تدهور الحالة النفسية وراء أمراض اللاجئين الجسدية
(كلما أمر أمام مقبرة ألمانية أقول لنفسي : هل سأدفن هنا بعيدا عن قبر أمي!) بهذه العبارة اختصر أحمد السوري معاناته النفسية لي بعد أن فتح لي قلبه وصارحني بحالة الاكتئاب الحادة التي يعاني منها في موطنه الجديد ؛ بلد اللجوء ألمانيا.
ذكر تاريخ علم النفس سيغموند فرويد كأعظم طبيب ومحلل نفسي في العالم ولكن نسي التاريخ أن يذكر لنا أنّ فضلا كبيرا لما وصل إليه فرويد من المعرفة وفهم أعماق النفس البشرية يرجع كذلك لكثير من مرضاه الذين كانوا على درجة عالية من الشفافية والمصداقية، اللتين مكنتا فرويد من فهم تجارب الناس وأمراض النفس البشرية، وهو الأمر شبه المتعذر في مجتمعاتنا العربية لأسباب يحتاج شرحها إلى موضوع مستقل.
تحت ساطور الديكتاتورية والتهجير والتدمير والتعذيب
ليس من المبالغة القول إن شعبا يرزح تحت حكم الأنظمة الديكتاتورية القهرية لأكثر من ثلاثة عقود هو شعب سوي نفسيا وفق مقاييس الصحة النفسية العالمية بمعنى من المعاني، فكيف إذا أضيف إلى حالة العيش تحت ساطور الديكتاتور حالة الفوضى والاضطرابات الاجتماعية والثورات والجوع والقتل والاعتقالات والتعذيب والتهجير وتدمير البيوت والاحياء وحرق النسل والحرث؟
مع موجات التهجير والهروب من القتل والتهديد بسحق الحياة وهيمنة الفوضى والغلاء والوباء والبلاء على الساحة السورية اختار كثير من السوريين اللجوء لدول الجوار العربي أو الجغرافي أو للبلدان الأوروبية.
ورغم تفاوت الظروف وتباينها حسنا وقبحا بين تلك البلدان فإنه بلا ريب يبقى من حسن حظ البعض أن الأحوال الحسنة في البلدان الأوروبية هي الأفضل بكافة المقاييس مقارنة مع بلدان اللجوء ومخيمات عرسال والزعتري وتركيا.
ورغم هذه الفوارق في الشروط المعيشية سواء بين الداخل السوري (المحرر وغير المحرر) وبين الخارج السوري بين دول اللجوء غير الأوروبية والأوروبية فإنّ تشابها ملحوظا في الآلام النفسية شكل علامة بارزة للشخصية السورية، وهو الأمر البديهي علميا ونفسيا كما ذكرنا آنفا.
تهدف هذه الدراسة أساسا لتسليط الضوء على أبرز الأمراض والمشكلات النفسية التي يعاني منها كثير من طالبي اللجوء والوافدين الجدد إلى أوروبا وألمانيا تحديدا وصولا لمعرفة أسبابها الذاتية والموضوعية، المباشرة وغير المباشرة ثم العمل على تجنبها أو التخفيف من أثرها ومعالجتها شأنها شان الأمراض الجسدية والباطنية.
من النادر ألا يكونوا هم البشر الذين يصلون إلى حالة يخاطبون بها أنفسهم بأن الحياة بلا معنى وجدوى، وأنها كفاح طويل وعقيم وأنها لا شيء، وأنها عبث.
وربما اختبر بعضنا هذا الإحساس بصورة أشد، فاختلط تعبيره عن ذلك الشعور بفترات أطول امتزج فيها مع الحزن وخيبة الأمل والأسى والبكاء وفقدان الشهية واضطراب النوم والتشاؤم وربما اليأس من الحياة ومن مستقبل جميل ينتظرنا ويدفعنا للكفاح من أجل حياة أجمل، تلك هي الصور المركبة والمعقدة لما يسمى الزملة الاكتئابية والتي تختلف من شخص إلى آخر شدة وقسوة وعندما تطول هذه الفترة الملازمة لهذه الأغراض يكون الاكتئاب عصابيا.
العكس هو الصحيح...يظنون أن أمراضهم الجسدية وراء تدهور حالتهم النفسية
تنتشر بعض هذه الأغراض في أوساط اللاجئين وغالبا ما يعانون من أمراض جسدية يظنون أنها وراء تدهور حالتهم النفسية والعكس هو الصحيح، عشرات السوريين الذين التقيت بهم يعانون من أمراض المعدة والقولون بعيد وصولهم ألمانيا والسبب الرئيس نفسي بالطبع.
