مشروع التنوير العربي : مكر التاريخ أم شراسة الإنسان؟
إذا تجاوزنا أسئلة عصر النهضة، لنتوقف عند اللحظة الراهنة، تفاجئنا المجريات بأسئلتها الفادحة:
فبعد قرنين من مقارعة الغرب بصفته الخصم التاريخي الغازي والمستعمر والقاهر أو الناهب الثروات، يتحول الأخ في الدين والشقيق في الوطن إلى العدو الأول. وبعد الثورات الجارية، نجد أن الإسلاميين الذين لم يكونوا طلاب ديموقراطية أو دولة مدنية، بل كانوا طلاب سلطة لإقامة دولة الخلافة وتطبيق الشريعة، قد وصلوا إلى سدّة الحكم، وعبر صندوق الاقتراع بالذات، فيما الفاعلون الجدد من الناشطين والمدونين، قد تواروا، مع أنهم هم الذين فجّروا الحراك الشعبي الذي أحدث كل هذه التحولات، لكي يغيّر قواعد اللعبة وعلاقات السلطة.
والأفدح من ذلك كله هو أن الحروب العربية - العربية هي الأشرس والأشد فتكاً ووحشيةً من الحروب بين العرب وإسرائيل، كما تشهد الآن الحروب الأهلية الدائرة في غير بلدٍ عربي.
قد لا يجدر بنا جلد الذات: نحن إزاء إشكالية تخصّ الفاعل البشري عموماً، كما يتجلى ذلك في شكل خاص، لدى أصحاب المشاريع الثورية والجذرية لتغيير العالم تحت هذا الشعار أو ذاك.
فالملاحظ أن الإنسان لا يتحكم بأعماله وصنائعه وأنظمته التي تتعداه وتفلت من سيطرته، لكي تفاجئه بمفاعيلها وتداعياتها السلبية أو المدمرة. وهكذا، فنحن نريد التغيير ولكن العالم يتغير بعكس ما نفكر فيه أو نسعى إليه، بل إن حل المشكلات يولد، اليوم، مشكلات أكثر تعقيداً أو خطورة.
كيف نفسّر هذه الإشكاليات المربكة والمفارقات الفاضحة؟
هناك كتّاب عرب وغربيون يقاربون المسائل من خلال فلسفة التاريخ ومفرداتها، وعلى رأسها مقولة هيغل حول «مكر» التاريخ .
فالفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه يلجأ إلى استعارة المكر أو السخرية، لكي يفسر كيف أن أصحاب المشاريع الشمولية (النازية والفاشية والستالينية)، ممن أرادوا بناء مجتمعات على أساس العلم، قد جرّتهم الأحداث إلى عكس ما خططوا له، بقدر ما جرت من غير علمهم وضد إرادتهم.
عربياً، من هذا المنطلق يفسرون وصول الإسلام السياسي إلى سدة الحكم، بقولهم: هذه عاقبة من يقفز فوق قوانين التاريخ، أو من يعرقل مسيرة تقدمه إلى الأمام، أو من لا يحسن تصفية حساباته مع ماضيه السلفي والأصولي، على سبيل التكنيس والتعزيل لأحشائه ونفاياته. غير أن استعارة «المكر» الجذابة، ولكن الخادعة، تحجب وتموه أكثر مما تشرح وتفسّر. إذ هي، وكما يفهمونها، تبنى على تأليه التاريخ، بالتعامل معه كذات قاصدة تراقب، من عليائها، البشر لكي تحاكمهم وتنتقم منهم كما ينتقم الله من عبيده الذين كذبوا بآياته. وهؤلاء هم الوجه الآخر للذين يقولون إننا فشلنا، لأن الله عاقبنا، لكوننا خرجنا على تعاليمه، أو لأننا لم نعمل بما عمل به السلف الصالح. إنهم سلفيون فيما يدعون محاربة السلفية، مع فارق أن السلف الصالح عندهم، هو أن نفكر بما فكر فيه ماركس وهيغل وكانط وفولتير، بتقليدهم واحتذاء نماذجهم.
