رهانات أردوغان الاقتصادية على الخليج العربي
بعد نجاحه في الانتخابات الرئاسية التركية -لخمس سنوات إضافية- انطلق رجب طيب إردوغان في رحلة سريعة وزار المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة على التوالي بين 17-20 تموز/يوليو 2023. وافق إردوغان على تحسين التعاون الدفاعي مع كل من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، إضافة إلى إبرام عدد من الصفقات التجارية.
وعلى الرغم من احتفاظ تركيا بقاعدة عسكرية في قطر لما يقارب من 10 سنوات الآن، بيد أنّ الطريق إلى الشراكة الاستراتيجية مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية كان محفوفاً بالعقبات. ففي عام 2018، انخفض حجم التبادل التجاري الثنائي بين الإمارات وتركيا إلى أقل من 7 مليارات دولار، أي ما يقرب من نصف حجم التبادل التجاري بين البلدين لعام 2017، الذي وصل إلى 15 مليار دولار. ومنذ التحول في سياسة تركيا تجاه دول الخليج في عام 2012 شهد حجم التبادل التجاري انتعاشاً، وفي عام 2022 وصلت قيمته إلى 10 مليارات دولار.
واستمر المسار الإيجابي في الشهر الماضي: ففي تموز/يوليو 2023 وقّع إردوغان اتفاقيات مع الإمارات العربية المتحدة بقيمة 50 مليار دولار تقريباً، مؤكِّداً أنه "بفضل هذه الاتفاقيات أصبحت علاقتنا الآن عبارة عن شراكة استراتيجية".
— Bloomberg (@business) July 19, 2023
حل الأزمات شرط أساسي للشراكة الاستراتيجية
قال غالب دالاي، وهو زميل مشارك في جامعة أوكسفورد متخصص في السياسة التركية وشؤون الشرق الأوسط، إنه لا يزال من غير المؤكّد ما إن كانت الاتفاقيات التي تبلغ قيمتها 50 مليار دولار ستتحقق بأكملها، وبعضها مشاريع طويلة الأجل وبعضها الآخر مجرد تعبيرات عن الاهتمام. بيد أنّ دالاي اعترف بأنّ الاتفاقيات التي تم التوصّل إليها هذه المرة أكثر تفصيلاً وشمولاً وأكثر جدية بشكل عام من المحاولات السابقة للتوصّل إلى تفاهم.
لكنه يرى أنّ الوضعَ أكثر تعقيداً، إذ يقول دالاي: "هناك بعدان للخلاف بين الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وبين تركيا: أزمات سياسية وجيوسياسية. نشأت الأزمة السياسية في الغالب من الربيع العربي حين دعمت تركيا الجماعات الإسلامية. والآن -بعد مرور عشر سنوات- أصبحت مخاوف دول الخليج أقل بكثير".
كما أوضح دالاي، وهو مدير البحوث في منتدى الشرق كذلك، أنّ الأزمة الجيوسياسية مستمرة، على الرغم من أنّ الإرادة للتغلب عليها تبدو متزايدة. "كانت الفجوة بين طموحاتهم الجيوسياسية واحتياجاتهم الاقتصادية تتزايد: لم يحدث التطبيع إلا حين احتاجوا إلى سدِّ هذه الفجوة. ففي النهاية لا ينبغي للنشاط الجيوسياسي أن يقوِّض الاحتياجات الاقتصادية للبلدان. لنرى الآن إن كان التطبيع في التعاون الاقتصادي سيقود إلى تطبيع جيوسياسي".
وتشمل الأزمات الجيوسياسية المعنية الحرب الأهلية في ليبيا والنزاع في السودان والصراع من أجل المزيد من النفوذ في العراق. وفي جميع هذه المجالات تراجعت رغبة تركيا في المشاركة الفعالة كلما تحوّل اهتمامها أكثر نحو التعاون الاستراتيجي مع دول الخليج.
