التسامح والازدهار الإسلامي في عصر العلامة الأندلسي ابن عربي
عند مغادرة الباب الخلفي للمذبح العظيم المطعّم بالذهب والتماثيل العديدة لمريم العذراء في بهو كنيسة سان سلفادور في أشبيلية، يصل المرء إلى بهو خلفي صغير وترن في الأذن أجواء نغمات آلة الكمان في الكنيسة المبنية على طراز الباروك ويقع البصر على بركة مياه ثُمانية الأضلاع.
كثير من السياح لا يلاحظون هذا المكان الصغير في ظلال الكنيسة العملاقة. وقبالة الجدار المطلي بالأصفر والذي يحد البهو، توجد بقايا ثلاثة أقواس حجرية تعلوها قمة برج مربع.
ليس هناك مايذكرنا هنا أن هذا البرج كان يوما ما مأذنة وأن البهو كان مخصصا لوضوء المصلين. المسجد أطلق عليه أول الأمر "ابن عديس" وكان أهم مساجد أشبيليه وملتقى مسلمي المدينة. العلامة الصوفي الشهير محيي الدين بن عربي وكبير حكماء مسلمي إسبانيا في القرن الثاني عشر كان يتردد على المسجد وذكره في حكاياته عن سيرته الخاصة.
مصادر الإلهام من إسبانيا حتى إندونيسيا
لم تتأثر فلسفة الصوفية الإسلامية كما تأثرت بالعمل العظيم حول تطوير الصوفية الإسلامية على يد العلامة ابن عربي والذي مر على ميلاده في السادس والعشرين من يوليو/ تموز ثمانميئة وخمسون عاما. تجاوز عدد كتب وأعمال ابن عربي الثلاثمئة ويراه كثيرون شيخ المعرفة وكنز الحكمة. التراث الأدبي للعلامة الصوفي ابن عربي ألهم العلماء من عرب إسبانيا وحتى إندونيسيا المسلمة في الشرق. وأطلق العلماء عليه اسم "شيخ الصوفية الأكبر".
من أشهر أعمال ابن عربي "الفتوحات المكية" و"فصوص الحكم". واحتاج ابن عربي لأكثر من ثلاثين عاما للانتهاء من كتابه "الفتوحات" الذي يضم آلاف الصفحات باللغة العربية. هذه الموسوعة الضخمة وحدت مصادر المعرفة الثلاثة وهي التقاليد والعقل والإلهام الروحي. أما كتابه "فصوص الحكم" فجاء أقل حجما ولكنه كان أكثر ثراءً في محتواه وتناول أسرار الأنبياء والرسل في ظل الحقائق الوجودية.
تتميز كتابات بن عربي بالكونية والتعدد الثري مع قدرة مدهشة على تناول قضايا مركزية وشائكة تتعلق بالخبرة البشرية. الباحث البريطاني المختص بأعمال ابن عربي شتيفان هيرتنشتاين كتب في عمله عن قصة حياة الشيخ الأكبر "هناك عدد قليل بمقدوره الادعاء أنه قرأ أكثر من جزء من أعمال بن عربي ومنهم عدد أقل يجرؤ على القول إنه فهم محتواه".
هذا التراث الفلسفي والتاريخي الواسع يجد الآن من يهتم به في إسبانيا. رغم ذلك لاتوجد لافتة واحدة في إشبيليه تذكرنا بالعلامة ابن عربي الذي عاش في المدينة سبعة وعشرين عاما. ولد بن عربي في مرسية عام ألف ومئة وخمسة وستين. وحضر ابن عربي وهو في السابعة من العمر مع والده إلى أشبيليه. ولعبت كبرى مدن الأندلس دورا مهما في مصير ابن عربي كعلامة للصوفية.
أشبيليه – بوتقة الثقافات
تحولت أشبيليه إلى بوتقة للثقافات تحت حكم دولة خلافة الموحدين. وازدهرت العلوم والشعر والفلسفة والمقدسات وعلوم الدين والعلمانية. وفي حضن هذا المزيج الثقافي نشأ ابن عربي وأظهر مبكرا قدراته الروحية وفسر الرؤى وآثر الاعتزال بين الأطلال القديمة.
وفي شبابه درس ابن عربي علوم القرآن والحديث وأثرى المجتمع بتلاميذه من علماء الصوفية والشيوخ من الرجال والنساء. وفي مراحل حياته الأخيرة قضى بن عربي بعض الوقت في مكة والأناضول. وفي عام 1240 توفي ابن عربي في دمشق عن عمر ناهز الخامسة والسبعين. ويقع قبره في أحد ضواحي العاصمة السورية وأصبح مزارا مهما للصوفيين.
ولكن كيف لا يكاد أحد يريد اليوم في أشبيليه أن يوضح العلاقة بين المدينة وابن عربي؟ الباحثة غراسيا أنكويتا التي تهتم منذ سنوات بالتصوف الإسلامي كتبت رسالة الدكتوارة الخاصة بها في جامعة أشبيليه عن عمل ابن عربي. وكتبت الباحثة: "الكثيرون من الإسبان يدركون أن الجزء الأعظم من تقدمهم يرجع إلى فضل الحضارة الإسلامية. غير أن أكبر الشخصيات للحضارة الأندلسية مثل ابن عربي لم تجد مكانها بعد في ذاكرة المثقفين الإسبان". وبالنسبة لكتابات ابن عربي فهي ليست سهلة التفسير، كما أنها باللغة العربية وهو ماجعلها مهملة.
بدأ اهتمام غراسيا أنكويتا بالتصوف عندما كانت تتعلم في المدرسة التعاليم الروحانية للكابالا ومسيحية الباروك الإسبانية. وفي الجامعة تعرفت لأول مرة على أعمال ابن عربي وبدأت في البحث. وعن ذلك قالت: "لقد انبهرتُ بهذه الحكمة التي عالج بها بن عربي كل قضية، وانبهرت بذلك التفهم للكون والحياة وكيفية هذا الربط بين الحقائق الملموسة والمعرفة الروحية".
أبحاث قليلة عن ابن عربي
الأندلس ظلت لوقت طويل أكثر مناطق أوروبا تقدما وحتى اليوم تقف الأعمال المعمارية شامخة مثل قصر الحمراء في غرناطة أو جامع قرطبة، فضلا عن إنجازات الفلاسفة مثل المفكر الإسلامي ابن رشد أو زميله اليهودي ابن ميمون.
الباحثة أنكويتا كانت أول من كتب رسالة للدكتوارة عن ابن عربي في إسبانيا. وهي تقول إن دراسة الصوفية يتم إهمالها في المدارس الإسبانية وتشرح قائلة: "في إسبانيا لا يوجد سوى عدد قليل للغاية من الأكاديميين الذين عالجوا أعمالا لا بن عربي بشكل جيد". على الرغم من ذلك تعتقد أنكويتا أن إرث بن عربي سيعاد اكتشافه من جديد في إسبانيا.
من سمات تعاليم ابن عربي هو ذلك الإحساس بالكون، فلم يكتفِ بإبراز التقاليد الإسلامية في ضوء معناها الداخلي وإنما اهتم أيضا بالفلسفة اليهودية والمسيحية.
هذا التعدد والتكامل في النظرة أصبحا من أهم معالم تفكير ابن عربي. ويتضح هذا عندما يتحدث عن التوحيد بين العقل والروح. كما عالج بن عربي المتناقضات في إطار متكامل منسجم وكشف النقاب عن مشاكل كثيرة تضغط على العالم حتى يومنا هذا، كما كانت موجودة في عصره.
ماريان بريمر
ترجمة: حامد سليمان