كفرنبل… أيقونة الثورة وأطلالها

مبنى متهدم، أمامه ثلاثة أعمدة تاريخية مزخرفة.
معقل الثورة: سكان كفرنبل يبدأون العودة إليها بعد سنوات من النزوح هربًا من بطش نظام الأسد. (Photo: Qantara/Kristin Helberg)

كانت كفرنبل في إدلب رمزًا للثورة السورية، بلافتاتها الذكية ورسوماتها الساخرة. اليوم، وبعد سقوط الأسد، يعود ناشطوها القدامى لاستعادة ذكرى الانتفاضة وفقدان رفاقهم، ومناقشة خطط إعادة بناء بلدتهم التي تحولت إلى مدينة أشباح.

الكاتبة ، الكاتب: كريستين هيلبيرغ

"الأحلام تتحقق"، جملة كُتبت بالطباشور الأبيض على ما تبقى من جدار مغطى بالسخام الأسود عند أطراف كفرنبل، كنوع من الاحتفاء المتأخر بالنصر. تذكّر هذه العبارة بوقت كانت فيه الحرية في سوريا مجرد حلم بعيد المنال، حين كان كابوس التعذيب والغارات الجوية يخيّم على البلاد.

في كفرنبل، يعرف الناس جيدًا المعنى المزدوج للأمنيات والكوابيس معًا، من بينهم أحمد الجلال، فني أسنان يبلغ من العمر 43 عامًا، الذي كان يوما ما ناشطًا ورسّام كاريكاتير يرسم ملصقات سياسية للثورة السورية عام 2011، قبل أن يضطر لاحقًا للفرار من قصف نظام الأسد وروسيا إلى الحدود التركية، ويعيش الآن في أعزاز، وهي مدينة تقع في أقصى شمال البلاد. 

بعدها بعدة أعوام، وقف يتأمل مسقط رأسه القديم في جنوب إدلب في أحد أيام الجمعة أواخر أبريل/نيسان 2025، كثائر هادئ تقدمت به السنوات، بلحيته الكثيفة وسترته الجلدية السوداء، وشعر داكن مجعّد مسرّح إلى الخلف، وفي عينيه يمتزج الفرح بالحزن.

أسلوب فريد وإبداعي من المقاومة المدنية

لقد مرت أشهر على زيارته الأولى إلى كفر نبل. في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، عندما هرب الرئيس بشار الأسد إلى موسكو وأصبحت سوريا حرة أخيرًا، عاد الجلال مع بعض أصدقائه إلى هناك. يروي لـ"قنطرة": "لقد كان الأمر مؤثرًا للغاية"، إذ اختلطت فرحة التحرير بصدمة هول الدمار في البلدة. فيما ظلّ فقدان رفاقه الذين قُتلوا ولم يتمكنوا من عيش هذه اللحظة ثقيلاً على قلبه. خُلّدت صور ثلاثة منهم — شخصيات مثل رائد فارس، وحمود الجنيّد، وخالد العيسى — في لوحات فسيفسائية على جرف صخري عند أطراف ملعب كفرنبل الرياضي، ذلك المكان الذي تظاهر فيه الناس لسنوات وأرسلوا رسائلهم إلى العالم.

An der Wand ist ein Mosaik mit drei Männern zu sehen, und darunter steht auf Arabisch: „Revolution ist eine Idee, und eine Idee kann nicht mit Waffen getötet werden.“
خُلّدت صور رائد فارس، وحمود الجنيّد، وخالد العيسى في لوحات فسيفسائية على جرف صخري عند أطراف ملعب كفرنبل الرياضي. (Photo: Qantara/Kristin Helberg)

مع بداية الثورة عام 2011، برز في المدينة أسلوب فريد وإبداعي من المقاومة المدنية، إذ لم يكن أحد تقريبًا يعرف هذه البلدة التي يبلغ عدد سكانها 50 ألف نسمة، قبل أن يجذب مجموعة من الناشطين والناشطات هناك الأنظار، بفضل لافتاتهم المكتوبة باللغة الإنجليزية، وشعاراتهم الذكية، ورسوماتهم الكاريكاتورية الملونة والساخرة. 

