"ما بعد الغيث" يكون ازدهارٌ أو طوفان
"ما بعد الغيث" هو شعار "بينالي الدرعية للفن المعاصر" -في دورته الثانية والمقام في ضاحية تحمل الاسم نفسه (وتقع على الأطراف الشمالية الغربية) للرياض في الفترة من 19 فبراير / شباط وحتى 24 مايو / أيار 2024.
في الدرعية بدأ صعود عائلة آل سعود في القرن الثامن عشر، حيث تحالفوا مع عالم الدين الإسلامي محمد بن عبد الوهاب، مؤسس الوهابية ذات التدين الشديد التزمت.
وتحديدا هنا بالذات -من بين كل الأماكن- تُعرَض انطلاقة كبيرة نحو الكوزموبوليتانية والانفتاح العالمي المتعدد الثقافات.
والعامل الدافع هنا هو الأجندة 2030 -رؤية المملكة 2030- التي يوعَد بها كثيرا والتي أعلنها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
وفي حين أن كبح الديون النيوليبرالية يضع الحياة الثقافية في ألمانيا في غيبوبة مصطنعة فإن أجندة 2030 في المملكة العربية السعودية تتسبب في انهمار سيل من الاستثمارات على البلاد. التأثير مذهل. وتعيش المملكة العربية السعودية في نشوة التفكير الإيجابي.
ويقدم البينالي أرضية اختبار مثالية لهذا الأمر: فهو مفتوح للجمهور، ولكنه في نفس الوقت حصري ونخبوي؛ عالمي، ولكن محتواه محلي؛ تقدمي ولكنه ليس ثورياً. لقد تم اختيار قضايا المياه والبيئة بذكاء لتكون الفكرة الرئيسية للمعرض؛ فهذه القضايا هي الآن القاسم المشترك الوحيد للمجتمع الدولي.
ثمة موضوع آخر يجول في المعرض -وإن كان غير معلن- وهو إثبات الذات الأنثوية، حيث تمكنت مرشدةُ المعارضِ الفنيةِ الألمانيةُ الشهيرةُ أوته ميتا باور من تولي الإدارة الفنية للمعرض. منصب المدير التنفيذي للبينالي تشغله أيضًا امرأة هي، آية البكري، وحوالي نصف مدعوِّي الفنانين هم نساء. وإذا أُخذنا الدرعية كمعيار، تكون المرأة في المملكة العربية السعودية لا تتعرض للقمع، بل تُشجَّع وتُدعَم - على نحو أقوى حتى من وضع المرأة الحالي في ألمانيا.
مديرة فنية ألمانية
قامت أوته ميتا باور ومساعدوها الأربعة بتجميع معرض فني على مستوى جمالي رفيع يعبر عن الفن المعاصر العالمي؛ وتزداد جاذبيته بفضل البيئة غير التقليدية التي يُعرَض فيها. في الدرعية، يوجد المقر السابق للسعوديين الذي تم تجديده وترميمه، وهو عبارة عن مستوطنة عربية قديمة مبنية من الطوب اللبن، إنه موقع التراث الحضاري العالمي المعروف باسم "الطريف". ومن قاعات البينالي نطل على "وادي حنيفة"، الذي كان يُستخدَم كطريق في أوقات الجفاف.
توفر الساحة الخارجية -التي يغمرها ضوء النهار الساطع- ميزتين بارزتين: سقيفة -أو تعريشة- مصنوعة من النسيج من تصميم عذراء أكشاميجا (البوسنة، 1976) تغمر الممر على طول القاعات في لعبة من الضوء والظل، بحيث لا يمل المرء أبداً الصعود والهبوط. والشاب محمد الفرج، من مواليد السعودية عام 1993، يزين الممر المؤدي إلى منصة العرض في الوادي بمنحوتات مبتكرة مصنوعة من سعف النخيل المجفف ومواد أخرى مستخرجة من أشجار النخيل: هل هي هياكل عظمية لحيوانات ما قبل التاريخ؟ أم حفريات نباتات غامضة؟ أم أنها ببساطة إيكيبانا الصحراء؟ ["الإيكيبانا" فن تقليدي ياباني يعني بتنسيق الزهور وترتيبها].
يمكن أن يستغرق الإنسان وقتًا طويلاً في التأمل في هذا الأمر، ولكن حتى ونحن ما زلنا في شهر فبراير / شباط يوجد خطر الإصابة بحروق الشمس في الخارج، كما أن الصالات هي أيضا بحاجة إلى من يزورها. والصالة الأولى بالذات هي الأقل تمثيلًا: إنها منطقة غير منضوية تحت إطار المعرض ولا صلة بينها وبين موضوع البيئة الرئيسي.
