السعودية: لا تناقض لدى محمد بن سلمان بين الإصلاح الاجتماعي والتسلط السياسي
"حرب باردة في الخليج"، ليس من المؤكد عما إذا كان هذا العنوان المؤقت للكتاب الجديد للباحث غيدو شتاينبرغ، سيكون هو العنوان النهائي للكتاب المقرر إصداره في العام التالي 2020. لكن المؤكد، هو أنه في الوقت الذي لا تزال فيه المملكة العربية السعودية تبحث مع حلفائها المقربين عن سبل الرد المناسب على الهجمات التي استهدفت منشآتها النفطية بطائرات مسيرة، قد تتحول هذه الحرب الباردة بسرعة إلى حرب ملتهبة.
لذلك من المهم فهم ما يحدث داخل المملكة رغم صعوبة مقاربة آليات صنع القرار في الرياض. ومن أجل هذا الغرض حاول شتاينبرغ، الخبير في شؤون الشرق الأوسط والباحث في شؤون الإرهاب بمؤسسة العلوم والسياسة في برلين، رصد البوصلة التي تحكم صنع القرار السياسي في السعودية، بالعودة إلى تاريخ يمتد إلى 250 عاما، اعتمادا على ثالوث: رجال الدين والنفط والأسرة الحاكمة.
تراجع نفوذ رجال الدين
تقريبا، ليست هناك دولة في العالم يملك فيها رجال الدين قوة تأثير مماثلة لما هو عليه الحال في السعودية - باستثناء إيران. لكن شيوخ الوهابية لم يكونوا دائما متفقين مع الأسرة الحاكمة، بل ولا يزال المتشددون منهم ينتهجون أيديولوجية متطرفة.
فهم يدعون، على سبيل المثال لا الحصر، إلى هدم جميع الأضرحة والمزارات التي يحج إليها المسلمون، فتصوروا مثلا تدمير مكة أو قبر الرسول في المدينة أو تاج محل في الهند. لقد انتهى فيه الزمن الذي كان فيه الفقهاء أهل الحل والعقد منذ عام 1930. فاليوم تراجع نفوذهم بشكل كبير أمام حكام المملكة، فأصبحوا مجرد "شركاء صغار" في اتخاذ القرارات على حد تعبير شتاينبرغ.
وبالتوازي مع هذا التطور، من المفارقة في الوقت نفسه، رصد تأثير الوهابية السعودية على الإسلام بشكل عام. فالمملكة تمول بناء مساجد وتأهيل العديد من فقهاء الدين من مختلف أنحاء العالم. كما أن العمال الأجانب من العالم العربي الذين يعملون في السعودية يتأثرون بالوهابية ويحملونها معهم بعد عودتهم إلى بلادهم. الفقهاء السعوديون بدورهم نشطون أيضا في الدول الغربية بشكل قانوني وغير قانوني أيضا.
داعش والوهابية السلفية
حتى تنظيم "الدولة الإسلامية" المعروف إعلاميا بداعش، اقتبس الكثير من ممارساته العقائدية من التعاليم الوهابية المتطرفة: على سبيل المثال، تدمير المقابر والأضرحة والكراهية والحقد ضد الشيعة. وبهذا الصدد يوضح شتاينبرغ: "لقد درس العديد من قادة داعش والعديد من الشيوخ الذين يروجون لداعش في أوروبا، بالجامعة الإسلامية في المدينة (المنورة)، مركز الدعوة الوهابية".
ويرى شتاينبرغ أن المشكلة وبسبب النشاط الدعائي، تكمن في وجود توجه بين المسلمين حول العالم يرى أن الوهابية السلفية هي الإسلام الحقيقي. ويقول: "يؤمن كثير من ذوي الأصول التركية في ألمانيا أن الإسلام هو الذهاب إلى المسجد خمس مرات في اليوم. وجزء كبير من هذه العقيدة مصدره السعودية". ومثل هذا الإسلام من الصعب جدا أن يتوافق مع الأقليات أو أغلبية المجتمع التي تكون ذات توجه مختلف تماما.
النفط لا يزال محددا أساسيا
بدأت المملكة العربية السعودية إنتاج النفط عام 1938، وهي من أكبر الدول المصدرة للنفط في العالم رغم المنافسة الروسية والأمريكية. بدأت أول موجة تحديثية كبيرة في المملكة عام 1973، عندما ارتفع سعر النفط بشكل حاد.