سرعان ما ذاع صيتهم عالميًا. إذ طالبوا بفرض حظر جوي، وانتقدوا الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما بسبب تردده في دعم الثورة، وشرحوا للناشطين الغربيين المناهضين للحرب سبب كونهم كسوريين ضد الحرب لكن مع التدخل الغربي. حتى أنهم أعلنوا تضامنهم مع "الأشقاء الأوكرانيين" بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014.

"الثورة فكرة، والأفكار لا تموت"

وهكذا تحولت كفرنبل إلى رمز للانتفاضة، حيث برز رائد فارس، سمسار العقارات السابق، كأحد قادة الثورة، وصاغ عبارته الشهيرة: "الثورة فكرة، والأفكار لا تموت". وكغيرها من المدن السورية، تعرّض ناشطوها لقمع وحشي، قبل أن يتمكن الثوار المحليون من طرد قوات النظام عام 2013، واعتبار كفرنبل "مدينة محررة"، ليديروها شؤونها ذاتياً لسنوات بعد ذلك. كان فارس يقود المركز الإعلامي المحلي، وأسّس عام 2013 إذاعة فرش، كإحدى أولى الإذاعات المستقلة في سوريا، كما أسس اتحاد مكاتب الثورة المحلية، وهو تجمع للمبادرات المدنية.

لا تزال أطلال ذلك التاريخ حاضرة؛ مبانٍ شبه متهالكة كانت تحتضن ستوديو إذاعة "فرش" ومكاتب الاتحاد، وجدران باهتة تغطيها العشب والشجيرات، بينها الجدار الذي كُتب عليه عبارة "الأحلام تتحقق"، كأنه نصب تذكاري مُنسق بعناية وسط متحف مفتوح للثورة.

لكن العمل المدني آنذاك كان محفوفًا بالخطر ويتطلب شجاعة، إذ واجه النشطاء عدوين شرسين: النظام الذي لاحقهم وقصفهم؛ والميليشيات المتطرفة التي حوّلت حياتهم جحيمًا، من بينها جبهة النصرة والتنظيم المنبثق عنها "هيئة تحرير الشام" بقيادة أحمد الشرع، الرئيس المؤقت الحالي. كانت بمثابة حرب على جبهتين، دفع كثيرون ثمنها بأرواحهم، منهم فارس، والجنيد، والعيسى.

يمكن رؤية مبنى مدمر وجدار بجانبه مكتوب عليه "اتحاد مكاتب الثورة".
مبنى اتحاد مكاتب الثورة، الذي أسسه الراحل رائد فارس، جمع تحالفاً من مبادرات المجتمع المدني. (Photo: Qantara/Kristin Helberg)

اعترض الإسلاميون على مبادئ راديو "فرش" الديمقراطية والليبرالية، لكن محاولاتهم في السيطرة عليه باءت بالفشل، فعندما طالبوا بمنع أصوات النساء، شوّه فارس وزملاؤه جميع الأصوات، حتى  أصبح مستحيلاً التمييز بين الذكور والإناث، وعندما حظروا بثّ الموسيقى، استعاضت المحطة مؤقتًا بأصوات الحيوانات. غير أن العنف ما لبث وأن تصاعد؛ ففي 2014 نجا فارس بأعجوبة من محاولة اغتيال نسبها لتنظيم "داعش".  قبل أن يُقتل مع زميله الجنيد في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 برصاص مجهولين لم يُكشف عنهم حتى اليوم. 

أما أحمد الجلال، رسام الكاريكاتير في المجموعة، تلقى تهديدات عندما سعت هيئة تحرير الشام ورائه، فهرب إلى أعزاز وهي مدينة تقع شمال حلب التي كانت تسيطر عليه قوات المرتزقة الموالية للأتراك. يشير إلى أن هجوم النظام الأخير عام 2019 بدعم روسي-إيراني أدى إلى نزوح من تبقى شمالًا نحو الحدود التركية، تاركين بلدات مثل كفرنبل أطلالًا استخدمها جيش النظام والميليشيات الإيرانية كمواقع عسكرية في السنوات اللاحقة، وزرعت الألغام في محيطها.