كيف نفسر المأزق؟
لنعترف بالواقع لكي نعرف كيف نتغير، فنحن ضحايا أفكارنا التي تختم على العقول، لأننا تعاملنا مع القضايا والشعارات بطريقة أحادية، أصولية، دغمائية، أيديولوجية، متعالية، فردوسية، قدسية، بقدر ما تعاملنا مع الواقع بصورة أحادية، تبسيطية، ساذجة، قاصرة. لذا، فالخروج من المأزق يقتضى أن نفكر بطريقة مختلفة، بحيث نفكك ما يستوطن عقولنا من المقولات المستهلكة والثوابت المتحجرة والمعارف الميتة والرؤى الطوباوية والمفاهيم الساذجة حول التاريخ والتقدم والعقلانية والنهضة والاستنارة والإنسانية، فضلاً عن التحرر من وصايتنا النخبوية الفاشلة على شؤون المجتمع والأمة والبشرية.
أتوقف عند أبرز القضايا على سبيل التشخيص والمعالجة:
> إعادة النظر في مفهوم التاريخ، كي لا نتوه في دهاليزه ونحن ننقب في نفاياته. فما مضى وأصبح تاريخاً أو تراثاً، لا يوجد إلا عبر آثاره، كما تتجسد في الوثائق والمتاحف، أو في الروايات والخطابات، أو في العادات والتقاليد. إذاً، ما يوجد هو الحاضر الماثل، وأما الماضي، فهو جزء من بنية الحاضر. لذا، فهو يمثل في ذاكرة الأحياء وخيالهم ووجدانهم وعقولهم، ومن بينهم المؤرخون والعلماء والفلاسفة.
ولكل واحد من هؤلاء روايته للأحداث أو تأويله للوقائع وفق فهمه وعلمه وثقافته وبيئته وعصره... كل واحد منهم، فيما يشتغل على المادة التاريخية، إنما يصنع للماضي صورة أو يخترع هوية، وفق رؤيته وعدته، أو منهجه وإشكاليته، أو مشروعه ورهانه، بقدر ما هو مندرج في زمنه أو منخرط في واقعه الراهن.
وما بوسعنا أن نفعله هو أن نقرأ وقائع حياتنا ومعطيات وجودنا، ببناء نماذج للتفسير أو نسج شبكات للقراءة، تجسد فهمنا للماضي وكيفية استثماره لتدبر الحاضر وإضاءة طريق المستقبل.
إشكالية التقدم
> مراجعة موقفنا من قضية التقدم التي تعاملنا معها بصورة تبسيطية. فقد خلنا أن العالم يسير ويتقدم على خط متصاعد ليحقق المزيد من الحرية والرفاه والسلام، فأغرقنا في التفاؤل الساذج، وشهدنا على جعلنا بالواقع المنسوج من الالتباس والتعقيد والمفارقات واالتقلبات. وإلا كيف نفسر أن أوروبا غرقت في حروب طاحنة ومدمرة وأنتجت أنظمة شمولية رهيبة بعد ثلاثة قرون سادت فيها خطابات العقل والتنوير والتقدم؟ بل كيف نفسر أن الماركسية التي هي خلاصة الفكر التاريخي والتقدمي، ترجمت إلى نظام شمولي وأنتجت معسكرات الاعتقال المرعبة؟! وفضلاً عن ذلك فقد تعاملنا مع قضية التقدم بصورة رجعية، إذ انطلقنا من أفكار مسبقة لكي نتقدم على أساسها، فتخلفنا عنها. لأن التقدم هو ممارسة الواحد السبق على نفسه وتطوير أفكاره باستمرار، كي لا تستنفد وتعطي مردودها العكسي عقماً وتخلفاً.
> إعادة صياغة مسألة العقلانية. فقد ألهنا العقل بصفته مرجعية مطلقة قابضة تفصل على نحو قاطع بين الحق والباطل وبين الصح والخطأ أو بين الخير والشر. فلغمنا عقولنا التي اجتاحتها الخرافة والشعوذة. ذلك أن العقل هو فاعلية بشرية، لها حدودها، بمعنى أنه لا يكف عن إنتاج لا معقولاته كما تتجسد في بداهاته الخادعة أو قوالبه الجامدة أو أنساقه المغلقة أو مقولاته المستهلكة أو أساطيره المؤسسة أو ممارسته المعتمة... هكذا، فمشكلة العاقل والمتنور هي بنيوية داخلية، أي مع أفكاره بالدرجة الأولى.
