إرث الاستعمار الأوروبي لا يزال حاضراً في الشرق الأوسط
أنتج حميد دباشي، وهو واحد من أشهر باحثي الفكر ما بعد الاستعماري، أرشيفَ مقالات وكتب مؤثرة. ويتناول كتابه "أوروبا وظلالها: الكولونيالية بعد الإمبراطورية" أوروبا باعتبارها رمزاً ويتتبع "استمرار حالة الكولونيالية حتى بعد انهيار الإمبراطوريات". من كتب دباشي: "الربيع العربي: نهاية حقبة ما بعد الاستعمار" وَ "هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟".
***
سيد دباشي، ما الذي دفعك لكتابة هذا الكتاب؟
حميد دباشي: مجمل عملي مترابط. عقل واحد: ظلال متعددة. لا شيء على وجه الخصوص "يجعلني" أو "يجبرني" على كتابة أي كتاب. من أجل ذلك النوع من الكتابة فأنا محظوظ كوني أملك مكاناً في موقع الجزيرة مع جمهور عالمي رائع مهتم بمعرفة ما أفكر به حول قضايانا المعقدّة الحالية.
أما في كتبي فلدي مجموعة أفكار مختلفة تماماً وأكثر جوهرية ونقدية في العمل. فكتبي هي مثل الفيزياء التي تستند عليها الهندسة التي أقوم بها في مقالاتي. هذا الكتاب بالتحديد هو جزء من تأملاتي المتواصلة حول إمكانية وجود فرص متكافئة للمستعمرات السابقة وما بعد المستعمرات الحالية في عالم حرمها حتى اليوم من عدالة وإنصاف كهذه.
في كتاب "أوروبا وظلالها: الكولونيالية بعد الإمبراطورية" أسعى خلف الشيء الحقيقي، ليس حقيقة أو ظاهرة "أوروبا"، بل قوتها المجازية للغاية. كيف بدأت؟ كيف تعمل؟ لماذا فُتِنا بها ونفرنا منها في الوقت ذاته؟ ليست كتابتي محبة لأوروبا ولا كارهة لها بالتأكيد. إنها بأسلوب جراحي للغاية. أريد أن أعرف لماذا وكيف تستمر حالة الكولونيالية حتى بعد انهيار الإمبراطوريات. ولهذا السبب ترى كلمة "ظل" في العنوان. الكتاب، يمكنك أن تقول، هو دراسة علمية لهذه الظلال حول العالم.
بأي طريقة يختلف هذا الكتاب عن كتبك السابقة، وهل يرتبط بسلسلة كتبك المُسماة "ثلاثية الانتفاضة"؟
دباشي: يرتبط كتاب "أوروبا وظلالها: الكولونيالية بعد الإمبراطورية" بشدة بسلسلة الانتفاضة تلك. إذ تملك أحداث كهذه -مثل الانتفاضة الفلسطينية أو الثورة المصرية، أو الربيع العربي وما إلى ذلك- بُعداً عضوياً وميكانيكياً في خطابها. ففي تأملاتي السريعة في كتاباتي في موقع الجزيرة، غالباً ما أتناول جوانبها الميكانيكية. بيد أن أولئك الذين يعرفون عملي بصورة أكثر جدية يمكنهم مباشرة أن يروا أن نقاطي متصلة بقضايا متأصلة أكثر في تفكيري. فأنا محظوظ لكوني استعمل اليدين الاثنتين في الكتابة. لكن أياً كانت اليد التي أحمل بها قلمي، فهي تأتي من التفكير النقدي ذاته. في الواقع توجد لي ثلاث منصات: فيسبوك، وموقع الجزيرة، وكتبي: ثلاثة ملاعب مختلفة قليلاً حيث ألعب الكرة.
"منذ وقت بعيد، تصوَّرَتْ أوروبا نفسها مركزَ العالم" هذه هي الجملة الأولى في وصف كتابك. هل ما زلت تعتقد أن الحالة كذلك؟
دباشي: "أوروبا" تلك لم تعد مركز أي شيء، ناهيك عن العالم. أوروبا ابتعدت عن المركز بشكل منتظم وثابت. تكاد لا يمكنها أن تتماسك، ناهيك عن أن تكون مركز أي شيء. بيد أن الشعور الوهمي بمثاليتها ما زال مستمراً على قدم وساق. وأنا أسعى خلف تشريح هذا الشعور الوهمي. وكما أقول في مكان ما من الكتاب، كانت أوروبا تراقبنا حين نكتب أي شيء، والآن في هذا الكتاب أراقبها وفي الواقع أتفحص في "أوروبا" بينما قد كتبت نفسها. بيد أنني لا أقوم بذلك بصفتي غريباً عن أوروبا ولا بصفتي من داخلها بل بصفتي مسافراً عبر أوروبا. لم أعش بتاتًا في أوروبا، بيد أنني سافرت بصورة واسعة من طرف إلى آخر في أوروبا. لست غاضباً من أوروبا ولا معجباً بها - كلٌّ من هذين الشعورين يشوِّه الحقيقة.
