اهتمام عربي واسع بخطاب الوعي البيئي
صدر للكاتب والقاص السوري موسى الزعيم مجموعة قصصية بعنوان "قمر الليلة الثالثة" عن دار موزاييك للدراسات والنشر بتركيا. فيما يلي يستعرضُ المقالُ كيفَ استخدم الكاتب البيئة المُحيطة، كقالبٍ إبداعيّ -ما يطلق عليه "الخيال البيئيّ"- ينقل من خلاله مشاعره وانفعالاته في الغربة وكذلك، يؤرّخ للواقع السياسيّ والاجتماعيّ في موطنه سوريا على مدى أكثر من خمسين عامًا.
الأنا المُعاصرة والخيال البيئي
الخيال البيئي Eco-Fiktion هو العمل الأدبي الذي تلعب فيه البيئة أو أحد عناصرها دورًا مهمًا، إما كخلفية أو كشخصية مركزيّة في العمل الأدبي. يتجلّى في مركز الخيال البيئي علاقات تواصل، يتمّ تشكيلها بين الشخصيّات الرئيسيّة في العمل الأدبي وجانب من بيئة هذه الشخصيات، فتظهر العناصر البيئية (الحيوان والطيور والنباتات والرياح والمياه والتربة وغيرها) كرابط رمزي لموضوع السرد أو تمثّل هذه العناصر البيئة غير البشرية في تفاعلها مع البشر استعارة ملامح للشخصية الرئيسية ورحلتها في العالم.
ورغم أنّ الكثير من النقاد يرون أنّ حضور الأدب البيئي قد يعود أصله آلهة الطقس وإلاهاته كالرعد والبرق في الأساطير كما في قصة النبي "نوح" في الكتاب المقدس أو كتب مثل كتاب "الحيوان" للجاحظ أو الشعر الوصفيّ في الأندلس الذي يزخر بتصوير الطبيعة ومناظرها الخلابة، إلاّ أنّ الاهتمام المتزايد "بالخيال البيئي" والنقد البيئي" منذ بداية العقد الثامن من القرن العشرين في الغرب ومؤخرًا في العالم العربي يُعزى أساسًا للاهتمام الواسع بخطاب الوعي بالبيئة وأثر التغييرات والمخاطر المناخيّة التي يشهدها الكون على الفرد والمجتمع.
في كتابه "أين الكتب البريّة" (2010) يرى جيم داير أنّ من أهمّ معايير إدراج عملٍ أدبيّ تحت مُسمى "خيالٍ بيئيّ" وجود البيئة غير البشريّة ليس فقط كأداة تأطير، ولكن كحضور يظهر من خلاله جليًا أن التاريخ البشري مُشتبك مع التاريخ الطبيعي. كما أن الخيال البيئي ينقل أهميّة الوعي بأنّ التاريخ البشريّ ليس هو المصلحة المشروعة الوحيدة في النظام الكونيّ، وكذلك اعتبار المساءلة البشرية تجاه البيئة جزءًا من التوجّه الأخلاقي للنص.
ففي "الخيال الأدبي" تُستحضر الطبيعية من قبل الشخصيات السرديّة كموضوع للتأمّل تظهر فيها الطبيعة كموقفٍ فكريّ وفلسفيّ تجاه الحياة كما أنه يصور السياق الاجتماعي والثقافي الذي تحيا فيه شخصيات السرد في هذه الحقبة التاريخية.
قمرُ الليلةِ الثالثةِ: البيئة والحرب
في المجموعة القصصية "قمرُ الليلةِ الثالثةِ" يستحضرُ السرد البيئة والطبيعة كفضاءٍ للزمان والمكان في السرد. ولكن الطبيعة هنا لا تحضر -كما اعتدنا- لنقل مشاعر رومانسيّة يتغزّل فيها الكاتب "الشاعر" بمحبوبته أو لوصف مناظر خلابة تلهم الكاتب "الشاعر" فقط، ولكن الكاتب استحضر البيئة ومكوناتها، كوصفٍ لأنا الكاتب المتأملة والمتألمة في الوضع الاجتماعي والسياسي والنفسي الذي تحياه شخصيّات السرد.
