نفس حكاية السلطة والإقصاء
في مايو/أيار 2025، أعلنت القوات المسلحة السودانية استعادة العاصمة الخرطوم وتطهيرها بالكامل من قوات الدعم السريع بعد أكثر من عامين من الصراع، حيث شكّل انتصارًا كبيرًا للقوات المسلحة السودانية ذا أهمية رمزية واستراتيجية. رمزيًا، اعتُبر استعادةً لسيادة الدولة، متمثلًا في استعادة القصر الرئاسي ومقر قيادة الجيش ومؤسسات حكومية أخرى. استراتيجيًا، اعتُبر ذلك إشارةً إلى تحول في ميزان القوى، مسجلًا أكبر نقطة تحول في الصراع حتى ذلك التاريخ، حيث اكتسبت القوات المسلحة السودانية اليد العليا.
مثّلت استعادة الخرطوم ضربةً قويةً لقوات الدعم السريع التي استولت على العاصمة في بداية الحرب تحديدًا لأهميتها الرمزية والاستراتيجية؛ إذ قوّضت خسارتها النفوذ السياسي والعسكري لقوات الدعم السريع. مع ذلك، لم تكن استعادة الخرطوم بأي حال من الأحوال بداية نهاية الصراع، وعززت قوات الدعم السريع منذ ذلك الحين قبضتها على معظم مناطق دارفور وكردفان، وشكلت مؤخرًا حكومة موازية في مناطق سيطرتها.
منذ استعادة العاصمة، أعلنت حكومة الأمر الواقع، أن استعادة الحياة الطبيعية في الخرطوم هي أولويتها: اتخذت خطوات فعّالة لإعادة بناء الخدمات، وهي خطوات لاقت ترحيبًا واسعًا من الكثيرين، لا سيما النازحين من الخرطوم الذين يستحقون استعادة مدينتهم. وبينما يُفهم، بل ويُتوقع، أن تُركز الحكومة على العاصمة أولًا، لا سيما وهي من بين أكثر المناطق تضررًا من النزاع في السودان، إلا أن هذا التركيز يُمثل إشكاليةً بالغة.
لطالما تمتعت الخرطوم بامتيازٍ على بقية البلاد من حيث الموارد والسلطة السياسية، على الرغم من كونها أصغر ولاية مساحةً، ولا يسكنها سوى حوالي خُمس سكان البلاد، إذ يعيش غالبية السودانيين خارج العاصمة، في مناطق عانت لعقود من التهميش السياسي والاقتصادي والصراعات. لذا، فإن إعطاء الأولوية لتعافي الخرطوم على حساب الولايات والمدن الأخرى يُهدد بإعادة إنتاج أوجه عدم المساواة ذاتها التي غذّت حروب السودان، وإدامة التفاوتات الهيكلية التي لطالما ميّزت البلاد. يشكل هذا التوتر بين الحاجة المشروعة لإعادة بناء العاصمة ومخاطر تكرار نمط التنمية غير المتكافئة، تحدياً كبيراً يبدو أن الحكومة الفعلية تتجاهله.
استعادة الحياة الطبيعية؟
في 12 يوليو/تموز، أصدر الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني والزعيم الفعلي للسودان، توجيهًا بتشكيل "اللجنة العليا لتهيئة مناخ عودة المواطنين إلى الخرطوم". وقد مُنحت اللجنة، برئاسة عضو مجلس السيادة الفريق أول إبراهيم جابر، تفويضًا واسعًا، يشمل إعادة إرساء الأمن، واستعادة الخدمات، وإعادة تأهيل البنية التحتية، ونقل المؤسسات الحكومية.
إنها مهمة شاقة، على أقل تقدير، وباعتبارها إحدى ساحات القتال الرئيسية، أصبحت الخرطوم مدينةً شبه خالية من المعالم. وتُظهر الصور المتداولة بعد استعادة الخرطوم دمارًا مروعًا في البنية التحتية والمدارس والمستشفيات، كما دُمرت جميع محطات الكهرباء في الخرطوم، و12 من أصل 13 محطة لمعالجة المياه. ولا تزال عشرات الآلاف من القنابل غير المنفجرة منتشرة في أرجاء العاصمة، مما يُهدد بقتل المزيد من الناس. تقدر الأمم المتحدة، أن هناك حاجة إلى 350 مليون دولار لإعادة تأهيل المرافق الأساسية للعاصمة وعدة مليارات من الدولارات لإعادة بنائها بالكامل.