ولاحظ جورجيو كافيرو الرئيس التنفيذي لمركز تحليلات الخليج في واشنطن Gulf State Analytics -وهي شركة استشارية مختصة بتحليلات الأخطار الجيوسياسية مقرها العاصمة واشنطن- أن تركيا والإمارات العربية المتحدة يبدوان وقد تجاوزا التوترات التي اشتدّت بين أبو ظبي وأنقرة في مراحل سابقة في فترة ما بعد الربيع العربي. وأضاف: "مع التركيز بشكل أقل على الأجندات الإيديولوجية -وبشكل أكبر على العلاقات الاقتصادية والتجارية- فإنّ الدول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا -مثل الإمارات العربية المتحدة وتركيا- تدير سياسات خارجية أكثر براغماتية وأقل فكرية".
في أيار/مايو 2023 حين أعلن إردوغان لأول مرة أنه سيقوم بزيارة أخرى إلى الخليج قال إنّ هذه الزيارة ستكون من أجل شكر دول الخليج على المساعدة المقدّمة للبنك المركزي التركي الذي كان يكافح للعثور على احتياطيات. وقد جاء ردّ المملكة العربية السعودية على إظهار الامتنان هذا في شكل عرض لشراء طائرات بدون طيار هجومية تركية الصنع (درون). ومن الممكن أن يكون التعاون في مجال صناعة الدفاع إثبات على تقدّم العلاقات التركية-السعودية. وكما علّق دالاي يمكن أن يمتدّ هذا إلى أكثر من مجرد شراء منتجات الصناعة الدفاعية: لا يمكن استبعاد المشاريع المشتركة أو استبعاد شراء حصص في الشركات التركية على المدى الطويل.
وتعليقاً على التعاون في مجال صناعة الدفاع مع الإمارات العربية المتحدة، قال كافيرو: "من المحتمل أن تلعب الطائرات من دون طيار التركية دوراً مهماً للغاية في تشكيل مستقبل هذه العلاقة الثنائية مع سعي الإمارات العربية المتحدة إلى شراء المزيد من الطائرات بدون طيار التركية، والتي ساهمت كثيراً في نمو نفوذ أنقرة المتنامي في أجزاء كثيرة في العالم من أفريقيا إلى الشرق الأوسط ودول ما بعد الاتحاد السوفييتي".
تاريخ الأزمة
كانت التوترات مستمرة بين الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية من ناحية وبين تركيا وقطر من ناحية أخرى، منذ انتخاب جماعة الإخوان المسلمين -التي تعتبرها الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية "إرهابية"- في مصر في عام 2012. وقد أطيح لاحقاً بالإخوان المسلمين بانقلاب عسكري، باركته كل من أبو ظبي والرياض.
وفي حزيران/يونيو من عام 2017، قطعت أربع دول عربية -السعودية والإمارات ومصر والبحرين- علاقاتها الدبلوماسية وأغلقت حدودها مع قطر، التي اتهموها بدعم جماعة الإخوان المسلمين. كما طالبوا قطر بإغلاق القاعدة العسكرية التركية الموجودة على أراضيها.
وكانت الإمارات قد استدعت بالفعل سفيرها من أنقرة. وفي غضون ذلك اتّهمت تركيا الإمارات العربية المتحدة بدعم أولئك الذين حاولوا الإطاحة بالرئيس إردوغان في انقلاب في عام 2016. واستمر الخلاف لسنوات ووصل إلى نزاعات أخرى في المنطقة، مثل الحرب الأهلية في ليبيا، مع دعم الإمارات العربية المتحدة وتركيا لأطراف مختلفة.
وبحلول عام 2018، كان اقتصاد تركيا يعاني من العديد من المشاكل. وفي العام التالي فقدت الليرة التركية أكثر من 50% من قيمتها. ومن أجل جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية بدأت تركيا تتطلّع إلى ترميم صداقاتها القديمة في الخليج.
وفي ذلك الوقت بلغت التوترات مع الإمارات العربية المتحدة ذروتها. فقد وفّرت الإمارات ملجأ آمناً لسادات بيكر، رجل العصابات التركي المُدان، والذي كان هارباً. وبدأ بيكر بنشر مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي وتقديم مزاعم غير مُوثّقة عن فساد على مستوى عالٍ للغاية، ناهيك عن جرائم قتل وتجارة مخدرات من قبل كبار السياسيين الأتراك. بالنسبة للرئيس إردوغان لم يعد ترميم العلاقات مع الإمارات العربية المتحدة يتعلّق بالمال فحسب.
