سيد قطب متخفياً في كتاب «استحالة الدولة الإسلامية»
يقود كتاب وائل حلاق المهم والعميق The Impossible State: Islam, Politics, and Modernity’s Moral Predicament ( الدولة المستحيلة: الإسلام، السياسة، والمأزق الأخلاقي للحداثة) إلى خلاصات ونتائج عدة، ويعيد فتح أبواب النقاش حول الدين والسياسة، بل يخلط الأوراق في شكل مثير. والأهم أيضاً أن كثيراً مما يطرحه الكتاب جاء على غير ما هدف إليه الكاتب، الضليع في دراسات القانون الإسلامي، والمطلع باقتدار على سجالات الفكر الغربي الحداثوي في مسائل السياسة، والأخلاق، والدولة، والقانون.
الأطروحة المركزية في الكتاب وكما يسطرها حلاق بوضوح في المقدمة، تقول باستحالة تحقق فكرة الدولة الإسلامية، وأن هذه الدولة بمدلولاتها وصيغتها الحديثة لم توجد أصلاً في التاريخ الإسلامي. وما شهده ذلك التاريخ هو أنماط من «الحكم الإسلامي» الذي تأسس على منطلقات ومبادئ وسياسات وغايات (أخلاقية جزءاً وكلاً) تختلف كلياً وجذرياً عن منطلقات ومبادئ وغايات وسياسات «الدولة الحديثة» (المادية جزءاً وكلاً).
يجادل حلاق بأن ثمة تناقضاً ارتطامياً لا يمكن تسويته بين فكرة «الدولة» كما تطورت في الغرب وقدمت نموذجها الخارج من سياق وتجربة غربيَين خاصَين، والإسلام كدين نشأ وتطور في الشرق وقدم نموذجه المتطور من سياق وتجربة خاصَين آخرَين.
يبني حلاق معمارين منفصلين تماماً: الفكر الغربي ومصادره ومنظومته الفلسفية الحداثية القائمة على ظافرية الإنسان وانعتاقه من الميتافيزيقيا والسلطات الدينية، وعلى إرادة تغلبه على الطبيعة، وإيمانه المادي بالعلم والتطور، والفكر الإسلامي ومصادره ومنظومته الأخلاقية القائمة على الميتافيزقيا والشريعة، وإرادة تعبد الإنسان خالقه من طريق ممارسته حياته واجتماعه وسياسته وفق التعاليم الدينية المتساوقة ورؤية كونية للإنسان والحياة الراهنة والأخروية. لا يمكن أن يتصالح هذان المعماران كما نستشف بوضوح من الكتاب، لذلك فمقولة الشاعر الإنكليزي كبلنغ في أواخر القرن التاسع عشر ومن موقع ازدرائي متعال إزاء الشرق بأن «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا» تتأكد وتتأبد هنا.
والجهد المضني الذي بذله إدوارد سعيد ونقاد الاستشراق، في دحض أية جوهرانية يُوصف (أو يُتهم) بها الشرق، يمضي أدراج الرياح مع أطروحة حلاق الجوهرانية، التي تخلع على الإسلام والشرق طبيعة من نوع خاص تختلف عن باقي البشر، جوهرها طبيعة الدين الذي يحدد حيواتهم ويتحكم بها بتمايز لا نراه عند الآخرين. حلاق ينطلق في كل ذلك من موقع المدافع والمنظر البارع لخصوصية إسلامية جوهرانية متميزة، تجعل المسلمين مختلفين مبدئياً وغائياً عن بقية البشر.
تفكيك مفهوم الدولة الحديثة
يتناول حلاق في كتابه «الدولة الحديثة» وأسسها ومنطلقاتها، و«الحكم الإسلامي» وأسسه منطلقاته ويفكك نظام «الدولة الحديثة» ومفرداتها الأولية ليثبت عدم إنسانيتها وماديتها وجبروتها الطاغي، وتحويلها ذاتها إلى ذات مقدسة علوية بقاؤها هو الغاية النهائية، ذلك لا يكون إلا على حساب «مواطنها» التابع والخادم لها.