فوصف الشمس والنار والزهور والأشجار والعصافير والقمر والحشرات وحتى التراب، جاء كفضاء ينقل الكاتب من خلاله مشاعره وأفكاره. فجاءت بذلك الطبيعة في تفاعل مع الكاتب، إذ تجلّى ذلك في اختيار الحبكات والتركيبات اللغويّة وحتى الصور.
في أولى عتبات المجموعة القصصيّة "قمرُ الليلةِ الثالثةِ" بداية ممثلة بالغلاف والعنوان، يمكن أن تكون دلالة على هذه الرؤية الأدبيّة النقدية. وعلى اعتبار أنّ الغلاف والعنوان يتمّ اختيارهما بدقّة -للربط بينهما وبين متن العمل الأدبي- فصورة الغلاف وكذلك العنوان قد يحيلان إلى نموذج ثقافي مرئيّ موجود في حياة الكاتب المعاصرة أو محفور في ذاكرة ثقافية يستعرضها المؤلف أو المصور. لذا فالصورة التي يصدرها المُبدع هي عبارة عن علاقة بين الصورة والنصّ وربطهما مع الواقع المَعيش.
في صورة الغلاف تظهر يد إنسان يحمل وردة مقطوعة من بيئتها الأصلية، ولكن قبل نهاية رحلتها في الحياة نرى تناثر حبوب لقاحها في الهواء كرمز لاستمرارية نظام بيئي متوازن بينما قد يعيق عملية النمو (أو استمرار الإنتاجية) وجود بيئة ملوثة تظهر في الخلفية. فهل هذه النقاط السوداء في الخلفية أثار سلوكيّات حياتيّة خاطئة في التعامل مع البيئة والتي قد تسبب في اختلال التوازن البيئي؟! أم أنّه رمز شظايا مُتناثرة كمخلفات للقصف في مناطق الحرب؟!
أمّا العنوان وبما أنّه أهمّ العتبات لمتن النصّ الأدبيّ فمن خلاله يستشرف القارئ عوالم قد تستعرض أو تدلل على سياق الحدث أو الدلالةِ الفكريّة أو الأيدلوجيّة داخلَ المَتن السرديّ، كما يؤكد لنا الفيلسوف والناقد الأدبي والمنظّر الاجتماعي الفرنسي رولان بارت "العنوان هو نظام دلاليّ سيميولوجيّ يحمل في طيّاته قيماً أخلاقية واجتماعية وأيديولوجية". ومن هنا وفي هذا السياق يمكننا أن نقرأ عنوان المجموعة القصصيّة "قمر الليلة الثالثة" فيمكن المجادلة بأن العنوان كذلك ذو دلالة قويّة على الجوّ النفسيّ والسياق الاجتماعيّ والسياسيّ الذي تنقلهُ المجموعة القصصية عمومًا. فالليلةُ الثالثةُ للقمر تقترنُ باختفاء القمر وبداية الاتجاه تدريجيا نحو ظلام دامس ما قد يعتبر استعارة عن وضع سياسي واجتماعي قاتم، وخصوصًا حين يقترن اختفاء القمر، بالتعبير عن وضع امرأة مكلومةٍ. يجيبُ القمر الذي بدا على معالم وجهه الحزن: "لقد أمضيتُ ليلتي على جمرِ قلبِ أمّ".
