحت هيمنة القوى الاستعمارية الأوروبية الأعظم.
بزوال الإمبراطورية العثمانية سقط السقف المشترك الذي كان يضمن التعايش بين الشعوب المختلفة فترةً طويلةً. أما تركيا الجديدة ، فلم تَتَّبِع في عهد مصطفى كمال سياسةً قوميَّةً وحسب، بل أيضًا سياسةً معاديةً للدين، ففي سنة 1924 ألغى برلمان أنقرة رسميًا الخلافة، التي كان العثمانيون على رأسها. وليس من قبيل الصدفة أنْ تكون الحركات الإسلاميَّة الحديثة -التي يدعو عددٌ كبيرٌ منها حتى اليوم إلى العودة إلى الخلافة- قد نمت في السنوات اللاحقة لذلك.
نَشطَ وقتذئذٍ في أول الأمر الحاكم المعروف، حاكم مكَّة الشريف حسين الذي نَصَّبَ نفسه خليفةً -وكان البريطانيون قد وعدوه قبل ذلك بسنوات بالدعم- فما كان للقوات السعوديَّة إلا أنْ طردته من مكَّة المكرَّمة. ومنذ ذلك الحين يسيطر حكَّام المملكة العربية السعودية على مكة والمدينة ويسعون عبر معتقدهم الوهابي إلى تبوُّأ مركز القيادة الإسلامية.
فن الدبلوماسيَّة والدول المصطنعة
بالإضافة إلى ذلك، لا يزال نظام الدول الذي أنشأته آنئذٍ القوى الأوروبية المنتصرة -على أنقاض الإمبراطورية العثمانية- قائمًا حتى يومنا هذا. حيث تمت إعادة ترسيم الحدود في المنطقة بدءًا من سنة 1920 على أساس تفاهماتٍ تمَّت بين دبلوماسيٍ بريطانيٍ وآخرَ فرنسيٍ. تفاهماتٌ أفضت إلى اتفاقيَّةٍ سُميَّت باسمهما وهي اتفاقية سايكس بيكو.
ومنذ البداية اعتبر كثيرون أن تقسيم دول المشرق العربي الجديد مصطنعًا. ولم تكُن هذه المناطق مستعمراتٍ بريطانيَّةً وفرنسيَّةً رسميًا، بل مناطق منتدبةً بتفويضٍ من عصبة الأمم افترَضَ أنْ تُخضِع الدول لأوروبا فترةً قصيرةً فقط، أي حتى تصبح شعوب الشرق الأوسط –التي لم يُسمح لها بإبداء رأيها بالأمر– مهيأةً للاستقلال.
الأردن: اختراعُ أمةٍ
أسَّست الحكومة في لندن دولتي العراق وإمارة شرق الأردن خصيصًا لاستخدامها في إرضاء حلفائها السابقين ضد العثمانيين. فحكم واحدٌ من أبناء الشريف حسين في بغداد وآخر في عمان – طبعًا بدعم (و/ أو تحت سيطرة) مستشارين من لندن.
لخَّصَ ونستون تشرشل في سنة 1921 الذي كان وقتئذٍ وزير المستعمرات، الدعم البريطاني للدول المنتدبة التي كانت تتطلع للاستقلال بقوله: "حين يعلم فيصل في العراق أنَّ كُلّاً من الدعم المادي لوالده حسين وحماية الأماكن المقدسة من هجوم وهابي وكذلك تنصيب أخيه عبد الله في إمارة شرق الأردن مرهونٌ بحسن سلوكه تجاهنا: فعندها سيكون التعامل معه أسهل بكثير". بهذا كان عصر النفوذ الغربي على الحكومات الوطنيَّة الصورية قد بدأ.
مع ذلك، لا يزال الأردن حتى يومنا هذا يستمد هويته الوطنية على وجه الخصوص من السلالة الحاكمة –الملك عبد الله الأول الذي نصَّبه البريطانيون مَلِكًا، وكان والدَ جدِّ الملك الحالي عبد الله الثاني، بينما لم يكُن من المقرَّر في الأصلِ أن يصبح الأردن دولةً مستقلَّةً، بل أنْ يكون جزءًا من فلسطين. ولم تنشأ البلد على ضفة نهر الأردن الأخرى ولم تعتبر إمارة شرق الأردن كوحدة منفصلة، إلا بعدما حدَّد المندوب السامي البريطاني النهر حدودًا للمستوطنات اليهودية.
نظرًا لتاريخ النشؤ هذا، لا غرابة في مساعي السياسيين الإسرائيليين المتكررة في اعتبار الأردن نوعًا من البديل لفلسطين. بديلٌ من شأنه استيعاب كلِّ عرب الضفة الغربيَّة.
