مساجد عادلة بيئياً واجتماعياً في ألمانيا
هناك أنواع مختلفة من الشاي المنتج من مزارع تعتمد على الزراعة العضوية وأطعمة نباتية تم إعدادها بمحبة، بالإضافة إلى الأطباق وفناجين القهوة المصنوعة من الخزف والموضوعة في بوفيه وقد تم إعدادها من أجل استراحة الغداء. وفوق الطاولات الموجودة في غرفة الجلوس المجاورة تم وضع عينات من قوارير تحتوي على منتجات زيت "أركان" العالي الجودة - وكلها منتجات يتم إنتاجها وبيعها بطريقة عادلة و"حلال".
بعد ظهر يوم السبت التقى نحو 20 شابًا مسلمًا في مدينة دورتموند من أجل عمل شيء جديد: أي للتخطيط لمشروع "المسجد العادل"، سيتم تطبيقه وبشكل مثالي في جمعية مسجد والي. وتبدو للعيان روح الريادة لدى الشباب المسلمين في ألمانيا. لقد تم إجراء ورشة العمل هذه في هذا اليوم كنتيجة لمؤتمر تم عقده حول التجارة العادلة في العام الماضي 2014.
"أظهر هذا الاجتماع الذي عقدناه في مدينة زولينغن (الألمانية) أنَّ العديد من الأشخاص وخاصة الشباب، يريدون العمل والمشاركة؛ وهم متحمِّسون لموضوع حماية البيئة والإسلام وكانوا في الواقع ينتظرون فقط التحوّل إلى أشخاص فاعلين"، مثلما تقول مديرة المشروع حفصة الحصبوني من منتدى الابتكار الاجتماعي (FSI). هؤلاء شباب مسلمون وشابات مسلمات، نشأوا وترعرعوا مع النقاش حول التدهور البيئي وتغيّر المناخ، وهم يعملون الآن على تطوير وجهة نطر إسلامية حول ذلك: تكمن في احترام مخلوقات الله وتقديرها، وهذا يعني الحياة بطريقة مستدامة يحثّ عليها الإسلام.
تغيير البُنى الاجتماعية
يهدف هذا اللقاء الأوّلي حول هذا المشروع البيئي الرائد إلى دراسة أفكار أساسية، مثل كيف يمكن أن يبدو في المستقبل شكل "المسجد العادل". تقول الشابة حفصة الحصبوني البالغة من العمر 24 عامًا: "هذا المشروع المطروح قيد الدرس والذي ستتم تجربته مباشرة في مسجد والي، سيكون بمثابة نموذج لمساجد أخرى". وتضيف أنَّ هناك فكرة أيضًا لتأسيس علامة مميّزة "للمسجد العادل". ثم تستدرك: "لكن هذه الفكرة لا تزال للمستقبل كما أنَّها تعتمد على عوامل كثيرة".
ولكن ماذا يعني يا ترى المسجد العادل لهؤلاء الشباب؟ هل يعني ذلك وجود مآذن للطاقة الشمسية، أو الاعتماد على "دليل الحج الأخضر"، أو يعني ذلك ببساطة التقليل من استهلاك اللحوم؟ ليس هذا فقط ما يريدونه. إذ إنَّ أكثر ما يهتم به جيل الشباب المسلمين يتعلق على ما يبدو بالبعد الاجتماعي في جمعيات المساجد.
وحول ذلك تقول حفصة الحصبوني: "أود بشكل أساسي التمييز بين ’الأجهزة‘ وبين ’البرامج‘" (تشبيه المشروع بالجزئين اللذين يتكون منهما الحاسوب، وهما: التجهيزات الصلبة والبرمجيات الرياضية). وتضيف أنَّ المقصود بالأجهزة على سبيل المثال استخدام أنواع الورق الصديقة للبيئة، أو شراء البضائع التي تنتج وتباع بطرق عادلة - وهذا كله يعني التعامل بمسؤولية مع الموارد البيئية. وتقول: "لكن ما أثاره الكثيرون من الناس، وما يعني بالنسبة لي ’نطاق البرامج‘، كان يكمن في تعامل الناس العادل بعضهم مع بعض، وخاصة التعامل مع النساء أيضًا".