الخيالُ البيئيّ السياسيّ
تستهل المجموعة القصصية بتصوير التفاعل بين البشريّ وغير البشريّ ناقلة كلّ من الوعي البيئي ومشاعر الحنين للوطن والوضع السياسي القائم، إذ تبدأ المجموعة بقصّة بعنوان "ما خفي من سيرةِ العصافير"، وفي هذه القصة يبدأ الكاتب بوصف الحنين لبلاده من خلال استحضار الشتاء البارد في برلين حيث "الشمس "وهميّة الدفء" ثم سرعان ما ينتقل لاسترجاع ذكرياته في بلده على إثر سؤال أثارته الشابة "ليزا" التي تعلمه اللغة الألمانية.
تسأل ليزا: "هل عرفتَ أي نوع من العصافير هذه؟ "فيردد المُغترب لنفسه ما دار في خلده قائلا: "... لو تعلم صديقتي أنّ الدوري جزء من سلالتي، له حصّة في خُبزي وركنٌ دافئ في بيت جدتي ... أرتدُ طفلاً يُطارد العصافير بين متاهات الدّغل والحقول، طفلٌ صغيرُ السنّ، يحفظ سلالة العصافير: من زَغب ريش فراخها يعرف الأب والأم، ومن زقزقة عصفور في حقل يخمّن في أية شجرة يبني عشّه ومن النقش على بيوضها يتوقّع موعد الفَقس (ص8). تستمر القصّة لتعبر عن السلوكيّات اليوميّة الخاطئة مع الطيور من جهة، وتلك التي تسببت فيها الحرب في بلاده من جهة أخرى.
يقول الراوي: "أعتقد أنّ الأمر تعقّد أكثر اليوم، لأنّ الحرب هجّرت العصافير، وربما قضت على سلالاتها. الكثير منها عبرت الحدود بحثاً عن فضاءٍ آمنٍ يشاركها فيه الحديد وما بقي منها قبضوا عليه، حشروها في صناديق مُغلقة وهربوها، باعوها كالدجاج، صارت على موائد الأثرياء، أو أسيرةَ بيئةٍ غريبة وأقفاص مذهَّبة. هل تعلمين يا ليزا أنَّني أحبُّ فَشلي، نعم أنا مُمتنٌ لَهُ الآن، سعيدٌ بكلّ محاولة فاشلةٍ لقتل عصفور، لكلّ حبَّة خُردق أو حَصاة "نقيفة" لم تُصب"، (ص11).
وفي نفس الجوّ النفسي والسياق السياسي المشحون تروي لنا قصة بعنوان "فلاش" حكاية شاب مغترب يطلب من أحد أصدقائه في الوطن أن يرسل له صور من الحياة اليومية والطبيعة في قريته يظهر فيها الناس والشجر، ولكن يحذره أحدهم من فعل ذلك، فقد يتورّط في المسؤولية عن "المؤامرة الكونية على البلد" ما قد يُعرّضه للعقوبة. يقرر البطل في القصة أن يذهب خارج القرية، وهناك يلتقط صورتين تعبران بطريقة مأساوية عن معاناة البشر والنبات تحت هذا الوضع السياسي فكانت "إحداهما لمقبرة القرية التي اتسعت كثيراً، وأخرى لفروع غضّة. تحلّقت حول ما تبقى من جذع شجرة زيتون مبتورة"، (73).
أمّا في قصته "زارع الورد" فيستمر السرد في تصوير ذلك الوضع السياسي وأثره على كلّ من الإنسان والبيئة حيث يُقتل رجل كلّف بزراعة الورد في المدينة برصاصةٍ طائشة" "من طرفي النزاع" وبعدها "اختلط دمُه بجذور الشتلات الغضّة"، (60). بينما من استطاع أن ينجح في الفرار من هذا النزاع يموت كمدًا ومرضًا بعد ما عاناه في السجون والمعتقلات.