هذه المحدودية هي ما يجعل الفاعل أو اللاعب يتعامى عن واقعه، أو يجهل مآل أعماله، أو ينتهك ما يدعو إليه، أو يتماهى مع خصمه، أو يتواطأ مع ضده الذي يدعي محاربته، وليس هوة التاريخ كما يقول غوشيه، أو كما يقول عرب فلاسفة التاريخ.
والشاهد هو ما تحصده المجتمعات المعاصرة من الأزمات والتراجعات والانهيارات بالرغم من ترسانة العلوم والنظريات والمعلومات والإحصاءات. وإلا كيف نفهم أنه بالرغم من كل هذا التقدم الهائل في مجالات العقلنة والبرمجة والحوسبة، نصل إلى ما يسميه العلماء والخبراء مجتمع المخاطرة والكارثة، وذلك حيث البشرية تعيش في ما يشبه حالة طوارئ دائمة.
هكذا، ليس في الأمر سحر أو غيب، ليس مكر التاريخ ولا مكر الله، وإنما المسألة تتعلق بعتمات الفكر وتهويمات العقل ودهاليز الوعي ومخاتلة اللغة، أفخاخ الرغبة، كما تتعلق بنرجسية الثقافة واصطفاء العقيدة وعنصرية الهوية وازدواجية النشأة والحقيقة، فضلاً عن شراسة الكائن البشري ووحشيته التي تفوق وحشية الحيوان. كلنا من أكلة لحوم بعضنا بعضاً، كما يقول كلود ليفي ستروس. هكذا، نحن إزاء عوائق ومنازع بنيوية هي التي تجعل في كل ما نفكر فيه أو نقوله أو نعرفه ونبرهن عليه، جانباً يبقى مجهولاً وخارجاً عن دائرة الضوء وعن منطق القبض والسيطرة، سواء كنا حداثيين أم تراثيين، علمانيين أم أصوليين.
> التخلّي عن مفهوم للتنوير ساذج بني على الثقة المفرطة في العقل والإنسان، فضلاً عن كونه مفهوماً أصولياً رجعياً، كما تجسد ذلك في التعامل مع عصر التنوير الغربي بصفته أمامنا، أي نموذجنا عن العقل والحرية والتقدم. فكانت النتيجة أن تخلفنا عنه، واستعدناه بصورة فقيرة، مشوهة، كاريكاتورية، أثمرت عجزاً وهشاشة وسباتاً...
وهذا مآل من يحاول استرجاع عصر مضى بصفته نموذجه أو مرجعه أو مستقبله، على ما يفكر ديناصورات التنوير والتقدم في العالم العربي: التعلّق بماض مضى ولن يعود، أو اللحاق بمستقبل لا ينفك يبتعد. وتلك هي ثمرة تهويمات التنوير والتقدم لدى فلاسفة التاريخ وتلامذتهم.
بهذا المعنى فالتنوير هو مشروع لا يكتمل، إذ ما من عصر إلا وله ظلماته، وما من فكرة إلا ولها عتماتها. هكذا، فالمسألة هي بعكس ما قال هابرماس، الذي كان يرفض نقد مشروع الأنوار، قبل اكتماله، ثم تراجع بعد ذلك في ضوء أزمة العقل الحديث. ومعنى الأزمة أن لا شيء يكتمل. لذا، فالتنوير ليس مجرد كلام على عصر الأنوار الغربي، ولا على عصر الأنوار العربي الذي أخفق ولم يتحقق. وإنما هو هو مهمة نقدية دائمة، بقدر ما هو نقد التجارب التنويرية. إنه ارتداد على الأفكار المتعلقة بالاستنارة والحرية والعقلانية لكشف أو فضح ما تتناساه أو تستبعده أو تحجبه. بهذا المعنى، فالعقل التنويري يتعدى نقد الممنوعات من جانب السلطات (الحاكم أو الكاهن)، لكي ينصب على تفكيك الممتنعات من داخل الفكر نفسه، لاشتقاق آفاق وممكنات جديدة للتفكير والتعبير والعمل، وبما يتيح للمرء ممارسة حيويته الوجودية بكل أبعادها المعرفية والسياسية والفنية والعشقية...
> كسر منطق المماهاة والثبات، للاشتغال بمنطق التحويل الخلاق. فلا فكر يتساوى مع نفسه. ولا فكرة تبقى على ما هي عليه في ذهن صاحبها، فكيف في أذهان من يتداولونها.