لا يترك حلاق مقولة صلبة من المقولات الحداثية التي أعلت من شأن القوة المادية وجسدتها في الدولة إلا وضمّنها نقاشه. وفي قلب ذلك النقاش، استهدف فكرة السيادة التي تستند إليها الدولة وتعتبرها أقنومها المقدس الذي يجب أن لا يُمس. حشد حلاق في إدارة معركته ضد الحداثة ودولتها أقسى نقاد الحداثة الغربيين، متجاوزاً «نقد ما بعد الحداثة» إلى ما هو خارجها تماماً، إلى طرح بديل مختلف كلياً وجذرياً لا يجامل في لفظه الحداثة وكل مشروعها جانباً، وهو بديل «الحكم الإسلامي».
دولة الحداثة بالنسبة إلى حلاق هي أصل الشرور الإنسانية الحديثة، فهي مستبدة جوهرياً وإن زعمت أنها ديموقراطية ومساواتية، وسلطاتها التشريعية والتنفيذية متماهية وإن زعمت بوجود فصل للسلطات في آلياتها، وهي في نهاية المطاف متعالية على الإنسان «مواطنها وتابعها» ومستعدة لطحنه من أجل بقائها من خلال مفهوم «التضحية من أجل الوطن». والنخب الحاكمة في الدولة الحديثة تولدت من وسط الناس، من المواطنين، ولذلك اضطرت هذه النخب للبقاء على تواصل مستمر مع الناس تعزيزاً لشرعية وجودها في الحكم، وعن ذلك تولدت آليات الديموقراطية والانتخاب والتمثيل، ثم محاولة تقسيم السلطة على فروع ثلاثة مستقلة عن بعضها (وهي محاولة فشلت برأي حلاق).
في المقابل، في الحكم الإسلامي، ليس هناك شيء اسمه «وطن» تتوجب التضحية من أجله، وليس هناك دولة لها الحق أن تفرض على الأفراد ما تريد. ما يتواجد في الفضاء الإسلامي هو إدارة لأحكام دينية مُسبقة التشريع لا دخل للأفراد أو أي سلطة بشرية فيها، يظل الفرد فيها حراً وطليقاً من أية سلطة مفروضة كتلك التي تفرضها «الدولة الحديثة» (لكنه خاضع للسلطة الأخلاقية للشريعة).
ليست هناك «تضحية من أجل الوطن» في الحكم الإسلامي
السلطة التشريعية في الحكم الإسلامي هي بيد الله، أما القضاة والفقهاء والمفسرون فهم مجرد أداة لتوصيل وتفسير أحكام تلك السلطة، ولا يملك أي كان حتى الحاكم المسلم أو الخليفة أن يتدخل في تلك الأحكام، خصوصاً أن سلطة القضاة والفقهاء قوية ومستقلة عن الحكام. وعززت تلك الاستقلالية مسألة كون الخلفاء والأمراء في معظم فترات التاريخ الإسلامي غرباء عن السواد الأعظم من الناس (مغول، مماليك، فرس ...)، الأمر الذي لم يوجد أية صلات عضوية بينهم وبين المحكومين، وأبقاهم، أي الحكام، معزولين في قصورهم وسرادق حكمهم، فيما القضاة والفقهاء والعلماء يقومون بدور الجسر بينهم وبين المحكومين. هذا التوزيع، أو المقايضة في الأدوار، حفظ «استقلال العامة» عن الحكام، واستقلال القضاة عن الحكام والمحكومين، وفق ما يرى حلاق.
الأمر الأكثر جرأة وغرابة ويطرحه حلاق يتعلق بمفهوم المواطنة والتضحية. فوفق ما يرى، ليست هناك «تضحية من أجل الوطن» في الحكم الإسلامي، بل هناك جهاد ضد «غير المسلمين». وحتى هذا الجهاد لم يكن يقوم به الأفراد أنفسهم، مجبرين، بل جله قام به أبناء السبي الذين سباهم المسلمون وربوهم في معسكرات خاصة وأنشأوهم نشأة عسكرية حربية بحيث لم يدخلوا في بنية المجتمع المسلم ولا يعتبرون جزءاً منه، بل ظلوا خارجه مهمتم الوحيدة الحرب والدفاع عنه. لهذا يرفض حلاق فكرة التجنيد العسكري التي جاءت بها الدولة الحديثة، ويراها دموية تطلب من الأفراد الموت والتضحية من أجل الدولة، ولا يرى لها نظيراً في الحكم الإسلامي الذي حل المشكلة من طريق السبي وبالتالي حفظ أفراده من الجهاد والتضحية.