ورغم الوضع المتدهور، أعلن رئيس الوزراء كامل إدريس، أن الخرطوم "ستُعاد تأهيلها بالكامل في غضون ستة إلى تسعة أشهر"، إذ أمر فور توليه منصبه، جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية بالعودة إلى العاصمة، بالإضافة إلى إعادة فتح جميع الجامعات ومراكز الشرطة في الخرطوم وإصلاح جميع الجسور في غضون ثلاثة أشهر. وتعهدت اللجنة العليا لتهيئة العاصمة، بإعادة الكهرباء إلى محطات المياه والمستشفيات بحلول أغسطس/أب، ووعد البنك المركزي، بتوفير العملة الأجنبية اللازمة، وهو جدول زمني طموح لم يتم الوفاء به.
''القوى السياسية غارقة في الصراع''
تحسن محدود للوضع الإنساني في السودان عقب مفاوضات جنيف، في الوقت الذي تضغط واشنطن لوقف الحرب المستعرة منذ نحو العام ونصف، كما يقول رئيس تحرير صحيفة التيار السودانية عثمان ميرغني لقنطرة.
علاوة على ذلك، حث كل من إدريس والبرهان، المواطنين على العودة إلى الخرطوم، وأصرّا على أن الحياة عادت إلى طبيعتها وعلى الناس أن يساعدوا في جهود إعادة الإعمار. وبالفعل، عاد أكثر من 1.3 مليون سوداني، من بينهم موظفون مدنيون أُجبروا على العودة تحت إنذارات نهائية إما لاستئناف عملهم من الخرطوم أو الفصل. وفي 26 أغسطس/آب، عقدت حكومة إدريس التي تشكلت مؤخرا أول اجتماع لها في العاصمة.
تركيز الحكومة على الخرطوم
في مقابلة أجريت معه مؤخرًا في 12 سبتمبر/أيلول، ناقش رئيس الوزراء إدريس إعادة الإعمار، وركّز بشكل كامل على الخرطوم. وعندما سُئل عن سبب إعطائه الأولوية للعودة إلى الخرطوم على تحقيق السلام، قال: "الخرطوم تُجسّد كرامة هذه الولاية؛ فهي العاصمة الوطنية ورمز الأمة. العودة إليها، واستعادة رمزيتها، وإعادة ترسيخ أهميتها كعاصمة أمرٌ غير قابل للتفاوض... نحن نعمل على مدار الساعة لاستعادة الخدمات: الكهرباء، والمياه، وشبكات الصرف الصحي، وسلامة المواطنين وسبل عيشهم، كلها أولويات." وأضاف أنه على الرغم من الهجوم الأخير بطائرات بدون طيار من قبل قوات الدعم السريع على الخرطوم، فإن الحكومة عازمة على العودة إلى العاصمة، مُصرّة على أن مطار المدينة الدولي سيعمل بكامل طاقته في غضون أيام.
ومع ذلك، عندما سُئل عما وصفه البعض بـ"الوضع الكارثي" في الولايات الأخرى الخاضعة لسيطرة القوات المسلحة السودانية، أقرّ إدريس بأن وجود الحكومة هناك كان جزئيًا، وألقى باللوم بشكل كبير على المجتمع الدولي في تقصيره في معالجة الأزمة الإنسانية. ويسلط هذا التناقض الضوء على التزام الحكومة غير المتناسب تجاه الخرطوم، حيث تتحمل المسؤولية الكاملة عن إعادة الإعمار، بينما تنأى بنفسها عن بقية البلاد.
إن العزم على إعادة بناء العاصمة واستعادة الحياة الطبيعية أمرُ لا يمكن إنكاره، وهو أقوى بكثير مما هو عليه في الولايات الأخرى. أحيانًا، تتعهد الحكومة بإعادة الإعمار خارج الخرطوم؛ فقد زار وزير التنمية الحضرية والطرق والجسور ولاية سنار، مؤخرًا ووعد بإعادة تأهيل الطرق والبنية التحتية، بينما زار إدريس، مشروع الجزيرة وتعهد بدعمه الكامل لإحيائه. إلا أن هذه التصريحات والالتزامات محدودة، وغالبًا ما تطغى عليها سيل الأخبار المتعلقة بإعادة إعمار الخرطوم. ومن المفارقات أن ولاة الولايات تمت دعوتهم مؤخرًا إلى العاصمة، حيث أكدوا دعمهم للجنة العليا لإعادة إعمار الخرطوم، على الرغم من أن ولاياتهم تُكافح من أجل التعافي ولا تحظى بنفس القدر من الاهتمام.