في غربته قبل موته يطلب اللاجئ من أحد أصدقائه حفنة تراب من بلده توضع في أطراف كفنه. في صورة بديعة مؤلمة تعبر عن ارتباط الكاتب بوطنه وكذلك سيرورة النظام البيئي يقول الراوي في قصة بعنوان "هل سنصير أشجارا عندما نموت": "لا أريد أكثر من قبضةٍ من ترابها ... ضعوها في كفي حين تدفنونني. ستعطر عظامي. لعلِّي أنبت من جديد فيها شجرة. أو أسري مع مياه الينابيع فأخرج من أطراف بردي هناك"، (82).
في القصة القصيرة "فأس الغُربتليّة الجُدد" يظهر التناصّ واضحًا مع رواية "حظيرة 8" لديب أولين أونفيرث، والتي تعدّ أهمّ أعمال "الخيال البيئي السياسي" إذ تتبع الحبكة قصّة مراجعين لصناعة البيض الأمريكية يتخيلان مؤامرةً لسرقة مليون دجاجة في منتصف الليل. وكما تأخذ رواية "حظيرة 8" القارئ لأذهان الشخصيات الرئيسة: ابنه المزارع، مدير سابق للتحقيقات السياسية ومئات العملاء من خلال عملية السرقة هذه يأخذنا كذلك موسى الزعيم إلى الوضع السياسي والاجتماعي في وطنه حين يتذكر الخال كرمو الذي عاد من المخيّم ليرى قريته التي دمرها "الغربتلية الجُدد" أو "زلم الطاغية" كما يسميهم.
يتذكّر الخال كرومو ذلك وضع بلاده قبل خمسين عامًا من خلال استدعاء حكايته مع مجموعة من الغرباء المتجولين ممن اعتادوا المجيء إلى القرية في موسم الحصاد بغرض الحصول على بعض المِنح من "الغلال ". يعطيهم أهل القرية من المحصول إحساناً قاصدين به التبرك، ولكن الخال كرمو يكتشف كيف أن الغرباء لم يكتفوا فقط باستغلال بساطة الفلاحين وطيبتهم -من أجل أخذ المزيد من الغلال مستخدمين ابتهالاتهم الدينية التي يدخل معها البسطاء في حالة من التواصل مع الله وينشغلون عن التركيز فيما ومن حولهم- ولكن هؤلاء الغرباء كذلك كانوا يسرقون الفؤوس والمعاوِل التي تزرع الأرض.
يتذكّر الخال: "مات أبي ولم ينتبه إلى أن الغرباء كانوا يسرقون فأسه ويشاركونه غلّة موسمه وقوت يومه وهو في قمّة نشوته ... بعد أنّ دمرت الطائرات البيوت والقرى راح زلم الطاغية" الغربتلية الجُدد" يلبسون وجوها جديدة، في أفواههم تلعب ألسنه الأفاعي، وصاروا يسرقون ما تبقى من الأبواب والشبابيك ... والأهمّ من ذلك كلّه سرقوا أفكار ومستقبل شبابنا"، (105، 104).
وباختصار فحضور البيئة في المجموعة القصصية "قمرُ الليلةِ الثالثةِ" -سواء كان من خلال التعبيرات أو الصور أو الاستعارات- يعتبر بمثابة حضور نفسيّ يستدعى من خلاله أفراد الشخصيات ذكرياتهم في وطنهم وينفلون مشاعرهم ومعاناتهم. كما أن حضور العناصر احتل مركز السرد، كما جاء مثلًا في عدد من القصص، حيث كان البطل فيها أحد أو مجموعة من عناصر البيئة كملحمة الزهور" و"قمر الليلة الثالثة" و"حين ضحك الحمام".
وختاماً يمكن القول إن الكاتب استخدم الخيال البيئي لتشجيع وخلق وعي أخلاقي تجاه البيئة وعناصرها من جهة، وأرّخ للوضع السياسي والثقافي والاجتماعي الذي يحياه شخوصه من جهة أخرى، بأسلوب إبداعيّ يمتزج فيه جمال الطبيعة مع المعاناة في الغربة وتحت واقعٍ سياسيّ مستبدّ واجتماعي متدهور.
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023