والأمر المحير أيضاً في أطروحة حلاق، وتعزز المقولات التي تؤبد تشريق الشرق وتغريب الغرب، يكمن في إعادة إنتاجه فكرة دار الحرب ودار الإسلام، وإعادة إنتاج خطاب الجهاد الحربي وأهدافه في نشر الإسلام بالسيف. لا يلتف كثيراً إلى المقاربات الفكرية والإسلامية التي ألغت أو خففت من صلابة هذه الفكرة وتقسيماتها الدموية للعالم، وهو ديدنه في الاستخفاف بكل جهود تلك المقاربات وبكل ما يراه «مجاملات» غير أصيلة للحداثة ودولتها وأفكارها، وهي «مجاملات» فكرية لا علاقة لها بالمنظومة الأخلاقية الكبرى التي ينطلق منها الحكم الإسلامي.
كيف وفق حلاق بين أخلاقيات تلك المنظومة المفترضة وكثير مما يُقره، مثل استرقاق آخرين للدفاع عن الأمة، ليس إلا واحداً من أسئلة كثيرة محيرة تظل برسم الإجابة. في قائمة هذه الأسئلة، وهو ما يناقشه الجزء الثاني من هذه المقالة نواجه التالي: أين هي قيمة الحرية في كل هذا النقاش؟ حرية الفرد وحرية الجماعة والحرية من الاستبداد؟ الحرية هي المسكوت عنه الأكبر في طرح حلاق.
ما هي تاريخانية ولا تاريخانية قراءة حلاق في الفكر والتجربة الحداثية لمسألة الدولة الحديثة ولمسألة الحكم الإسلامي، وإلى أي درجة تنطبق مثالياته التي يرسمها في كتابه على التاريخ العملي لحقب الحكم الإسلامي؟ وما هي الحدود الفاصلة بين طروحات حلاق الصارمة حول الحكم الإسلامي، ونزع أي سلطات سياسية تشريعية من الناس وتحويلها إلى الشريعة (أو بالأحرى إلى مفسريها) وطروحات سيد قطب حول الحاكمية، وما أسسته من إسلاموية حركية شوهت الفضاء العربي والإسلامي برمته؟
حلاق لا يبتعد كثيراً عن تصور «الحاكمية» القطبي
الدولة الحديثة تتناقض جوهرياً وفي شكل لا يمكن مصالحته مع الحكم الإسلامي، لذلك يستحيل قيام «دولة إسلامية»، لأن مكونات وأسس الدولة من سيادة تحديداً، ومواطنة، ومأسسة مادية وتشريعية تتناقض مع جوهر الحكم الإسلامي الذي يعتمد على الأخلاق والشريعة. هذه هي المقولة الأساسية، ولو بابتسار، لكتاب وائل حلاق «استحالة الدولة الإسلامية» والذي ناقشه الجزء الأول من هذه المقاربة، وهو النقاش الذي انتهى بطرح عدد من الأسئلة أهمها يتعلق باللقاء المُدهش، وغير المقصود بطبيعة الحال، بين طروحات حلاق في كتابه وطروحات سيد قطب في تنظيره للإسلاموية الحركية المعاصرة (وتحديداً في «معالم في الطريق» وتفسير «في ظلال القرآن»).
لا تقصد هذه المقاربة على الإطلاق إلصاق أي توصيف أصولي او غيره بأكاديمي رصين وراسخ مثل حلاق لا يحتاج شهادة كاتب هذه السطور. لكن ما تتوقف عنده هو التقاء عدد من الأفكار المركزية بين قطب وحلاق ومن موقعين مختلفين تماماً.
اللقاء الأول يتم عند مسألة رفض فكرة «السيادة» واعتبارها أحد أسس الشرور التي اطلقت يد الدولة الحديثة الجبروتية في التشريع والقوننة ومن ثم التحكم في البشر. قطب استرذل هذه السيادة واعتبرها تعدياً على حق إلهي مقدس في التشريع، ونحت مصطلحاً بديلاً ورافضاً لذلك هو «الحاكمية»، والذي يعني ان حق الحكم والتشريع هو بيد الله لا بيد البشر.
