عقدة الاستعلاء الديني ووهم امتلاك الحقيقة المطلقة
يعتبر القرآن الاختلاف حقيقة إنسانية وحاجة طبيعية لا يمكن قمعها. وعلى هذا الأساس خلق الله البشر في ألسن وثقافات وجنسيات مختلفة، وفي هذا الإطار يمكن لنا أن نفهم - على سبيل التأويل - دعوة القرآن "يٰا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
ولذلك بيّن القرآن أنّ الإنسان أدرك منذ أوجده الله على وجه الأرض أهمية الحوار مع الآخرين من أبناء الملّة الإسلامية أو غيرهم من أتباع الملل الأخرى، إذ "كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ".
ونستنتج من خلال هذه الآية القرآنية أنّ البشر وإن اختلفت معتقداتهم وثقافاتهم ومذاهبهم فإنّهم متقاربون في الأسس الرمزية وفي قيمهم الإنسانية النبيلة. وهذا يعني أنّ مشروعية الحوار بين المجموعات الإسلامية المتعددة تكمن أساسًا في البحث عن القيم الدينية الأصيلة التي أرسلها الله رحمة للعباد فهجرها البعض تشبثًا بالفروع وربّما بفروع الفروع. فالحوار بهذا المعني بحث في الأصول المغيّبة والرّجوع إلى ينابيع الدين الأصيلة، وهذا ما تؤكّده معاجم اللغة، فابن منظور يرى أنّ أصل مادة "حوار" يعود إلى الحَور أي الرجوع عن الشيء وإليه، وحاورته يعني في اللّغة راجعته الكلام.
نسبية الحقيقة الدينية ومشروعية الاختلاف بين البشر
إنّ تأكيد القرآن على مشروعية الاختلاف ووجوبه باعتباره سنّة من سنن الكون وآية من آيات الخالق جعل من مقولة الحقيقة الدينية المطلقة مقولة هشّة لا تستجيب لخطاب القرآن ولا تعكس تاريخية المعتقدات الدينية ونسبيّتها. وعلى هذا الأساس بيّن القرآن أنّ الحقيقة المطلقة لا يعلمها إلاّ الله وعلى الإنسان أن يجتهد في تمثّل هذه الحقيقة بحسب وضعه التاريخي وسياقه الثقافي ولا يقدر على حسم هذه الاختلافات غير الله فهو فقط من يحكم بين المختلفين من بعد اختلافهم.
هذا التأكيد على نسبية الحقيقة الدينية ومشروعية الاختلاف قابله على مستوى التطبيق والتشريع حصر للحقيقة ووصاية مارسها بعض المفسّرين والفقهاء والأصوليين والمتكلّمين والسّاسة فأصبح كلّ "حزب بما لديهم فرحون"، بل أصبح الانتماء إلى المذهب في بعض مراحل التاريخ الإسلامي أقوى أنواع الانتماء وأقدسها ممّ نتج عنه صراعات دامية وفتن أضرّت بالخلق والعمران بحسب الاصطلاح الخلدوني.
الأديان في خدمة الإنسان في ظل عودة الشعبويات وهوس الهويات
التسامح والازدهار الإسلامي في عصر العلامة الأندلسي ابن عربي
"ليس لنا ملجأ سواك يا الله"...فيروز تصلي من أجل شفاء العالم
إنّ المتتبّع للآيات القرآنية، التي تضمّنت حوارًا أو دعوة إليه أو حديثًا عنه يلاحظ أنّ التصوّر القرآني لمسألة الحوار بين الأفراد والجماعات اعتمد مقولة شمولية الحوار مقولة أساسية. فالحوار كلّ لا يتجزّأ فهو هدف ومنطلق وسلوك وشكل من أشكال الوعي بالذات وبالآخرين، لذلك جعل القرآن للحوار مستويات تبدأ من حوار الذات وصولاً إلى حوار الآخر "الأقصى" مرورًا بمحاورة من يشاركنا الملّة والثقافة.
لقد دعا القرآن في أكثر من آية إلى الحوار الذّاتي بما هو تفكّروتدبّر، فالإنسان مطالب بالتفكير في نفسه وفي الكون المحيط به. ولقد عبّر القرآن عن ذلك في أسلوب استفهامي استنكاريّ "أَفَلاَ تُبْصِرُونَ" تكرَّر في عدّة آيات، كما هو حال الآية التالية.
ولا نبالغ إذا ذهبنا أنّ القرآن في مجمله يدعو إلى التفكّر ويصعب علينا في هذا المجال البحثي الضيّق أن نقف على كلّ الآيات التي امتدح في القرآن أصحاب العقول وأولي الألباب، ودعا صراحة إلى مراجعة الذّات والتحاور معها، لأنّ الحوار الذاتي يؤمّن بناء الشخصية بناءً متماسكًا قادرًا على محاورة الآخرين.
للاطلاع على تفاصيل المقال:
اقرأ/ي أيضًا
الإسلام واليهودية...ثمار تلاقح الأفكار المستنيرة
الإنسانية بدلاً من هوس الهوية.. كيف نقرأ اليوم فكر إدوارد سعيد النقدي؟
"من يعرف دينا واحدا، لا يعرف أي دين"...باريس تحتضن حواراً فريدا من نوعه بين الأديان
حوار الثقافات والأديان...ثمرة لقاء الحكمتين اليهودية والإسلامية
[embed:render:embedded:node:36325]