العراق: فسيفساءٌ متصدِّعةٌ
أنشأ ترسيم الحدود التعسفيُّ للغاية في مناطق أخرى فسيفساء حقيقيةً مكوَّنةً من مجموعاتٍ عرقيةٍ مختلفةٍ. العراق على سبيل المثال ، أكبر البلدان الجديدة، جرى تشكيله من ثلاث محافظات عثمانية سابقة، وكانت وفقًا لذلك غير متجانسة: كان أغلب السكّان في محيط الموصل من الأكراد السُّنَّة الذين كانوا يسترشدون بالأناضول، وفي محيط بغداد كانوا من العرب السُّنَّة الذين تطلعوا نحو سوريا، وفي محيط البصرة كانوا عربًا شيعةً وكانت لهم علاقات وثيقة بإيران.
بالإضافة إلى ذلك كانت هناك جماعاتٌ صغيرةٌ من الأقليات مثل التركمان السُّنَّة والآشوريين المسيحيين أو الأيزيديين. كل هذه الأقليات تجرأت في وقتٍ من الأوقات وتمرَّدت على الحكومة السُّنيَّة في بغداد – لكن بمساعدة سلاح الجو البريطاني ارتدَّت مهزومة.
لم تنتهِ هيمنة الأقليَّة العربيَّة السُّنيِّة في العراق إلا بعد سقوط نظام صدام حسين سنة 2003 – بالذات من خلال تدخُّلٍ غربيٍّ، كما كان الأمر لدى تشييد الدولة العراقيَّة في الأصل. ومنذ ذلك الحين فقدت الحكومة الشيعيَّة في بغداد السيطرة على المناطق الكرديَّة المستقلَّة في الواقع من جهة، كما وجدت نفسها اليوم في مواجهة مع تمرُّد الميليشيا السُّنيَّة التابعة لتنظيم "الدولة الإسلامية" من جهةٍ أخرى. إذًا، انقلب الوضع، وحدها هشاشة العراق بقيت كما كانت من ذي قبل.
سوريا ولبنان: الطائفيَّة هي البديل
أظهرت لبنان وهي الدولة الأصغر التي نتجت عن نظام الانتداب منذ البداية تنوُّعًا مشابهًا لدولة العراق التي تفوقها مساحةً بأربعين مرةً، وقد كان مخططًا لها أنْ تكون وطنًا للموارنة، وهم مسيحيون عرب اعتبرتهم فرنسا منذ فترةٍ طويلةٍ في حاجةٍ خاصة إلى الحماية، ولكن فجأةً شمل الإقليم الذي جرى تحديد حدوده في باريس مساحةً أكبرَ بكثير من جبال لبنان التي كان المسيحيون يعيشون فيها. إلا أنَّ كثيرًا من المواطنين في لبنان كانوا يعتبرون أنفسهم سوريين أصلاً أو ببساطة عربًا مسلمين سُّنَّةً، حتى أنَّ بيروت كانت ترى نفسها كإحدى الحواضر الإقليميَّة في العالم العربي في الدولة الصغيرة ذات الهيمنة المسيحيَّة.
على الرغم من إنشاء الدولة باعتبارها دولةً مارونيَّةً (حتى اليوم لا بدَّ وأنْ يكون رئيس الدولة مارونيًا)، يوجد في لبنان 18 طائفةً مسيحيَّةً وإسلاميَّةً ويهوديَّةً معترفٌ بها. ومنذ الحرب الأهلية التي عمَّت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي تطغي الطائفيَّة تمامًا على السياسة.
ويبدو أنَّ حدود الدول تفقد أهميتها بشكلٍ متزايدٍ تجاه هذه الهويات الطائفية منذ اندلاع الحرب الراهنة في سوريا، وربما يكون المثال الأكثر شهرةً هو دعم حزب الله الشيعي اللبناني للنظام السوري ذي الطابع العلوي (وحليف إيران). لكن الجدير بالذكر أيضًا أنَّ السُّنَّة والدروز ومختلف الطوائف المسيحيَّة موجودة في لبنان كما في سوريا.
وتظهر هذه الطوائف في كِلا البلدين من خلال الصراع بشكلٍ متزايدٍ كقوى محليةٍ لها ميليشياتها الخاصة. وكما هي الحال في العراق، يبدو أنَّ استقرار الدولة المركزية لن يتحقق في المستقبل القريب بسبب هذه الميليشيات، وربما يكون تقسيم الدول "المصطنع" الذي انبثق عن اتفاقية سايكس بيكو قد شارف على زواله فعليًا بعد ما يقارب المائة عامٍ.
يعقوب كرايس
ترجمة: يوسف حجازي