الناس والمجتمعات تدور حول ما تم تشريعه بتمام غير منقوص وليس أمامها سوى الخضوع للشريعة التي تجسد حاكمية الله. لا يكلف قطب نفسه بالخوض في تفاصيل كثيرة يخلفها مثل هذا التفسير الصارم، ويورث تلك المهمة لإسلامويين خلفه غرقوا في تلك التفاصيل فأنتجوا التطرف، واحياناً كثيرة الدم.
حلاق لا يبتعد كثيراً عن تصور «الحاكمية» القطبي إذ يرى أن اصل الحكم الإسلامي هو التسليم المطلق للشريعة المُتعالية المُصمتة، وأن كل أنماط وصور الدولة الحديثة تنازع الشريعة مركزيتها في مجال الاجتماع الإسلامي وترسيمه وفق الأخلاقوية الإسلاموية. الشريعة تقوم على نظام أخلاقي متكامل يتسق مع رؤية إلهية للحياة والكون والآخرة. بينما «الدولة الحديثة» تقوم على تصور براغماتي مادي يعلي من شأن الإنسان ويموضعه في مكان الإله، على رغم أن هذه الدولة نفسها تتأله على الفرد الذي خلقها.
عند قطب وحلاق لا يتبقى للسياسيين والعلماء والفقهاء والقضاة إلا لعب دور الوسيط بين النص المُشرع والناس. كلاهما يتفادى قراءة التاريخ الإسلامي الذي تواصلت فيه مراحل خلافية ودموية بسب الصراع على هذا الدور تحديداً، اي المنافسة على امتلاك «التفسير الصحيح» أو «النقي» او «السلفي» للنص المُشرع. ذلك الصراع هو الذي حدد مسارات قرون طويلة من التسيس والاجتماع الإسلامي، وليس التغني بالنموذج المثالي الذي يتخيله حلاق. معنى ذلك تاريخياً وعملياً ان «الدولة الدينية» التي ينفي قطب وحلاق وجودها في التاريخ الإسلامي كما وجدت في التاريخ المسيحي حيث زعم الملوك النطق والحكم باسم الإله، وُجدت فعلاً عند المسلمين لكن على مستوى أقل من مستوى الادعاء الأوروبي. سيطر الحكامُ والخلفاء المسلمون على التيار الأعرض من المفسرين والقضاة والعلماء والفقهاء ودفعوهم لتبني وترويج تفسيرات محددة ومدارس فقهية معينة وفق السياق والزمن والظروف السياسية، أسها تبرير الشرعية الدينية للحكام، ووجوب طاعة الناس لهم من منطلق ديني.
غياب قراءة التجربة التاريخية للحكم الإسلامي
عملياً إذن تلتقي دولة اوروبا الكنسية التي أدعت الحكم باسم الإله، مع دولة الحكم الإسلامي التي أدعت امتلاكها الشرعية الدينية، عبر الشوكة والتسويغ الفقهي، في نفس المربع من ناحية النتائج العملية والتعامل مع الأفراد. في ذلك المربع، اي مربع الحكم باسم الدين، سواء غربياً ام إسلامياً او غيرهما، كانت القيم والأخلاق العلياً هي الضحية الأولى على الدوام، لأن الحكم والسياسة ونزعة السيطرة لا تحفل بالأخلاق.
النقص الأكبر في أطروحتّي قطب وحلاق يكمن في خلوهما من قراءة التجربة التاريخية للحكم الإسلامي، الذي لم يكن وردياً في كل حقبه وأزمانه، وتقديم اطروحة نظرية لا تاريخية. يظل الإثنان في إطار التنظير التأملي الذي يرسم جمهوريات أفلاطونية وإرادوية من نصوص، بخاصة في مرآة ما يراه الإثنان فشل الحداثة وطحنها للإنسان (مثلاً، يبحر قطب في التشهير بالحضارة الغربية من خلال استدلال تسطيحي لكتاب هامشي هو «الإنسان ذلك المجهول» لـ «أليكس كاريل».