كذلك من المرغوب فيه إيجاد مساجد لا تتعرّض فيها النساء للتمييز، بل يتم قبولهن فيها سواء كن يرتدين الحجاب أو من دون حجاب، مثلما تقول حفصة الحصبوني. على سبيل المثال بات الرجال والنساء يؤدّون الصلاة بصورة مشتركة سوية في "جمعية مسجد والي" الكائن في مدينة دورتموند - وهذا في حدّ ذاته استثناء. فإذا تم عرض ذلك على مساجد أخرى كإمكانية لأداء الصلاة فسيواجَه بالكثير من المعارضة.
تقديم العروض بدل الإملاءات
وتقول الشابة حفصة الحصبوني إنَّ الرواتب العادلة والشفافية في المعاملات المالية والتسلسلات الهرمية في هياكل جمعيات المساجد وكذلك تناوُب الدعاة والخطباء الناطقين بالألمانية على خطب الجمعة، تُعتَبر جوانب مهمة ومن الممكن أن تصبح في المستقبل جزءًا من "المسجد العادل".
وتضيف أنَّ انعزال المسلمين كجماعة عن غير المسلمين يمثّل "خطرًا" مطلقًا. وبدلاً عن ذلك فإنَّ المطلوب هو الانفتاح والتسامح. ومن الممكن أيضًا أن ينعكس التسامح بحسب تعبيرها في عدم استبعاد المثليين والمثليات المسلمين وعدم طردهم من داخل جمعيات المساجد.
"من المهم بالنسبة لنا أن يكون هناك موقف معين يواكب هذه العلامة المميزة: هذا يعني أنَّنا لن نمضي عبر العالم مشيرين بأصبعنا لنقول للآخرين ما هي المبادئ ’العادلة‘، بل نحن نريد بدلاً عن ذلك وجود موقف حسن النية، وتقديم دعوة إلى جمعيات المساجد للمشاركة معنا".
يرى الناشطون البيئيون المسلمون أنَّ أساس "المسجد العادل" يكمن في البعد الاجتماعي. وبناءً على ذلك يتعيّن وضع تدابير ملموسة في مجال حماية البيئة والحيوان. يقول محمد الجوهري من جمعية مسجد المعلومات والخدمات الإسلامية في مدينة فرانكفورت I.I.S: "أثار الحوار بين الأديان مع شركائنا من الكنيستين البروتستانتية والكاثوليكية اهتمامنا بموضوع ’التجارة العادلة‘".
وقد أدَّى ذلك، بحسب قول محمد الجوهري، إلى جعلنا نبحث في القرآن والسنة عن مصادر، من الممكن أن نستنتج منها مساهمة المؤمنين في التجارة العادلة وحماية البيئة. "ومنذ عام 2011 نعرض للبيع في مسجدنا مجموعة من منتجات التجارة العادلة. كما أننا نستورد منتجاتنا من جميع أنحاء العالم وحتى أنَّنا نعمل فيها بأنفسنا من أجل تغطية التكاليف"، مثلما يقول محمد جوهري.
يتعيّن إدخال التجارب والخبرات الإيجابية المكتسبة من "متجر-العالم-الواحد" في مدينة فرانكفورت ضمن مشروع "المسجد العادل". وعلاوة على ذلك فإنَّ موضوع حماية البيئة من وجهة النظر الإسلامية له تأثير لا يستهان به، مثلما يقول محمد جوهري: "كثيرًا ما يتم ربط الإسلام بأحداث سلبية. ومساهمتنا في مجال حماية البيئة تعتبر فرصة كبيرة من أجل تصحيح هذه الصورة السلبية". ويضيف أنَّ التغطية الإعلامية حول "متجر-العالم-الواحد" قد أظهرت ذلك.
أجور عادلة للنساء الأمازيغيات المغربيات
لقد أضحت جمعية مسجد والي خير مثال على تنفيذ هذا المشروع. فمنذ خمسة أعوام يعمل رئيسها، عبد الحي فاضل من أجل التجارة العادلة. وحول ذلك يقول الإمام عبد الحي فاضل: "لقد أنشأنا في المغرب تعاونية نسائية مكوّنة من 63 امرأة مزارعة، من أجل إنتاج زيت أشجار الأركان ذي الجودة العالية. ومقابل ذلك تحصل النساء البربريات على دخل عادل ومضمون".
وفي هذا المشروع يتم التركيز على العمل التنموي. وحول ذلك يقول عبد الحي فاضل: "لم يكن بوسع المزارعات العيش من بيع لوز الأركان. أمَّا الآن فقد أصبحن ينتجن زيت الأركان بأنفسهن من خلال عصره باليد بطريقة تحافظ على البيئة ويحصلن على أجر عادل مقابل هذا المنتج النهائي".
