"الاندماج ليس ثوباً لنرتديه، بل صيغة بحث عن قواسم مشتركة بين الثقافات"
أصبح لنا اسمٌ جديد سيرافقنا إلى آخر لحظة في حياتنا وهو "لاجئ"!
هذا ماأدركتهُ في اليوم الأول لي في ألمانيا في 21 من شهر أغسطس 2015، وأنا واقفة في طابورٍطويل جداً لا ينتهي في سوسيال برلين، لأسجل نفسي بشكل رسمي كلاجئة، لاجئة قطعت سبع دولٍ هرباً من الموت الذي لايزالُ إلى اليوم يحصدُ أرواح الناس في بلدها.
ما كان قاسياً ومهيناً لي هو اضطراري إلى الوقوف في هذا الطابور الطويل لأجل حقيقة إنني مجردُ "هاربة من الحرب وليست لأسبابٍ أخرى كالعمل أو الدراسة، هاربة لهذا البلد الذي لم أكن أعرف عنه شيئاًغير قصائد"ريلكه" وكتابات"غوته" و"هولدرلين"و"غونترغراس" و"هيرتا مولر" و"هاينرش هاينه".. وربما تحديداً كانت قصائد ريلكه، هي أحد الأسباب التي دفعتني لهذا البلد الذي فتح قلبهُ قبل أبوابه للكثير من السوريين.
في ذلك اليوم رأيت وجوه ألمانيا الأخرى التي لم أكن أعرفُ عنها شيئاً، وجوهاً غير شعرية أو روائية، رأيت وجه بيروقراطيتها والروتين القاسي لها من جهة، ومن جهة أخرى رأيت تلك العاطفة الخجولة لدى سكانها تجاهنا، نحن الذين هربنا من مدننا بسبب حرب لا أحد يريد لها أن تتوقف .
تساءلت حينها: هل هم يتذكرون ماضيهم مع الحروب التي دمرت مدنهم لذا يتفهمون جراحنا وآلامنا؟ لكن تلك العاطفة لا تغير شيئاً في بلدٍ تحكمه البيروقراطية.
كان عليّ أن أنتقل من برلين لمدين (eisenhuttenstadt)حيث كان الكامب في تلك المدينة أشبه بمعسكر اعتقال، يحيط به الشبك الحديدي ورجال الأمن بزيهم الأزرق وملامحهم المتجهمة. الانتظار الطويل أثناء حاجتك لأدنى مطلب بسيط. كل ذلك دفعني للغرق بالمزيد من اليأس، وكان لا بدّ أن أعاني مثل غيري من صعوبات التأقلم والأوراق ونظرات الموظفين الحكوميين التي تقول لي أنني تحولت من وداد الصبية الشاعرة إلى مجرد ملف ورقي ضخم، هو (الملف) أهم من كل وجودي. كل ورقة فيه هي من الأهمية بمكان أنها قد تضيّع عليّ فرصة إثبات وجودي كلاجئة رسمية.
لحسن الحظ لم يستمر الأمرطويلاً إذ إن انتقالي لمدينة برلين قد ساعدني كثيراً للبداية من جديد، من الصفر.
برلين فتحت لي يديها ومنحتني مفاتيح أسرارها، صادقت مكتباتها ومقاهيها وأحياءها القديمة، تعرّفت على أسرار المدينة ووجوهها، قرأت قصائدي في أماكن مهمة فيها، وكان ذلك فرصتي لأتعرّف على الألمان عن قرب، كانوا ودودين جداً ومعظمهم كان يبدي تضامناً مع الأحداث المؤلمة التي كانت تجري في بلدي.
برلين تحتضن الجميع
وهكذا كامرأة شابة وقارئة وكاتبة وجدت نفسي مع الوقت أتحوّل لواحدة من سكان برلين، مدينة تفتح ذراعيها للغرباء، تمتلأ بالشعراء والمجانين والرأسمالين والمتسولين والمتعصبين والمنفتحين جميعاً دون أن تضيق بأحد.
المكتبات الممتلئة بكتب كتبت بلغة لم أكن أعرفها جيداً بعد، هي أكثرُ ما احتوتني وجعلتني فرداً من سكان برلين.
فأنا لم أقتنع يوماً ببرامج الاندماج التي تصدر هنا وهناك ويتم الحديث عنها، سرت وراء قلب المدينة وشعراءها وكتابها لأفهمها وأكون واحدة من سكانها.
لا تزال اللغة عائقي الأكبر، الألمانية صعبة، ودون التمكن من التحدث بها بطلاقة سيبقى المرء يشعر إنه غريبٌ في هذا البلد، لذا أفكر بأمي وأقاربي الذين تجاوزوا الخمسين ولم يكن لديهم تعليم باللغات الأم، كيف لهم أن يكونوا جزءاً من هذا المجتمع المختلف عنهم؟ دورات تعليم اللغة ليست كافية، هؤلاء يحتاجون للمجتمع الألماني ليسندهم، أن تكون هناك فعاليات اجتماعية يلتقي فيها هؤلاء الناس بأقرانهم من الألمان، ليستطيعوا أن يفهموا بعضهم أكثر.
أنا وجدتُ أنّ الشعر والأدب هو ما يجمعني مع هذا البلد وسكانه، ولا بد أنهُ لكل واحد أسبابهُ الأخرى.
كل أملي أن تنتهي الحرب قريباً فيعود السوريون لبلادهم ويعودوا بزيارات لهذا البلد الجميل، الذي احتضنهم في اللحظة الأكثر قسوة في تاريخهم حين تخلّى عنهم نظام بلدهم ورماهم للبحر والموت والقصف والدمار بعد أن تخلّت معظم دول العالم عن مسؤولياتها عن تدمير بلد بأكمله وتشريد الملايين من سكانه
أجل إذا انتهت الحرب لربما أعود أنا أيضاً وربما لا أعود حيثُ أكون وجدتُ "حكايتي الخاصة التي تنتمي لهذا البلد الحر والجميل.
وداد نبي
جقوق النشر: موقع قنطرة 2017
وداد نبي: شاعرة وكاتبة من سوريا. تكتب في الصحافة العربية. خريجة كلية اقتصاد وتجارة من جامعة حلب. مقيمة في ألمانيا.