وبعيدًا عن التصريحات والتوجيهات الرسمية، فإن الأمور تتغير بالفعل على أرض الواقع. تدريجيًا، تُفتح الأسواق، وتُعاد خطوط النقل، ويستأنف النشاط الاقتصادي نشاطه. أعاد رئيس اللجنة العليا، في الشهر الماضي وحده، افتتاح مصنع للزيوت ومطاحن دقيق ومجمع الكدرو لتجهيز اللحوم، والذي أعاد تأهيله نظام الصناعات الدفاعية، وهو تكتل مملوك للقوات المسلحة السودانية يخضع حاليًا لعقوبات أمريكية وأوروبية. بدأت الحكومة إعادة بناء المستشفيات، واكتملت المرحلة الأولى من إعادة بناء مستشفى سوبا، أحد أكبر المستشفيات في العاصمة. كما أطلقت حملة لإزالة وتدمير 50 ألف ذخيرة غير منفجرة في الخرطوم.
التركيز على رؤية معينة
إن إلقاء نظرة فاحصة على تفويض اللجنة العليا وإجراءاتها يشير إلى أن أولوية الحكومة ليست فقط إعادة بناء الخرطوم كما كانت، ولكن أيضًا إعادة تشكيلها بفعالية إلى مدينة شديدة التحصين والأبوية. تكشف ثلاث نقاط من التفويض بشكل خاص عن رؤية الحكومة: "إزالة جميع المساكن العشوائية في ولاية الخرطوم دون استثناء"؛ "تنظيم الوجود الأجنبي من خلال ترحيل الأجانب المخالفين ونقل المقيمين القانونيين خارج ولاية الخرطوم"؛ و"اتخاذ جميع التدابير الأمنية اللازمة لاستتباب الأمن، والقضاء على جميع الظواهر السلبية في العاصمة، وفرض سلطة القانون والدولة."
منذ استعادة الخرطوم، ركزت حملات واسعة النطاق على السكن العشوائي، حيث تعيش مجتمعات الفقراء والمهاجرين والنازحين داخليًا. في حي واحد من أحياء أم درمان وحدها، دُمر 806 منازل، غالبًا دون سابق إنذار. زعم رئيس اللجنة العليا، الفريق أول جابر، أن مناطق السكن العشوائي كانت بؤرة انطلاق تمرد قوات الدعم السريع، وللنشاط الإجرامي الذي ساهم في تمويل الحرب - وهو زعم ردده مدير جهاز حماية الأراضي، حيث سرد جميع المناطق التي هُدمت. وقد استُخدمت الادعاءات الرسمية التي تُجرّم سكان السكن العشوائي كسلاح، حيث تشير التقارير إلى أن حتى الأحياء التي يُنظر إليها على أنها متعاطفة مع قوات الدعم السريع تواجه الهدم، بغض النظر عما إذا كانت عشوائية أم لا. وكانت النتيجة ارتفاعًا خطيرًا في العداء العام تجاه سكان السكن العشوائي، والذي غالبًا ما يكون ذا طابع عنصري، إذ يُعتقد أن الكثيرين ينتمون إلى مجموعات عرقية معينة.
وبالمثل، استهدفت الحملات اللاجئين والمهاجرين من إثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان، الذين وصفتهم الحكومة بـ"السرطان"، متهمةً إياهم بالتورط في أنشطة غير قانونية والتعاون مع قوات الدعم السريع، وجرى نقل اللاجئين في مايو/أيار بالمرحلة الأولى من خطة اللجنة العليا للترحيل وإعادة التوطين إلى مخيمات في ولايات النيل الأبيض والقضارف وكسلا. وبحلول يوليو/ تموز، نُقل ما يُقدر بـ 1087 لاجئًا خارج الخرطوم، بينما رُحِّل 3000 جنوب سوداني و502 إثيوبي، وكثير منهم دون سابق إنذار أو مراجعة سليمة لوضعهم القانوني، رغم أن بعضهم كان يحمل وثائق إقامة أو بطاقات لاجئين صادرة عن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وأفاد البعض بتعرضهم لاعتقالات تعسفية وغرامات تصل إلى 609 آلاف جنيه سوداني (170 دولارًا أمريكيًا)، أو السجن لمدة تصل إلى ستة أشهر في حال عدم قدرتهم على الدفع. يعكس هذا الخطاب وهذه السياسة كراهية صارخة للأجانب، إذ يُصوِّر المهاجرين واللاجئين على أنهم تهديدات أمنية بدلًا من أن يكونوا مجتمعات أساسية في الخرطوم وبحاجة إلى الحماية.