مع صعود الشعبويين اليمينيين المتطرفين، في ألمانيا وأوروبا بأسرها، يوجد الكثير من التوتر. في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، استخدم الحزب اليميني المتطرف (حزب البديل من أجل المانيا) AFD لوحة "سوق العبيد" للفنان الفرنسي جان ليون جيروم كملصق للحملة الانتخابية، كيف تعالج هذه القضية في كتابك الجديد وهل تعتقد أن هذا التطور سيتكثّف أو يتغير في أي وقت قريب؟ أين يقع هذا فيما يتعلق بـ "ما بعد الاستشراق"؟
دباشي: كما ناقشتُ ذلك سابقاً، "الاستشراق" هو عمل جارٍ، إنه زيف يتكشَّف. إنه يشير ببساطة إلى علاقة إنتاج المعرفة والقوة. وبما أن علاقة القوة هذه غير متبلورة، وليست مركزية عرقية وليست مستقرة، فإن إنتاج المعرفة يتناسب معها ويفترض أشكالاً غير متبلورة. جان ليون جيروم رسم مع القوة والثقة. أما اليوم فيستخدمه الفاشيون الأوروبيون مع الخوف والكراهية. هذه لحظات مختلفة.
لقد عملتَ كثيراً على إدوارد سعيد، لا سيما في كتابك "ما بعد الاستشراق"؛ هل يمكنك أن تتخيل كيف من الممكن أن تكون ردة فعله تجاه هذا التطور الحالي في السياسة؟
دباشي: بالطبع سيكون مذعوراً. بيد أنه تركنا مع مجموعة ضخمة من أعمال تمكّن أجيالاً من الباحثين والمفكرين الناقدين من التفكير بأسلوبه. في نهاية قصيدة رائعة، سئم جلال الدين الرومي أخيراً من قول ما كان يقوله ويقول للموسيقيين في التجمع: "حسناً، لقد وصلتكم الفكرة، فقط استمروا بالعزف على غرار ذلك". والأمر ذاته مع إدوارد سعيد. لقد اكتشف نظرية معرفية جديدة، ونصل الآن إلى إتمامها، وربما حتى فرصة على آفاق عالم جديد.
ومن أجل هذا ما زال أعداؤوه السياسيون نشيطين في وزارة التعليم الأمريكية، يحاولون، عبثاً، مسح ذكراه. بيد أنه قد غير الحمض النووي DNA لتفكيرنا النقدي. تعرف هذه العقول الصغيرة الضعيفة من تل أبيب إلى العاصمة واشنطن تمام المعرفة أنها تسبح بشكل يائس ضد سيل ضخم ورائع.
إنْ نَظَرْتَ إلى الوراء إلى بداية الثورات التي بدأت في 2011، وكيف أصبحت الآن، هل ستكتب بعض مقالاتك وكتبك مثل "الربيع العربي" بطريقة مختلفة اليوم؟
دباشي: لا، لن أفعل ذلك. كما قلت سابقاً في كتابي حول الربيع العربي، أن الكتاب بأكمله كان طريقتي للانضمام إلى ملايين الحشود من ساحة التحرير في مصر، في جميع أنحاء العالم وهم يهتفون "الشعب يريد إسقاط النظام". لقد كان ولا يزال "البيان الشيوعي" الخاص بي (1848 كارل ماركس وفريدريك أنغلز) وأنا مقتنع أن علي كتابة "الثامن عشر من برومير ... لويس بونابرت" الخاص بي (1852 كارل ماركس)، إن جاز التعبير، مع عبد الفتاح السيسي بدل تشارلز لويس نابليون بونابرت.
أنت تكتب بانتظام لموقع الجزيرة. كيف تختار مواضيع مقالاتك وهل هي نقاط انطلاق لأفكار جديدة يمكن أن تتوسع إلى دراسات؟
دباشي: أختار مواضيعي بينما أكون في سريري في الصباح الباكر وأنا أقرأ الأخبار على جهاز الآيباد الخاص بي في ظلام الفجر المبكر. أقرأ وأكتب وأفكر وأدخن أو أضحك وما إلى ذلك. وأحياناً، قبل أن أنهض أكون قد خرجت بمقال كامل. ثم ينبغي علي صقله وإرساله إلى المحررين الرائعين. نعم، أحياناً يشيرون إلى قضايا بحاجة إلى تأملات أكثر تمهلاً وتوسّعاً تظهر في كتبي. وكما قلت، فإنه التفكير النقدي ذاته، يلعب في ملاعب مختلفة قليلاً.
حاوره: توغرول منده
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: أوبين ديموكراسي / موقع قنطرة 2019
كتاب حميد دباشي "أوروبا وظلالها: الكولونيالية بعد الإمبراطورية" يتناول أوروبا بوصفها رمزاً ويتتبع "كيف تستمر حالة الكولونيالية حتى بعد سقوط الإمبراطوريات".