اللقاء الثاني بين قطب وحلاق نلحظه عند مسألة رفض المقاربات التصالحية والبراغماتية للحركات الإسلامية ومنظريها إزاء فكرة «الدولة الحديثة» او «الديموقراطية» او «السيادة والمواطنة»، او سوى ذلك من مفاهيم الحداثة السياسية. قطب رفض بشدة كل هذه الُمقاربات (وتضمن رفضه ايضاً كل طروحات الأفغاني ومحمد عبده وتيار الإصلاحية الأول)، لأنها بنظره محاولات «ترقيع» انطلقت من موقع الإحساس بالدونية والهزيمة الحضارية. أعتبر قطب أن النظام الإسلامي كامل متكامل وغير منقوص، ولا حاجة للمسلمين بأن يستوردوا أي مبدأ او قيمة او نظام من الأنظمة غير الإسلامية.
ما يجب ان يركز عليه المسلمون، وفق النظرية القطبية، هو التخلص من «الجاهلية» التي يعيشون فيها، ويعيدون أسلمة انفسهم ومجتمعاتهم وفق «الإسلام الصحيح» (وهو التعبير المُحير والمُلغز الذي يختلف على تعريفه عشرات إن لم يكن مئات الفاعلين من دول وحركات اسلاموية). بعد ذلك تتحقق الحاكمية ويطبق حكم الشريعة. حلاق من جهته يتبنى نفس الموقف ويقول إن كل محاولات الحركات الإسلامية، وأيضاً الدول الإسلامية التي تريد موائمة مفاهيم الإسلام الـــسياسية مع الدولة الـــحديثة ومنطلقاتها ومبادئها، هي محاولات فاشلة ولا تتجاوز «المجاملات» الفكرية، وليس امامها اي افق نجاح لأنه من المستحيل عليها ان تتجاوز التناقض الجوهري بين الإسلام والحداثة. إذا تبنت الحركات الإسلاموية فكرة «الدولة الحديثة» كما يراها حلاق فإن تلك الحركات تتوقف عن كونها إسلامية. والنهاية محــسومة بالنــسبة إلى حلاق وهي الفشل الذريع لأي مشروع «ترقيعي» او «تجميلي» للإسلام يُراد به مصالحته مع الدولة الحديثة، والفشل الذريع ايضاً لأي مشروع حداثوي يُراد تطبيقه في العالم الإسلامي لأن البنية التحتية رافضة له اصلاً وتفصيلاً.
اللقاء الثالث بين قطب وحلاق يتم عند مسألة بالغة الخطورة وهي الفصم والقطع التام مع الآخر على مستوى تفاعل القيم وتبادلها. بالنسبة إلى قطب الأمور محسومة تماماً ومنذ لحظة الانطلاق بكون الحياة والعالم والكون كله مقسوم إلى حق وباطل، ولا تواصل بينهما كي لا يتلوث الحق. وفق قطب، عندما يدخل الفرد الإسلام، حتى الفرد المُنتمي إلى مجتمعات المسلمين المعاصرة، والذي يرى قطب ضرورة دخوله الإسلام مرة ثانية، يجب عليه «ان يخلع على عتبة الإسلام كل ماضيه من الجاهلية». ليس هناك ما هو متوارث ومتداخل ومتثاقف بين المراحل الإنسانية المختلفة، بل استئصال للقديم برمته وإحلال الجديد برمته. لا تواصل بين «دار الإسلام» و «دار الحرب» إلا بالجهاد ونشر الدعوة. حلاق يأخذنا في رحلة فكرية طويلة ومضنية، لكنها ممتعة ايضاً، حتى يصل إلى نفس الفكرة: لا يمكن التواصل قيمياً ومبدئياً وأخلاقياً مع غير المسلمين، بخاصة الغرب، لأن المنطلقات مختلفة ومتناقضة تماماً. المنظومة التشريعية الإسلامية قائمة على الأخلاق، والمنظومة الغربية (وربما غيرها) تختلف تماماً وتدوس على الأخلاق مقابل المنفعة المادية.
هنا يتوجب القول إن قطب وحلاق يقترفان جريمة ابستمولوجية كبيرة بالتغافل عن واحد من اهم اصول التكامل الأخلاقي الإنسانوي في المنظومة الإسلامية، والذي يلخصه الحديث النبوي المهم في هذا المجال: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق». الفرضية الأولى في هذا النص تقول إن الإسلام لم يبدأ من الصفر، وإن هناك مكارم اخلاق حتى في «الجاهلية» الأولى جاء الإسلام ليتممها.