ومع ذلك فإن من المثير للإعجاب التجريدُ الكبير الفائق الدقة لحلقة السيرك الذي يحمل عنوان "شاريفاري" للفنانة تاوس ماخاتشيفا وهي من مواليد 1983 في موسكو وتعيش الآن في دبي. إنه إحياء لذكريات سيرك الدولة في باكو بأذربيجان، ولكنه أيضاً تذكير -بحسب ما يوضح لنا النص المرافق- بالطابع الآدائي المرح والساخر للفن.
الماء والسكن
بداية من الصالة الثانية يبدأ التعمق في الموضوع. ومع ذلك فإن أقوى المساهمات ليست تلك التركيبات ذات الجمالية الرائعة -التي تأخذ شكل الصوبة الزجاجية والمعمل، التي تعكس موضوع المياه، مثل وحدة التنقية "أورتا وُوتَر" التي بناها من مواد معاد تدويرها الفنَّانان لوسي وخورخي أورتا- وإنما أقوى المساهمات هي سلاسل الصور الفوتوغرافية.
ومنها سلسلة صور للفنان اللبناني كميل زكريا، الذي وُلد في عام 1962 في لبنان ويعيش اليوم في البحرين. ففي الأكواخ الطينية المؤقتة لصيادي البحرين الذين وثقهم زكريا في صوره تتلاشى الحدود بين الداخل والخارج ويبدو الأمر تقريبا وكأن اللوحات الفوتوغرافية ليست العمل الفني الحقيقي بل تلك الأكواخ الخيالية نفسها التي تشبه بيوت الأشجار المبنية من نفايات فوق الماء، ولا يمكن الوصول إليها إلا عبر جسور المشاة.
مذهلة بنفس القدر هي تلك البنايات الجديدة ومنازل الأُسرة الواحدة التي اكتشفها زكريا في الرياض، وبُنِيَتْ بين الصخور المفرغة في المدينة. تحمل السلسلة الفوتوغرافية التي تم التكليف بإعدادها خصيصًا للبينالي اسم أو (الجبل، جاري) والتي تعرض بشكل واضح التجاور بين الطبيعة والثقافة - وتشهد في الوقت نفسه التدافع المتبادل والتنافس بينهما.
فنانات في طي النسيان
صالة المعرض التالية تتناول تاريخ الفن الحديث في الشرق الأدنى والشرق الأوسط، والذي تم تجاهله عالميًا. وحقيقة أن الفنانات حاضرات بشكل خاص ترجع بلا شك إلى قرار موجه من قبل القائمين على المعرض. لكنها فكرة جيدة.
على الرغم من أنهن نادراً ما استطعن العمل بدون مقاومة وقيود، فقد أنتجت هذه الفنانات من الشرق الأوسط أعمالاً رائعة. ومع ذلك نادراً ما حصلن على اعتراف دولي أثناء حياتهن.
ومن المثير للإعجاب بشكل خاص أعمال الفنانة لالا روخ (1948-2017) من باكستان، والتي دُعِيَتْ قبل وقت قصير من وفاتها إلى معرض "دوكومنتا 14" في عام 2017 وتوفيت أثناءه. "أعمالها على الورق" عبارة عن خطوط تجريدية بالقلم الرصاص، بعضها يمكن بالكأد تمييزه، وكذلك تلميحات مجازية لأجساد أنثوية.
إنه فن على حافة الصمت أو التخفي والاستتار، وهو يشكل نظيرًا فنياً جمالياً لأنشطة الفنانة لالا روخ السياسية: حيث كانت تطبع في السر، كتابات محظورة للحركة النسائية الباكستانية.
رحلة صحفية سويسرية إلى العلا السعودية
لفترة طويلة كانت المملكة العربية السعودية أكثر انغلاقا من كوريا الشمالية. لكن الدولة صارت تظهر وجهها الودود للعالم وتغازل السياح الغربيين. تقرير كارين فينغر وتصوير فيليب بروي لموقع قنطرة.
أعمال الفنانات السعوديات الراسخات لها سحرها أيضاً. ففي أعمال نبيلة البسام نرى المباني والمناظر الطبيعية المميزة للمملكة العربية السعودية، مُصوَّرة على أنسجة من أقمشة متنوعة يذكرنا تأثيرها بأعمال أوغوست ماكه وباول كلي المستوحاة من تونس.
إنها تحافظ على التوازن بين التجريد والفن الفطري "الساذج"، وبالتالي فهي مرآة مثالية لإمكانيات وحدود إبداع المرأة السعودية قبل الانفتاح الاجتماعي الأخير.
بالطبع الفطرة "السذاجة" ذاتها هي بالفعل عرض به مهارة فنية عالية: نبيلة البسام -مثل الكثيرات- درست في بيروت والولايات المتحدة. وبفضل عالميتهن الفنية، مهدت فنانات الشرق الأوسط الأكبر سناً الطريق أمام الفنانات الأصغر سناً. وبالنسبة لهن أصبحت الدراسة في الخارج أمراً بديهياً، وهن يعتبرن من الداعمات، الأكثر تصميماً للتغيير الاجتماعي.