وفي عام 2008 أسَّس عبد الحي فاضل شركة "أركان-بور" Arganpur. وتقوم هذه الشركة بتسويق منتجات التجميل الطبيعية المصنَّعة من زيت الأركان. ويتولى صناعة مستحضرات التجميل مختصون في الكيمياء الحيوية وفريق عمله بأنفسهم. وحتى الآن تم تأسيس تعاونية أخرى لإنتاج ماء الورد وزيت الورد - وهذه قصة نجاح ينبغي أن تدخل أيضًا ضمن مشروع "المسجد العادل".
توعية المسلمين بحماية البيئة
إنَّ مبدأ احترام المخلوقات وتقديرها له جذور عميقة في الإسلام، كما أنَّ هذا المبدأ يجذب معه أسلوبَ حياة بيئياً؛ وتوجد في ألمانيا مجموعة من الشباب المسلمين المقتنعين بذلك، وقد اتّحدوا في عام 2011 في جمعية اسمها "حِمَى".
يعتبر اسم هذه الجمعية "حمى" مصطلحًا مستمدًا من التعاليم الإسلامية، ومن الممكن ترجمته بمعنى "المحمية الطبيعية"، كما أنَّ المقصود به ضمن هذا السياق منتدى للمشاركة يجمع المسلمين المهتمين بالقضايا البيئية. وعن ذلك تقول الناشطة كبرى إرجان: "تكمن مهمتنا الرئيسية في التوعية. وهذا يعني أنَّنا نريد في البداية جعل المسلمين ينفتحون على موضوع حماية البيئة، وذلك من خلال النشاطات التعليمية ومن خلال مشاريع بسيطة وملموسة".
وكذلك ينبغي إدخال تجارب منتدى "حِمَى" ضمن مشروع "المسجد العادل". فقد كان النشاط المعروف باسم "التجارة العادلة بالأغذية" من أول النشاطات التي قام بها منتدى "حمى" على مستوى عموم ألمانيا. وحول هذا النشاط تقول كبرى إرجان: "استفدنا هنا من فرصة نقاش موضوع استخدام الموارد بشكل واعٍ بالمسؤولية من وجهة النظر الإسلامية".
وحاليًا أضحى منتدى "حمى" من المشاركين في مشروع "اجعل مجتمعي أخضر" Green Up My Community العامل على مستوى عموم أوروبا: وحتى نهاية عام 2014 من المفترض أن يتم ضمن سياق هذه الحملة عرض عشرين مسجدًا صديقًا للبيئة في أوروبا. وحول ذلك تقول كبرى إرجان: "الإنكليز لديهم بعض مشاريع الحدائق الخضراء الجميلة للغاية. وفي ألمانيا توجد استعدادات لتجهيز المساجد بالطاقة الشمسية وكذلك لاستخدام مآذن تعمل على توليد الطاقة بالعَنَفات الهوائية".
وتضيف أنَّ منتدى "حمى" يقوم ضمن هذا السياق بوظيفة استشارية: "بما أنَّنا مرتبطون بصورة قوية جدًا مع منظمات بيئية غير مسلمة، فيمكننا الاعتماد على ثروة غنية من الخبرات".
لقد نشأت الحركة الإسلامية البيئية في ستينيات القرن العشرين كردة فعل على نظريات المؤرّخ لين وايت جونيور. إذ كان هذا العالم والمورّخ على قناعة بأنَّ الديانات السماوية قد ساهمت في ظهور الأزمة البيئية.
ومن خلال النقاش المثير للجدل والناتج عن هذه النظريات، استلهم العلماء المسلمون في الدول الغربية اهتمامهم بموضوع حماية البيئة والاستدامة. الناشطون البيئيون المسلمون يعملون انطلاقًا من دوافعهم الدينية. فهم يدعون إلى التعامل بصورة مستدامة مع موارد المياه والأرض كما أنَّهم يعملون قبل كلّ شيء من أجل التوفير والامتناع عن الإسراف في استخدام المصادر البيئية. صحيح أن هذه الحركة لا تزال تتسم بطابع الخصوصية - ولكن مع ذلك من الممكن أن يتغيّر ذلك في وقت قريب.
أولريكه هومل
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2014