هكذا، فالفكرة الخصبة تخضع للتعديل والتغيير، فيما تنتقل من شخص إلى آخر، أو من حقل إلى سواه، فكيف إذا كانت الفكرة تنتقل من النظر المجرد إلى ميدان الممارسة، من أجل ترجمتها إلى إجراء فعال في الإدارة، أو إلى نموذج ناجح في التنمية، أو إلى قاعدة صالحة للحياة المشتركة. بهذا المعنى، لا تطابق بين البدايات والنهايات، بين المشاريع ومآلاتها، بين السيناريوات وترجماتها. هناك فجوة وجودية دائمة هي ثمرة علاقات التباين والتفاوت والتحول بين مستويات الكائن: بين الواقع والرمز أو المفهوم والخطاب أو النص والصورة، كما بين الذهني والعيني أو الخيالي والرقمي أو النظري والعملي...
وبحسب «المنطق التحويلي»، نحن نتجاوز منطق النفي الجدلي، لدى هيغل. فالمسألة لا تتعلق بشيء ينفي نقيضه، إذ النقيض يسوغ نقيضه، بقدر ما يتواطأ الضد مع ضده، في عصر الاعتماد المتبادل والتشابك في المصالح والمصائر. المسألة تتعلق إذاً بفاعل يتحول عن فكره، لكي يغير علاقته بسواه وبالواقع.
وإذا كان الفرد كذات عاقلة مفكرة، يقرأ ويشخّص أو يحسب ويتوقع، فإن المجتمع يتجاوز دائماً الأفراد وبرامجهم وحساباتهم، بأبنيته وروابطه وشبكاته، بقواه ومجموعاته. بهذا المعنى، فالأنظمة الاجتماعية والمنظومات الرمزية تتجاوز الآحاد والأفراد، أياً كان مقدار تعقلهم وتبصرّهم بالعواقب والنتائج.
> التوقف عن سوس الذات وإدارة القضايا بمفردات القداسة والعظمة والبطولة، وسواها من الصفات التي تخلع على الأعمال والأشخاص. الأجدى ممارسة التواضع الوجودي للاشتغال بمنطق دنيوي، محايث، تداولي، تبادلي، بحيث يتم التعامل مع الفاعلين بصفتهم أصحاب اختصاص ومهن، وبحيث يعترف لهم، على الصعيد المعرفي، بأن لهم خبراتهم ومهاراتهم ومعارفهم.
نحن نشهد اليوم تطوراً في العقليات والمفاهيم مع ولادة مصطلحات الفاعل الاجتماعي، والمجتمع التداولي، والرجل الميديائي، والأنا التواصلي. ولا ننسى الرئيس «العادي» كما طرح أخيراً في فرنسا، خلال الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2012.
في ضوء هذا التطور يتم كسر العقلية النرجسية، النبوية والنخبوية، كما يجسدها المثقفون الذين تستعمر عقولهم أصنام وأطياف الزعيم الأوحد والقائد الملهم، فضلاً عن الفيلسوف الكبير الذي ينتظر البعض ظهوره، بعقلية «المهدي المنتظر»، لكونهم يعتقدون بأنه وحده يمتلك مفاتيح تحديث مجتمع بأسره أو إصلاح عالم بكامله. مثل هذه الادعاءات، من جانب الفلاسفة والدعاة هي ضرب من التشبيح والشعوذة.
المجتمع التداولي
وها هي الثورات العربية تقدم الشاهد البليغ والفاضح. فالذين فجروها، من الناشطين والمدونين، كانوا مستبعدين من دائرة الفعل والتأثير، من جانب المثقفين الذين أخفقوا في مشاريعهم، حول الإصلاح والتحديث، وجلسوا ينتظرون حصول المعجزة. هكذا، فما حسبوه الحل بعقلهم النخبوي، البيروقراطي، الكتبي، الفوقي، هو المشكلة بالذات، وما ينتظر منا أن لا نغرق في تهويماتنا حول مكانتنا ودورنا. فالعالم لا يصنعه الفلاسفة والعلماء والقادة وحدهم. هذا مزعم مثالي طوباوي أنتج التخلف أو الكوارث حيث جرى تطبيقه. لأن الفكر ليس حكراً على الفلاسفة والعلماء وسواهم من المفكرين المحترفين، وإنما هو ميزة الإنسان عموماً. ولأن الأفكار ليست نظريات جاهزة للتطبيق، وإنما هي رهانات لفهم الواقع وتغييره، تتغير هي نفسها، تطويراً وإغناء، بقدر ما تترجم إلى واقع حي.