كما أنّ الأمور لم تكن واضحة في حالة المملكة العربية السعودية كذلك: ففي تشرين الأول/أكتوبر 2018 قُتِل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي بوحشية في القنصلية السعودية في إسطنبول. وضمنت الرئاسة التركية وصول وسائل الإعلام العالمية إلى جميع المعلومات والاستخبارات من مكان الحادث والتي تربط ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بمقتل خاشقجي.
ورداً على ذلك، فرضت السعودية حظراً غير رسمي على المنتجات التركية. وكان حجم التبادل التجاري بين البلدين قد تجاوز 5 مليارات دولار في عام 2019؛ وبحلول عام 2021 انخفض الرقم إلى 3.5 مليار دولار. ومن هذا المبلغ بلغت واردات المملكة العربية السعودية إلى تركيا أكثر من 3 مليارات دولار. وفي عام 2021 -كما حدث مع الإمارات العربية المتحدة- وصلت التوترات إلى درجة اضطرت تركيا إلى التراجع.
وبمجرد أن أشارت تركيا إلى أنها مستعدة للتغاضي عن مقتل خاشقجي والتقارير التي تتحدث عن تورطها في محاولة الانقلاب في عام 2016 كان هناك تقارب آخر يلوح في الأفق، وهذه المرة مع المملكة العربية السعودية.
حلّ الأزمة الخليجية أمر أساسي لإعادة بناء العلاقات
في كانون الثاني/يناير 2021 توصّلت قطر ودول الخليج المشاركة في الحصار المفروض عليها إلى اتفاق وانتهى الحصار. وبعد ذلك بوقت قصير زادت الاتصالات بين الوزراء الأتراك ونظرائهم في أبو ظبي والرياض.
وفي حزيران/يونيو 2021 ظهر سادات بيكر على وسائل التواصل الاجتماعي ليقول إنّه تلقى تحذيراً من المسؤولين الإماراتيين ولن ينشر أي مقاطع فيديو أخرى. كما شهد العام ذاته موجة من الأنشطة الرفيعة المستوى، والتي تُوِّجت بتوقيع اتفاقيات تجارية بين أنقرة وأبو ظبي.
وكانت الاتفاقية الأخيرة التي وقّعها رجب طيب إردوغان في تموز/يوليو 2023 الأكبر حتى الآن وتشملُ صفقة شراكة استراتيجية. كما اتفقت تركيا والإمارات على تسليم عدد من الأفراد المطلوبين. ولا يزال من غير الواضح كيف سيؤثر ذلك على وضع بيكر.
وقد أثبتت المملكة العربية السعودية أنها أكثر صرامة من الإمارات العربية المتحدة. إذ بدأ إردوغان بالحديث عن زيارة إلى الرياض للقاء محمد بن سلمان في أواخر عام 2021. بيد أنّ ذلك لم يحدث حتى نيسان/أبريل 2022، حين أغلقت تركيا -في خطوة رمزية للغاية- دعوى المحكمة التركية ضد المشتبه بهم المتورطين في مقتل خاشقجي، وهم 26 مواطناً سعودياً.
ومنذ الزيارات المتبادلة التي قام بها إردوغان ومحمد بن سلمان العام الماضي 2022 بدأ التعاون الاقتصادي بين البلدين بالتحسّن تدريجياً. ومع الأخذ بالاعتبار فضيحة خاشقجي فإنّ التبادلات بين الرياض وأنقرة في الآونة الأخيرة أقل من دبلوماسية، وهذا هو السبب في أنّ إعادة العلاقات تستغرق وقتًا أطول مما قد ترغب فيه تركيا، أو حتى تتوقعه.
وقد خلص دالاي إلى أنّ "المملكة العربية السعودية تعتبر نفسها الأخ الأكبر في الخليج كذلك. وإذا حقّقت تركيا مكاسب في المنطقة، فسيؤثر ذلك على "منطقة الهيمنة الطبيعية" للسعوديين". ولهذا السبب يتقدّمون بحذر أكبر.
ليلى إيغلي
حقوق النشر والترجمة: موقع قنطرة 2023