الفرضية الثانية مُستلة من الأولى مكانياً لكنها متجاوزة لها زمانياً حيث ان مكارم الأخلاق موجودة في طول وعرض التاريخ الإنساني قبل الأديان وبعدها، وعليه فإن وصول او تفاعل الإسلام مع اي مكان في العالم القديم او الحديث ينطلق من فرضية اعترافه بما فيها من مكارم اخلاق، ثم شروعه الإنساني والدائم لاستكمالها. وهذا يعني ديمومة ودينامية مستمرة، تفاوضية ومفتوحة دوماً، جوهرها افتراض التفاعل مع الآخر بكونه الأصل وليس افتراض الإحتراب معه. لهذا غلب دوماً عند علماء المسلمين الرأي القائل إن السلم هو الأصل والحرب هي الاستثناء. من الصعب ان تتأسس الغلبة لهذا الرأي لو كان الاحتراب والقتال هو الفرضية الأساس، لأن ما سيتبعها ضرورة إزالة كل أنظمة الآخرين من الجذور. تطبيقات نظرية سيد قطب في تاريخ الحركات الإسلاموية الحديثة دموية إلى ابعد حد، من تنظيمات التكفير والهجرة والجماعة الإسلامية في مصر، إلى نظيراتها في الجزائر وأفغانستان، وصولاً إلى القاعدة في كل مكان وبوكو حرام في نيجيريا وليس إنتهاءً بـ «داعش».
هذه التنظيمات ترى ان نقطة البداية في أسلمة المجتمعات تبدأ بـ «كنس الجاهلية» تماماً، ثم تشرع في تنفيذ هذا المشروع الذي لا نهاية له ويحطم مجتمعاتها. لكن التأثير العنفي لأفكار قطب تتعدى التنظيمات المتطرفة وتطاول الجسم الأعرض «المُعتدل» للإسلاموية المعاصرة، لكن هذا حديث مُستطرد آخر.
إنكار أي بعد أخلاقي أو قيمي في تجربة «الدولة الحديثة»
من المهم القول ثانية ان حلاق لا يقول ما يقوله سيد قطب، مباشرة ونصاً وتنظيراً. لكن أي قراءة «أصولية» ومتأنية لكتاب حلاق تصل بالقارئ إلى نفس المحطة «القطبية». ذلك ان ثمة فرضية صارمة في نص حلاق تكاد تنفي بالمطلق وجود أي بعد أخلاقي أو قيمي يستحق ان يُذكر في تجربة «الدولة الحديثة»، وهي فرضية غير موضوعية وغير تاريخية.
فعلى كل علاتها الكثيرة تقدم الدولة الحديثة في الحالة الغربية نموذجاً معيارياً فيه أقدار كبيرة من القيم الأخلاقية مثل المساواة، والحرية، والعدالة، والكفاءة في العمل، والمراقبة، والشفافية، والمحاسبة، وكلها قادت إلى نجاح المجتمعات الغربية وتفوقها على غيرها، على رغم عدم التمثل الكامل بها. لو لم تكن هذه هي حال مجتمعات الحداثة الغربية وما ابدعته من نجاحات بسبب تكامل منظوماتها البراغماتية والفكرية والقيمية لما وجد وائل حلاق نفسه يبدع في واحدة من الجامعات التي انتجتها الحداثة الغربية، كولومبيا. وأيضاً لما وجد مئات من مفكري ونقاد الحداثة والغرب انفسهم يعيشون ويكتبون وينتجون وهم في قلب «معبد الحداثة» الذي يدعون إلى هدمه.
ليس صحيحاً أن الفرد الذي تُنتجه «الحداثة» ليس إلا مادة مصمتة خالية من المشاعر وتلهث خلف المصلحة المنفعية وحسب، وهذا نقاش يطول فعلاً. إطلالة سريعة مثلاً على نتائج المسوح السنوية للمجتمعات الأكثر عطاءً في العمل الخيري (world giving index) ترينا ان المجتمعات «الحداثية» تسيطر على غالبية المراكز العشر الأولى، التي ليس بينها إلا مجتمع اسلامي واحد هو ماليزيا.
