مثقفو ألمانيا وانعطافة ميركل الإنسانية
على الرغم من أن صعود نجم المستشارة "المتواضعة" أنجيلا ميركل، ونجاحها في تشكيل أول حكومة ديمقراطية تقودها سيدة في عام 2005 شكل علامة فارقة في تاريخ ألمانيا وديمقراطيتها التوافقية، إلا أنها لم تنجح في سنوات حكمها الأولى في فرض حضورها على آليات صناعة القرار السياسي في البلاد بشكل واضح.
وفي الحقيقة لم تكن تملك ميركل في سنوات حكمها الأولى مشروعاً سياسياً يميزها عن مستشاري ألمانيا السابقين. كما تميز أسلوب قيادتها للحكومة بالموضوعية البحتة و"التريث الموجه والمصبوغ بعقلانية محضة وبرغماتية لا تعرف الحدود، خصوصاً إذا تعلق الأمر بالحفاظ على سلطتها داخل منظومة القرار السياسي الألماني"، وفق تعبير الباحث، ريتشارد مينغ، الذي قارن في كتابه "دولة ميركل ـ إلى أين تقود المستشارة ألمانيا؟" أداء أقوى سيدة في العالم آنذاك بحالة من "الجمود الموجه والمقنع" تحت شعار سياسة الخطوات الصغيرة.
وفي الواقع بدأ نهج ميركل الحذر بالتغير مع تعاظم دور ألمانيا في مواجهة الأزمة الاقتصادية الأوروبية، فللمرة الأولى تتبنى ميركل موقفاً واضحاً لا لبس فيه مفاده أن فشل اليورو يعني انهيار مشروع الوحدة الأوروبية وتصر على ضرورة بقاء اليونان داخل منطقة اليورو على الرغم من معارضة غالبية الدول الأوروبية لها.
غير أن التحول الأكبر والأهم تجسد في انعطافة ميركل الإنسانية، في شهر سبتمبر الماضي، حين اتخذت قراراً تاريخياً بفتح حدود ألمانيا أمام مئات الآلاف من اللاجئين وتعليق العمل باتفاقية دبلن، التي تنظم إجراءات منح حق اللجوء السياسي داخل الاتحاد الأوروبي.
تحول سيسيولوجي جوهري في بنية ألمانيا المحافظة
التحولات السياسية الدراماتيكية في المشهد السياسي الألماني في الشهور الأخيرة أثبتت أن قرار المستشارة، باستقبال أكثر من مليون لاجئ، في عام واحد، حرب، لم يشكل مغامرة سياسية كان بالإمكان أن تهدد مستقبل مستشاريتها وحسب، بل إنها أبرزت حجم التغييرات الديمغرافية والثقافية في ألمانيا في العشرين عاماً الماضية بشكل لا لبس فيه.
أعطت هذه النقلة الإنسانوية النوعية دلالة على تحول سيسيولوجي جوهري في بنية ألمانيا المحافظة. فبجانب منظمات المجتمع المدني برز حضور الألمان من أصول مهاجرة، الذين طالما وقفوا على هامش المجتمع، في العمل التطوعي لمساعدة اللاجئين والترويج لواقع المجتمع الألماني متعدد الثقافات والأديان والإثنيات.
هذا الانفتاح، خصوصاً شقه الثقافي، والذي يمثل تصالح النخبة الألمانية مع واقع المجتمع، أثار حفيظة تيارات سياسية محافظة ترفض مبدئياً واقع ألمانيا الجديدة وتتبنى رؤى ثقافوية تبتعد في الواقع عن روح الدستور الألماني، والتي وجهت انتقادات حادة، شعبوية الطابع، لسياسة ميركل.
فعلى سبيل المثال اتهم الفيلسوف الألماني، بيتر سلوتردايك، المعروف بمفكر "الفقاعات الإعلامية"، ميركل بتخليها عمّا يميز الدولة القومية الحديثة، وهو السيادة وقدرتها على السيطرة على حدودها.
وعلاوة على ذلك سار الكاتب والناقد الأدبي المعروف، روديغر سافرانسكي، في التعبير عن مخاوفه وادعى في حوار مطول مع صحيفة "نيوي تسوريشر تسايتونغ" أن النخبة السياسية الألمانية لا تزال في "طور المراهقة" ولا تملك القدرة لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل. فهو يعتبر تسونامي اللاجئين، المنتمين إلى ثقافات وأديان وأعراق وتقاليد تختلف عن الثقافة الألمانية، تهديداً للهوية الألمانية لا يمكن الاستخفاف به.
أطروحات التبسيطية
وبغض النظر عن بؤس إعادة إنتاج صور نمطية عن المهاجرين والمسلمين من مثقفين مرموقين لم ينجحوا، كما يبدو، في تجاوز حدود المركزية الأوروبية فقط، تكمن المفارقة اللافتة للأنظار في هذا الأطروحات التبسيطية في تبنيهم مواقف تتناقض كلياً مع القيم الإنسانية والحضارية، التي يتشدقون بها صباحاً ومساء.
وعلى ما يبدو اضطر المفكر والباحث في العلوم السياسية في جامعة هومبودولت البرلينية، هيرفريد مونكلر، المعروف بعمق تحليلاته، إلى الرد على هذه الانتقادات بشكل قاس في مقال خص به صحيفة "دي تسايت" الأسبوعية، إذ اتهم الكاتبين بـ"السذاجة الجيوسياسية" و بـ"اللا مسؤولية" حيال مستقبل أوروبا وبعدم القدرة على فهم الدوافع والأبعاد الحقيقية لسياسة ميركل.
لذلك قدم مونكلر توضيحاً لماهية سياسة فن الممكن "الميركلية"، فالمستشارة الألمانية اضطرت إلى اتخاذ قرار فتح الحدود، ليس لتفادي كارثة إنسانية فقط، بل لأنها أرادت من خلال هذه الخطوة منع انهيار دولة أوروبية كاملة لا تستطيع استيعاب الكم الهائل للاجئين بأي ثمن، بالإضافة إلى انهيار اتفاقية شينغن، وهو ما كان سيؤدي حتماً إلى انتهاء الاتحاد الأوروبي ككتلة سياسية واقتصادية، وفق رؤية الباحث البرليني.
أما الكاتب الألماني البارز، رفيق شامي، المتحدر من أصول سورية، فوجه سهام نقده الحاد إلى نقاد سياسة الترحيب بالمهاجرين من المثقفين الألمان، واتهمهم في مقابلة أجرتهما معه "برلينر تسايتونغ" بتواضع الرؤية السياسية وبالتقليل من شأن تضحيات المجتمع المدني وبالمشاركة في إعادة إنتاج قوالب ذهنية وكليشيهات غربية عن العرب والعالم العربي، فهؤلاء "السادة الأفاضل يتقبلون العربي عندما يعيش ثلاثة آلاف كيلومتر بعيداً عنهم أو عندما يؤكد أحكامهم المسبقة ولا يذكرهم بالحملات الصليبية وبعدائهم للإسلام"، الأمر الذي اعتبره "شكلاً مقبولاً اجتماعياً وسياسياً لظاهرة العداء للسامية حالياً".
لؤي المدهون
(إعلامي وكاتب مختص بالشأن الألماني)
نُشر هذا المقال في "ملحق الكتاب ـ صحيفة العربي الجديد" لأول مرة.