وأتاحت الإمكانيات المالية الكبيرة تحديثا سريعا ولكنه سطحي، صاحبته عدة مشاكل. ففي عام 1979، تمرد الوهابيون المتطرفون وطالبوا بالعودة إلى المجتمع القديم (أكواخ من الطين بدلاً من ناطحات السحاب). كما أن الطفرة النفطية غيرت مراكز الأهمية الاستراتيجية في المنطقة العربية حيث "حولت مركز الثقل الجيوسياسي بعد عام 1973 من القاهرة إلى دبي والرياض وأبو ظبي".
غير أن الانخفاض المفاجئ لأسعار النفط في التسعينيات أدى إلى شبه انهيار للسعودية. ويرى شتاينبرغ أن هذه الفترة كانت حاسمة وبالغة التأثير، أظهرت أهمية النفط في صياغة السياسة السعودية. إذ فجأة عجز السعوديون عن إعالة أسرهم، وهذا الوضع كان من بين أسباب ظهور تنظيم القاعدة على حد تعبير الخبير الألماني.
الاعتماد على البترول لم يتغير إلى يومنا هذا، فتسعون بالمائة من موارد الدولة السعودية مصدرها شركة أرامكو النفطية، أكبر شركة لانتاج الذهب الأسود في العالم. أما الإصلاحات فيجب أن تكون على المدى الطويل وهذا ما انتبه إليه الرجل القوي الجديد في المملكة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
تحول في "سلطوية" آل سعود
يبقى السؤال الجوهري هو مدى قوة مركز ولي العهد الشاب محمد بن سلمان؟ يرى شتاينبرغ أن "طبيعة السلطوية السعودية قد تغيرت". "بين عامي 1970 و2015 سيطرت العائلة المالكة بكاملها على البلاد، أما اليوم فهناك شخصان فقط يحتكران القرار "الأول هو الملك سلمان بن عبد العزيز، المولود عام 1936، والذي لا يتمتع بصحة جيدة. ثم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان"، كما يقول الخبير الألماني، ويضيف أنه "ساد الاعتقاد في فترة، بأن اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، قد أضعف الأمير الشاب، غير أن هذا الاعتقاد تغير اليوم".
ويرى شتاينبرغ أن الإصلاح والسلطوية ليسا متناقضين من وجهة نظر محمد بن سلمان. "في الماضي، كان من السهل جدا انتقاد سياسات الحكومة السعودية باستثناء محرمين اثنين: الدين والأسرة الحاكمة، أما القضايا السياسية الأخرى فكانت مناقشتها متاحة. أما اليوم فقد يؤدي كل انتقاد، مهما كان صغيرا، بصاحبه إلى السجن".
حظوظ نجاح إصلاحات الأمير؟
ما هو مستوى تأييد وشعبية الأمير محمد بن سلمان في أوساط الجيل السعودي الشاب؟ فحتى بعد مقتل خاشقجي الذي يشتبه بأنه يقف خلفه، لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا في الميدان بطرحه على السعوديين أنفسهم. يقول شتاينبرغ إنه على الرغم من تداعيات قضية خاشقجي، لم يسمع إلا أشياء إيجابية في أغلب الأحيان.
"شخص يقول إن علينا فك قيود التقاليد البالية، والسماح للنساء بقيادة السيارة. نحن سنزيل القيود المفروضة على النساء". الحقيقة هي أن الأمير الشاب كسر نظاما متحجرا، "أعتقد أن لديه بالفعل فرصة ليصبح مصلحا كبيرا، إذا نجح اقتصاديا".
وماذا عن إيران؟
شتاينبرغ لم يتناول قضية مسؤولية تدمير منشآت النفط السعودية، مكتفيا بعرض الوضع في المملكة من منظور العديد من السعوديين المنفتحين على العالم. لقد اشتكوا من أن إيران تبسط اليوم نفوذها على أربع عواصم عربية:
بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. ومن المفارقات أن النفوذ الإيراني تعزز بشكل كبير بعد التدخل الأمريكي في العراق وانهيار نظام صدام حسين. "في المقابل شهدنا ظهور تحالفات جديدة لم تكن متوقعة كالسعودية وإسرائيل اللتين لديهما سياسة متطابقة تقريبا تجاه إيران"، يقول الخبير الألماني غيدو شتاينبرغ.
سابينه بيشل
ترجمة: ح.ز
حقوق النشر: دويتشه فيله 2019
ar.Qantara.de
غيدو شتاينبرغ عضو في مجموعة الأبحاث المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط وإفريقيا في مؤسسة العلوم والسياسة (SWP) في برلين. عمل بين 2001 إلى 2005 كخبير في شؤون الإرهاب الدولي في مكتب المستشارية الألمانية.