متظاهرون في كفرنبل يحملون لافتة كاريكاتورية تندد بالدعم الروسي للنظام السوري.
ذاع صيت كفرنبل إبان الثورة بسبب شعارتها ولافتاتها الذكية.

كان عثمان السويد، رب أسرة، من آخر من غادروا كفرنبل نهاية 2019، يقول: "انتهينا من جني محصول التين، ثم رحلنا"، وفي زيارته الثالثة للبلدة في أبريل/نيسان الماضي، التقى بجيرانه ورفاقه القدامى عند الساحة في مدخل البلدة، وتبادلوا الأحاديث، والتفكير في خطوات إعادة البناء.

تظهر ملامح لمحاولات إحياء الحياة في البلدة، وقد بدأ محل بقالة صغير نشاطه في بيع مواد البناء – مثل المسامير والبراغي، والأنابيب، والخراطيم، والأغطية البلاستيكية. يقول السويد، إن نحو 200 عائلة فقط عادت حتى الآن.

لكن البلدة ما زالت أشبه بمدينة أشباح؛ شوارع مليئة بالحفر، ومبانٍ محروقة منهوبة، فقد نهب أتباع الأسد المدينة بعد قصفها والاستيلاء عليها، يقول السويد: " أخذوا كل ما يمكنهم بيعه مقابل المال: الأبواب، النوافذ، الأنابيب، الأحواض، البلاط"، وقد كان نهجًا تكرر في جميع المناطق التي استعادها النظام، سواء في ضواحي دمشق أو درعا أو حمص أو حماة أو إدلب أو حلب.  ووفقًا لبيانات الأمم المتحدة، جرى تدمير أو إتلاف ثلث الوحدات السكنية السورية.

كل هذا يجعل من كفرنبل غير صالحة للسكن، وبحسب فريق ملهم للتطوع، وهي منظمة غير حكومية تنظم المساعدات الإنسانية في شمال غرب سوريا منذ سنوات، فإن إصلاح البنية التحتية وحده سيكلف 2.5 مليون دولار، وتدير المنظمة مدارس ومراكز صحية، وقد بنت عدة مجمعات سكنية للأرامل والأيتام بعد الزلزال الذي وقع في فبراير/شباط 2023. وتعكف ملهم، حاليًا بدراسة درجة الدمار في مناطق مختلفة من أجل تمكين العودة المنظمة للنازحين داخليًا. وهي الآن تتبع خطة لإعادة تأهيل المناطق تدريجيًا: إنشاء البنية التحتية أولًا لتمكين عودة جماعية للنازحين، بدلًا من الترميم الجزئي في كل مكان.

"المنطقة مليئة بالألغام"

لكن حتى الآن، لا يعود إلا من يملك منزلًا قابلًا للترميم أو دعمًا من أقاربه. أما الأرامل والأيتام، فيبقون في المخيمات مهملين ومنسيين من العالم، إذ تقلصت موارد المنظمات مع نقل أنشطتها داخل البلاد لمساعدة العائدين.

ومع ذلك، يظل السويد مع أسرته في مخيم باريشا شمال حلب، فقد رزق للتو بطفل سادس، ويقول إن الوضع في كفرنبل لا يزال خطيرًا على الأطفال، "المنطقة هنا مليئة بالألغام والقنابل غير المنفجرة، ولا أحد يعرف مكانها". يقدر الخبراء أنه من بين أكثر من مليون قنبلة جرى استخدامها منذ عام 2011، لم تنفجر 30 في المائة منها.

بعد 14 عامًا من الحرب، باتت سوريا واحدة من أكثر الدول تلوثًا بالألغام، وتعمل بعض منظمات دولية "هالو ترست" و"هاندكاب إنترناشونال" على إزالتها، ولكن التقدم بطيء، ومع عودة مئات الآلاف من النازحين داخليًا، يتوقع الخبراء ارتفاع عدد الضحايا، وقد سجلت منظمة أطباء بلا حدود، في الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام، نحو 470 حادثة متعلقة بألغام لم تنفجر.