استُخدمت سياسة ما يُسمى بالقضاء على "الظواهر السلبية" بشكل روتيني ضد العاملين في القطاع غير الرسمي والباعة الجائلين. وقد استهدفت الحملات الأخيرة بائعي الأطعمة والمشروبات تحديدًا، عقب حظر سابق على بيع الشاي في الأماكن العامة، وهي مهنة لطالما هيمنت عليها النساء. أقرّت الحكومة بالتأثير البعيد المدى لهذا القرار على سبل عيش النساء، ووعدت بمعالجته من خلال تخصيص مواقع وأسواق خاصة بهن في الخرطوم، وهو نهجٌ ينطوي على إشكاليات على عدة أصعدة. فهو لا يُقوّض مصدر دخل رئيسي للنساء فحسب، بل يسعى أيضًا إلى إبعادهن عن الأماكن العامة، والتحكم في أماكن عملهن وكيفية عملها. ومن خلال حصر النساء في مناطق محددة، تُعزز السياسة الحكومية المقترحة القيود المفروضة على حركتهن وظهورهن، مما يُهمّشهن فعليًا من الاقتصاد غير الرسمي والحياة العامة.
ورغم أن هذه الحملات تُذكّر بنظام عمر البشير، إلا أنها تختلف في تصوير المجتمعات المهمّشة بشكل منهجي على أنها مؤيدة لقوات الدعم السريع، مما يجعلها أكثر عرضة للتجريم والتمييز والإقصاء من الحياة العامة والاقتصادية.
لم تُستخلص أي عبر
إعادة بناء الخرطوم إلى ماذا، ولمن، وعلى حساب من؟ هذا هو السؤال المحوري الذي يجب أن يُوجّه تقييمنا لسياسات وإجراءات حكومة الأمر الواقع تجاه العاصمة.
بدلاً من استغلال هذه اللحظة لمعالجة نموذج التنمية غير المتكافئ تاريخياً في السودان، تُركّز حكومة الأمر الواقع، كسابقاتها، جهودها ومواردها في المركز، وحتى داخله، على أحياء ومجتمعات محلية مختارة، وحلفاء القوات المسلحة السودانية. هذا لا يُظهر أي دلالة على التعلّم من الماضي. تأجّجت الصراعات السابقة في السودان، بما في ذلك تلك التي وقعت في جنوب وغرب السودان، بسبب المظالم الاجتماعية والاقتصادية طويلة الأمد الناجمة عن التوزيع غير العادل للموارد. سعى قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، نفسه إلى استغلال هذه الرواية من خلال الادعاء بأن الحرب الحالية هي محاولة لتفكيك "دولة 1956"، في إشارة إلى نظام ما بعد الاستقلال الذي راكم فيه النخب من المركز السلطة والثروة على حساب الأطراف. للأسف، يشير تركيز الحكومة على الخرطوم إلى أن هذا النمط لا يستمر فحسب، بل يتعمق بأشكال جديدة وأكثر إقصائية.
كشفت امرأة مسنة من الفاشر، آخر معقل رئيسي للقوات المسلحة السودانية في دارفور، والتي تعاني حاليًا من مجاعة شاملة، في مقطع فيديو مفجع، أنها فقدت ستة من أبنائها، وسألت الجنرال البرهان بصوت مرتجف: "لماذا تبني الخرطوم الآن ولا تنقذ أهل الفاشر؟ بدلًا من بناء الخرطوم، لماذا لا تنقذ أهل الفاشر أولًا؟" هذا نداء يحمل في طياته مظالم الماضي وإهمال الحاضر.
*اقتحمت قوات الدعم السريع، الفاشر أواخر أكتوبر/ تشرين أول وبسطت سيطرتها عليها، وسط تقارير عن انتهاكات وفظائع واسعة النطاق.
نشر المقال لأول مرة في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط.
*أضاف المحرر الفقرة في 10 نوفمبر/تشرين الثاني.
ترجمه من الإنجليزية: سارة عرفة
قنطرة ©