هشام، لاجىء سوري، تأخر البت في منحه الإقامة سنة كاملة وهو بحاجة لسنة ثانية في انتظار لم شمل زوجته، يعاني من مشاكل مزمنة في المعدة وفقدان الشهية والسهر الدائم ليلا. هشام لا يعرف وهو يتحدث لي عن مشاكله الصحية أن السبب الرئيس لمشكلته نفسي.
عمر، لاجىء سوري وقد أحاطت بعينيه هالة سوداء، عندما توجهت إليه بالسؤال، يبدو عليك الأرق والتعب النفسي، وكان جوابه: لا أعرف ماذا أفعل؟ لقد انتهيت من المستوى الثاني من اللغة الألمانية، ومحتار في أمري ماذا أصنع وكيف أنطلق في هذه البلاد؟ وهل من الممكن بعد كل هذا التعب في تعلم اللغة أن يرحلوني من البلاد؟
محمد، لا يخرج من منزله إلا للأمكنة المتوجب عليه الذهاب إليها، كالجوب سنتر ومكتب الأجانب، يقول: لقد تحولت إلى جثة محنطة هنا، أملك شهادة علمية عالية ويريدونني ان أذهب للعمل (الساعة بيورو ) ماذا أصنع ؟ كيف انطلق لا أعرف؟ لم أترك طبيبا ليعرف علتي وأسباب الدوخة وعدم التركيز إلا وذهبت إليه!
انسداد الآفاق في أوساط اللاجئين السوريين
هذه أمثلة من مئات الأمثلة غير المحرجة أبدا لحالات الاكتئاب وانسداد الآفاق في أوساط اللاجئين السوريين، إضافة إلى حالات الشد العصبي والمشاكل الزوجية وحالات الانفصال والطلاق، فتأخر البت في الإقامات وتأخر لم شمل الأسر وصعوبات التعلم اللغوي وقلة التفاعل مع المجتمع الجديد والتواصل الإنساني وحضور الذاكرة السورية لما جرى في سوريا ولشعبها، هذا و لم نقل أن كثيرا من حالات الاكتئاب والمرض النفسي هي لأفراد خضعوا لتجارب سيئة سواء في المعتقلات أو الحصار أو المناطق الساخنة والتي تعرضت للقصف الصاروخي والبراميلي.
فعلى سبيل المثال كان في مدرسة تعلم اللغة الألمانية VHS طالب يبدو عليه أثر ضربة قوية على رأسه حملها معه من سوريا جعلته أقرب لفقد الذاكرة والتصرف بغرابة وهو يضع ريشة على رأسه كالهنود الحمر، ويقول عن نفسه أنه مخرج سينمائي!
اذن يشكل الاكتئاب الحاد تهديدا كبيرا للصحة النفسية يحتاج إلى الرعاية الصحية كما الرعاية الطبية سنفرد له بحثا مستقلا بغية المعالجة والتخفيف من آثار الحرب كمقترحات مضافة لسياسة الاندماج في المجتمع الجديد.
يوصف القلق بأنه مرض العصر الحديث لما في الحياة المعاصرة من تعقيد بعيدا عن البساطة الأقرب لطبيعة الإنسان، ويعرف القلق أنه حالة من الخوف الغامض الشديد الذي يتملك الإنسان ويسبب له الكدر والنكد والضيق، والقلق يعني الانزعاج، فالشخص القلق يتوقع الشر والسوء دوما، ويبدو متشائما متوتر الأعصاب كما أنه يفقد الثقة بنفسه ويفقد معه التركيز كما يصرح بذلك (فرويد).
فالسوري لم يعد قلقا على سوريا الوطن فحسب بل حتى على خلاصه الفردي، سؤال المستقبل هو ما يهيمن على عقلية السوري في بلدان اللجوء، فمن وطن أصبح سؤال العودة إليه مستبعداعند البعض إلى وطن أصبح سؤال المستقبل مطرقة تدق رؤوس القلقين، فهناك قلق البعض من صعوبات الاندماج وصعوبات التعلم اللغوي وقلق فقدان الصديق الثقة وقلق الوجود المستقبلي بعد انتهاء مدة الإقامات.
وهناك "قلق الإرهاب" كما سميته في مقالة سابقة، فعند كل حادثة إرهابية في أوروبا يضع اللاجىء السوري يده على قلبه عن تبعاتها شعبيا وسياسيا. فهو يرى أن البلاد التي فتحت له أبوابها عليه أن يفتح لها قلبه حبا وعطاء. وإذا ببعض المتطرفين يريدون تعكير هذه الارادة عند الطرفين، ولذلك أصبح قلق الإرهاب مرضا يصيب طالبي اللجوء ومواطني الدولة المضيفة، ما يحتم على الطرفين بناء جسور الثقة والتفاهم وكسر النظرة الدوغمائية للوافدين الجدد، الذين يصرون على أن قضية الإرهاب قضية تعالج قانونيا وأمنيا ويتحمل الجرم فاعله وليس مذهبه أو ديانته التي ينتمي إليها كثير من طالبي اللجوء.