ولأن زمن النظريات المركزية والشمولية قد ولّى، بقدر ما ولّى زمن المثقف الذي يدّعي معرفة كل شيء والإحاطة بكل أمر. نحن ننخرط في أفق فكري جديد أساسه البعد المتعدد: تعدّد القوى والفاعليات، وتعدّد الاختصاصات والمجالات، فضلاً عن تعدد الرهانات والخيارات والحلول، بقدر ما نتجاوز مجتمع النخبة والجمهور، نحو المجتمع التداولي، الذي هو تأثيراته المتبادلة وعلاقاته المتحولة، كما هو حصيلة الأعمال والأنشطة لمختلف قطاعاته وقواه وفاعلياته.
استحالة النفي
> كسر منطق النفي. فلا شيء مما يحدث يمكن إلغاؤه، وإنما يصبح جزءاً من بنية الواقع، ويترك أثره في الحاضر والمستقبل. لقد ظنّ الحداثيون والعلمانيون، فيما مضى، أن الدين بات مرحلة بائدة في تاريخ الإنسانية، لكي نفاجأ بأن الدين بمرشديه ودعاته وجهادييه هم أمامنا ينتظروننا لكي ينتقموا منا. واليوم نفاجأ بالعكس: فالعلمانية التي ظن أنها ضد الدين، باتت استحقاقاً لا مهرب منه، كما أدرك بعض رجال الدين، لوقف مسلسل الحروب بين المسلمين أنفسهم.
فالأجدى أن نتخلى عن مفردات القطيعة والمكنسة والنفاية التي تشهد على جهلنا وسذاجتنا، بقدر ما تنبّح عزلتنا عن المجتمع وهامشيتنا تجاه المجريات. لذا، بدلاً من أن نتباكى على عصر التنوير الذي لم يحدث، الممكن هو أن نتحرر من مفاهيمنا القاصرة للعقل والنقد والتنوير.
نحن ننتقل اليوم من نقد العقل إلى نقد النص، وذلك حيث الخطابات هي أوسع من أن تختزل إلى مضامنها العقائدية أو إلى معاييرها المنطقية، فالعمل الفكري يتعدى ما أراد صاحبه طرحه والبرهنة عليه أو الدعوة إليه، إلى فضائه وطبقاته ومستنداته وآليات إنتاجه، أي إلى أن يجعله ممكناً ويحوله الى حقلٍ للدرس والتحليل.
ومن مفاعيل هذا النقد للعقل الحديث أنه يكشف لنا، في أحيان كثيرة، أن ما أخفق فيه الفلاسفة هو ما حاولوا البرهنة عليه. لأن البراهين تقطع وتصدق أكثر ما يكون في مجالات العلم. أما الفلسفات فإنها تفرض نفسها وتمتلك وقائعيتها، لا كحقائق مطلقة أو براهين قاطعة، بل بصفتها قراءات وتأويلات، تستدعي إعادة القراءة والتأويل، على سبيل إعادة البناء والتركيب. لذا، ما يبقى من الأعمال الفلسفية ليس براهينها وأنساقها، بل منجزاتها كما تتجسد في النصوص التي هي حقول للإمكان نشتغل عليها لتطويرها وإغنائها بالجديد من المساحات والمفاهيم والصور والشخوص والنماذج والمناهج، وسواها من أنماط التفكير وطرائقه وتجلياته. بهذا المعنى، فالذين نعدهم من أهل النقل، أو المعادين للعقل، قد تتكشف نصوصهم، عند التشريح والتفكيك، عن جوانب معقولة، تماماً كما أن من نعدهم من أهل العقل والاستنارة قد تتكشف نصوصهم عن جوانب غير مقبولة. هكذا، لا وجود لعقل محض أو لتنوير تام، إذ كل عقل يلابسه الوهم أو يتأسس على جهل أو حجب أو نسيان. لذا فإننا، في ما يخص التراث الفكري، نتجاوز مع نقد النص تصنيف العلماء والفلاسفة، كالفارابي والغزالي وابن رشد وابن عربي، بين تنويري وظلامي أو عقلاني وعرفاني، إذ الكل على اختلاف اتجاهاتهم، كانوا مبدعين، كل على طريقته. ومن سخف العقل أن نفكر بإلغاء نصوصهم، كما من السذاجة أن نحاول تقليدها والتماهي معها، الممكن هو العمل عليها وتحويلها، لتوظيفيها والبناء بها، أو لتفكيكها وإعادة تركيبها بصورة بناءة ومثمرة. هكذا، فالمشكلة ليست عندهم بل عندنا.