أعمال فنية لفنانات شابات
الصالتان التاليتان -مخصصتان بشكل أساسي لهؤلاء الفنانات الشابات- ملفوفتان باللون الأسود الداكن - تماماً كالنساء السعوديات حتى وقت قريب - تتألق الصالتان بإضاءة تُبرِز بشكل مثالي الأعمال الفنية كل على حده. وتحت هذه الإضاءة، يصبح تقريباً كل شيء عملاً فنياً، وخاصةً عمل الفنانة دالا ناصر (من مواليد بيروت، 1990) المعنون بـ Mineral Lick أو "لسان معدني" وهو عبارة عن قطعة قماش كبيرة تتدلى من السقف كالثوب، متلألأة بدرجات الصدأ باللونين الأخضر والأصفر.
الألوان هي نتاج تلوث المياه بفعل مواسير قديمة. على نحو جميل ومنذر بالخطر في الوقت نفسه، يبرز اللسان المسموم نحو المشاهد ويهدد بافتراسه. الجمالية المجردة للتلوث البيئي التي أبرزتها دالا ناصر مثيرة للانزعاج وتذكرنا بالصور الفوتوغرافية الكبيرة الحجم التي التقطها إدوارد بورتنسكي للبيئات الطبيعية الملوثة.
وكمقابل لفكرة اللسان المعدني -أو مثل الرغبة في التطهير والنقاء- تبدو مئات من قطع الصابون العربية -التي قامت سارة عبده، وهي من مواليد جدة عام 1993، برصِّ بعضها فوق بعض- مثل قوالب طوب في أبنية تشبه أبراجاً تنعكس كبقع متوهجة على الأرض نتيجة التركيبات الخاصة بالضوء والمؤثرات الضوئية. ويحمل هذا العمل اسم "بعد أن فقدتك الآن في أحلامي، أين نلتقي؟".
ثقافة الاستحمام العربية وعادة غسل الميت ورائحة الصابون المصنوع من نوى الزيتون وتجربة الفقدان التي تميز عنوان العمل - كل هذا تلتقطه المدارك من هذه المنحوتة. إنها تبدو هشة وقوية، وتبدو كذلك من عالم آخر ومُخِيفة.
السياسة تكاد تكون غائبة تماماً
من الجوانب المريحة في هذا البينالي أن السياسة تكاد تكون غائبة تماماً. السبب بالطبع هو أن الفن السياسي المُفرِط غير مرغوب فيه في السعودية. ولكن هذا ينطبق الآن أيضاً على ألمانيا عند التعامل مع المواضيع الحساسة، إلا أنه هنا في ألمانيا -على عكس ما يحدث في الرياض- لا يَرغَب أحد في الاعتراف بذلك.
ونظراً لأن المعرض خُطِّطَ له قبل فترة طويلة من السابع من أكتوبر / تشرين الأوَّل 2023 -أيْ قبل الهجوم المفاجئ لحماس- فلا تلعب الحرب في غزة أي دور في المعرض. وعلى أية حال فهي لا توفر سوى مادة قليلة للجدل في السعودية. ويُنْظَر إلى الوضع بشكل غير متحيز وبالتالي فإن الهمجية في حد ذاتها معروفة ومسماة.
من يشعر بالتعب بعد الكثير من التجول في صالات المعرض المظلمة، يمكنه الاسترخاء في بار "نجوكوبوك" الموجود فوق الوادي والذي يديره الطاهي السنغالي يوسف ديوب. العصائر ذات النسب العالية من الفاكهة والمشروبات العشبية الساخنة من نعناع وزنجبيل وورد بري وريحان وكركم تقدم بديلاً رائعاً للكحوليات المحظورة هنا، وبينما تجلس على مقاعد البار وترتشف العصائر تتطور المحادثات، على سبيل المثال حول غموض عنوان المعرض.
ما بَعد الغيث تأتي في الصحراء فترة الازدهار، وبشكل أساسي فإن عنوان البينالي After the Rain أو "ما بَعد الغيث" لا يعني شيئًا آخر. ولكن عند التفكير بشكل أعمق يتضح أن العنوان يكمن فيه أيضاً فكرة نهاية العالم البيئية، تمامًا كما في أشهر قصيدة في الأدب العربي، معلقة امرؤ القيس، من العصر الجاهلي -القرن السادس الميلادي- حيث جاء في الأبيات الأخيرة من القصيدة:
فأضحى يسحُّ الماء حول كُتيفة يكبُّ على الأذقان دوحَ الكنهبل
(...)
كأنّ سباعًا فيهِ غَرْقَى عَشية بِأرْجائِهِ القُصْوى أنابيشُ عُنْصُلِ
ما بَعد الغيث يمكن أن يأتي الازدهار. ولكن أيضًا، كما ورد في القصيدة العربية القديمة، يمكن أن يأتي الطوفان.
شتيفان فايدنر
ترجمة: صلاح شرارة
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024