يحاول الأهالي أحيانًا العثور على الألغام وتفكيكها بأنفسهم، مما يتسبب في إصابات ووفيات متكررة. يقول: "مؤخرًا، داس ثلاثة أطفال من نفس العائلة على لغم وماتوا"، وكان الشقيقان وابن عمهما يرعون الأغنام في بداية شهر مارس/آذار بالقرب من كفرنبل. ولا يزال محمد المحرق، رئيس مسجد نور الدين زنكي التطوعي وكان جزءًا من الإدارة الذاتية سابقًا في البلدة، يتذكر هذا الحادث المأساوي، فقد انتهى لتوه من صلاة الجمعة، وخرج حوالي ثلاثين رجلاً من المسجد الواقع في الساحة الرئيسية، معظمهم، مثل عثمان السويد وأحمد الجلال، كانوا في زيارة للمدينة.

رجل بلحية كثيفة وسترة الجلدية السوداء، وشعر داكن مجعّد مسرّح إلى الخلف.
أحمد الجلال يزور بلدته كفرنبل لأول مرة بعد سقوط الأسد، أبريل/نيسان 2025. (Photo: Qantara/Kristin Helberg)

يقول المحرق، إنه سعيدًا بكل عائد، ويتفهم أيضًا أولئك المترددين، مضيفًا أن بعضهم يبيع جزءاً من أرضه لترميم منزله، بينما يعتمد آخرون على دعم أقاربهم من الخارج، لكنه يوضح أن البنية التحتية – المياه والكهرباء والرعاية الطبية والتعليم – تحتاج إلى دعم خارجي هائل، ويضيف: "إذا أُعيد فتح المدارس، قد يعود 40% من اللاجئين الذين يملكون منازلًا متضررة ولكن قابلة للإصلاح".

لكن الجلال ليس من بينهم؛ فمنزل عائلته مُدمّر بالكامل. سيبقى في أعزاز، حيث درس تقنية طب الأسنان ويعمل الآن في عيادة أحد أصدقائه بينما تُعرض بعض ملصقاته السياسية في معارض في دمشق. يرى الجلال، أن الحفاظ على ذكرى الثورة ضروري حتى لو كانت هناك أولويات أكثر إلحاحًا من إنشاء نصب تذكارية.

اليوم؛ توصل النشطاء من كفرنبل إلى اتفاق مع الحكام الجدد، فقد أصبحت هيئة تحرير الشام أكثر براغماتية في السنوات الأخيرة، بحسب الجلال. في غضون ذلك، أصبح الشرع، حاكم سوريا، وجرى حل هيئة تحرير الشام، وأزالتها الولايات المتحدة من قائمة المنظمات الإرهابية ودعمت الشرع، الذي يتحدث عن رغبته في إشراك جميع فئات السكان، لكنه لا يستطيع احتواء الكراهية والرغبة في الانتقام بعد 14 عامًا من الحرب و54 عامًا من الدكتاتورية. 

تتكرر عمليات الاغتيال والمذابح، ويرتكب المتطرفون فظائع ويعمقون من انقسام المجتمع، ويبدو التذكير بأهداف الثورة السورية – حياة كريمة وحرة، دون خوف وبحقوق متساوية للجميع، أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. لم يتحقق هذا الحلم بعد، ويشعر كثيرون بخيبة أمل، لكن قصة رائد فارس ورفاقه تبعث بإحياء الأمل في "سوريا الجديدة" – أيضًا لأنها لا تزال حية وسط أنقاض كفرنبل.

ترجمه من الألمانية: م. تايلور


سيتم نشر هذا النص قريبًا في نسخة مطبوعة مشتركة بين قنطرة ومجلة Kulturaustausch. ولمزيد من التحليلات والمقابلات والتقارير حول سوريا عبر موقعنا هنا..

قنطرة ©