> كسر منطق القبض والتحكم. فلا أحد يقبض على قوانين التاريخ. إذ لا سبيل لإنتاج معرفة بالوقائع على نحو يقيني، مطابق، أو قاطع. فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالماضي الذي لم يعد يوجد إلا في عقول الأحياء وذاكرتهم.
هذا شأن الفاعل البشري في ما يصنعه وينشئه. فمخلوقاته تتعداه وتفلت من سيطرته بقدر ما تكشف عجزه أو جهله وادعاءه أو حمقه وسذاجته. هذا ما يحدث اليوم في شكل خاص، حيث المجتمعات تنخرط في واقع كوني، يتصف بحركته المتسارعة ومعطياته السيالة وأدواته الفائقة وشبكاته العنكبوتية وأهوائه المتقلبة وكائناته الهشّة...
الأجدى الاشتغال بلغة الخلق والابتكار، بحيث نتجاوز عقلية المماهاة الخاوية والخادعة، بين العقل والواقع، إذ هي تختزل بنية الواقع بالتباساته وتعقيداته، بتوتراته ومفاجأته، بفجواته، وفراغاته، بمتاهاته وأفخاخه. لا يعني ذلك أننا مجرد وكلاء أو أدوات تنفذ في شكل أعمى المشيئة العليا للتاريخ على نحو لا مردّ له. وإذا كان ما يحدث يخرج عن السيطرة، فإنه يفتح المجال للتدبر الملائم والتدخل الفعال، عند من يحسن قراءة المجريات وتشخيص المشكلات أو ترتيب الأولويات. من غير ذلك تحاصرنا الوقائع وتهشمنا الأحداث، لكي نلغّم مشاريعنا ونعيد إنتاج مآزقنا.
من هنا، فإن الرهان إزاء ما يحدث ويفاجئ أو يصدم. أن لا نتعامل معه بعقلية الحتميات المغلقة ولا بذهنية الطوباوية الساذجة، بل أن نقرأه قراءة خصبة وفعالة تشرح وتشخّص الواقع، على النحو الذي يفضي إلى خلق وقائع تستثمر الحدث بصورة إيجابية. هكذا، فالحدث هو فتوحاته وممكناته الغنية، تماماً كما أن الفكر هو تراكيبه البناءة وتحويلاته الخلاقة.
وبالعودة إلى اللحظة الراهنة التي تجسّدها الثورات الجارية. فإذا كان لهذه الثورات أن تنجح، فلن يكون لها ذلك، من دون ابتكار أفكار جديدة تساهم في تطوير وإغناء الشعارات والمطالب القديمة حول الحرية والعدالة أو حول المعرفة والتنمية أو حول السلطة والديموقراطية أو حول الإنسانية والكرامة... وهذا هو الرهان أمام المشتغلين في فروع المعرفة وحقول العلم. ليس محاكمة ما يجري وفقاً للنماذج البائدة أو المستهلكة، لديناصورات الفلسفة والعقيدة والسياسة، بل اجتراح الجديد من الأنماط والأساليب أو المفاهيم والمعايير أو المناهج والنماذج. وإذا كان للثورات العربية من فائدة، فإنها فتحت أبواب المستقبل لتحررنا من أوهام فلاسفة التاريخ وعظمائه وتنانينه وقادته ومرشديه ووكلائه.
لذا، فما نحتاج إليه ليس الدخول في التاريخ، كما يحسب أهل العجز والسبات، بل الخروج من التاريخ بكهوفه وسراديبه من أجل صناعة الحاضر الذي يهيئ لمستقبل يعد بالأحسن، ولا يثير الخوف أو الفزع من المجهول. بهذا المعنى، فما نقوله أو نرسمه حول الماضي هو مستقبلنا الآتي.
علي حرب
حقوق النشر: الحياة 2014
* مفكر لبناني والنص من محاضرة ألقاها في مهرجان الجنادرية السعودي - 2013