يرى إريك فروم أن الاغتراب نوع من الخبرة التي يرى فيها الشخص نفسه غريبا عن نفسه: فيرى أنه لا يمكنه التحكم في أفعاله بل تسوقه أفعاله وينساق إليها، ما يجعله بعيد الاتصال بنفسه وبالآخرين.
ويرى كذلك (فروم) أن الاغتراب وعي الفرد بالصراع القائم بين نفسه وبين المجتمع المحيط به ما يجعله يشعر بعدم الانتماء، وتنمو لديه دوافع العدوانية والسخط التي يفقد معها أي شعور بوجود معنى للحياة.
وقد اعتبر كثير من علماء النفس وخصوصا جماعة "المدرسة النقدية الفرانكفونية" أن الاغتراب أخطر ما يهدد إنسان العصر الحديث بعد سيطرة الآلة عليه و"تشيُّؤ الإنسان".
لذلك، فإن حالة الاغتراب هي سمة المجتمعات الرأسمالية عامة ما يشكل تحديا آخر أمام طالبي اللجوء وتعقيدات الإجراءات البيروقراطية ولذلك كثيرا ما يقوم اللاجىء ببعض الممارسات تعويضا له عن حالة الاغتراب تلك، ومن أبرزها نمو نزعة التدين لدى كثيرين من طالبي اللجوء والتي قد تتحول لدى البعض إلى تدين عصابي غير صحي بتاتا كونه ينحو باتجاه التدين المعادي والرافض للآخر المختلف.
[embed:render:embedded:node:23347]
وهذا النوع من التدين الذي يهرب إليه بعض طالبي اللجوء يشكل تهديدا للصحة النفسية لصاحبه وقد يصل إلى التهديد المادي عبر تكفير الآخر المختلف أو الرغبة في إيذائه، ما يجعل هذا النوع من المتدينين العصابيين صيدا ثمينا وجاهزا للمنظمات الإرهابية المشبوهة!
كما أنّ انقسام المجتمع السوري باعتبارات ثورية (موالية ومعارضة) واعتبارات دينية (سنة وأقليات) واعتبارات عرقية (عربا وكردا) وانقسامات ثقافية (إسلامية وعلمانية ) نقل معه هذا الانقسام أمراضه إلى بلدان اللجوء فمن الكرد من يقول: بأصله الكردي فحسب ولا علاقة له بشيء اسمه سوريا، ومن الثوريين من يقول: لا حل إلا بدولة الخلافة وهذه المسميات خلقتها سايكس بيكو، ومن السوريين من يرفض الجلوس مع شخص في بلدان اللجوء كونه من المذهب العلوي ومئات القصص التي يعتبر الفيس بوك مؤشرا خطيرا عليها.
هذه قصص مأساوية ومرَضية معبرة عن أزمة السوريين النفسية والاجتماعية والسياسية، ويجب العمل على معالجتها ثقافيا وتفاهميا. وهذا ما يجب على أصحاب القلوب الكبيرة والعقول المستنيرة والنفوس الصحيحة أن تعمل لأجله.
كثيرة هي الشعوب التي عانت ما عاناه السوريون اليوم، وليست النازية والفاشية والأسدية والإرهابية والداعشية في النهاية سوى نزعات مرضية تدميرية وبربرية ساهمت في خلق نفوس مريضة وغير سوية نفسيا جرى تجاوزها عند بعض الشعوب والأمم عبر الثقافة ونضج المعرفة وصياغة القوانين والدساتير، وهذا ما يجب علينا كسوريين تعلمه في بلدان اللجوء: أن تغلب إرادة الحياة إرادة الموت، ويجب أن نخلق الأمل ونطرد اليأس ونثبت أننا شعب جدير بالحياة والكرامة، كما على حكومات البلدان الأوربية أن ترى في الوافدين الجدد دماء جديدة وطاقات مكبوتة يجب استثمارها وتأهيلها وتبعد ملف اللاجئين عن المناكفات السياسية والإعلامية والشعبوية وتترك لهم نافذة أمل لينطلقوا في الحياة من جديد ويرمموا ذاتيا نفوسهم المجروحة. فما من شعب خرج من الحرب إلا وكان خلاقا مبدعا ولا يحتاج الألمان لمثل هذا البرهان!
منصور حسنو
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017