ولا يعني العمل الخيري هنا هو مجرد التبرع المالي، حتى لا يُقال ان المجتمعات الغربية هي الأكثر غنى لهذا فمن المتوقع ان تكون الأكثر تبرعاً، بل إن العمل الخيري يتضمن تقديم المساعدة للغريب، ومقادير العمل التطوعي خلال العام. الأكثر دهشة في نتائج مسوح 2015 ان سيريلانكا تحتل المرتبة الثامنة في قائمة المجتمعات الأكثر عطاءً، بينما تختفي كل الدول العربية التي تستورد خادمات من تلك الدولة.
إذا صوبنا النظرة إلى التجربة التاريخية وقارنا بين ما ينتجه الواقع المُعاش حالياً في الغرب فردياً او جماعياً، وما انتجه واقع الحكم الإسلامي العثماني الذي يراه حلاق كآخر تمظهر لتسيد المنظومة الأخلاقية الإسلامية القائمة على الشريعة حيث النموذج المُبتغى او ما هو قريب منه، فلن تكون الصورة افضل.
تحت الحكم العثماني العتيد والطويل الأمد لم تنتج المجتمعات الإسلامية إلا أفراداً خاضعين للسلطة مستسلمين لها، ولم نعرف عن إبداعات خارقة، ولا علوماً، ولا قريباً من ذلك، وكأن تلك المجتمعات اصابها عقم شامل عن إنتاج افراد مبدعين في كل اي من المجالات. جماعياً، ساد غياب مُدهش لقيم التضامن الجماعي والثورة على الاستبداد داخلياً، وحتى مناصرة الشقيق خارجياً، كما في حالة التخاذل العثماني عن مناصرة مسلمي الأندلس عشية سقوط دولتهم امام تحالف الممالك المسيحية، ومثلها السياسات التخاذلية تجاه الشمال الأفريقي من ليبيا والجزائر إلى المغرب وسهلت احتلالها من القوى الأوروبية.
في واقع العالم «الحداثي المادي» لدول ومجتمعات غربية كثيرة هناك حركات ومنظمات حقوقية وقيمية لا تحصى، أهدافها النضال ضد سياسات الحكومات الغربية المتوحشة سواء في السياسة او الاقتصاد او البيئة. في عواصم الغرب، في لندن وباريس ومدريد وواشنطن خرجت التظاهرات المليونية المعارضة لحرب غزو العراق واحتلاله سنة 2003 ولم تشهد عواصم البلاد الإسلامية جزءًا ولو يسيراً مقارنة بتلك المتظاهرات. هل كان ثمة قيم اخلاقية انسانية مشتركة انطلق منها المتظاهرون آنذاك وآنئذ في مناسبات مشابهة، ام كانوا مجرد وحدات مادية مُصمتة تتحرك بلا هدف ولا مشاعر؟ ملايين الغربيين الذين خرجوا ويخرجون في شوارع بلدانهم معترضين على سياسات حكوماتهم هم نتاج الحداثة الغربية وقيمها وليس اي منظومة قيمية اخرى.
بعيداً من اللقاءات الفكرية والمصادفات التي يوفرها هذا الكتاب بين سيد قطب ووائل حلاق، يطرح مجموعة من الأفكار التي تستحق نقاشات موسعة لكن ضيق المساحة لا يسمح بالتعرض لها كلها، لكن تتقدمها مسألة نقد الحداثة وتفكيكها. ربما تكمن قوة الحداثة كمنظومة غير صارمة من الأفكار والمقاربات بكونها ليست ايديولوجيا بالمعنى الحرفي للكلمة، بل تعقلها كسيرورة دائمة مفتوحة على التغيير وذات بنية نقدية دائمة للذات.
بمعنى آخر، من أهم ما جاءت به الحداثة هو فكرة النقد المستمر، فلئن نقدت ابتداءً ما وجدته من سيطرة للكنيسة على البشر، ونقدت الواقع الاجتماعي والسياسي، ونقدت الواقع الديني، ونقدت الإقطاع والاستغلال الاقتصادي، وقدمت حلولها البديلة، فإنها سرعان ما اخضعت بدائلها للنقد الصارم أيضاً وفككتها. يمكن رؤية الحداثة ونقد الحداثة كتوأم سيامي ولدا معاً ولم ينفصلا، وهنا تكمن في الواقع نقطة القوة الكبرى للحداثة، أي ان نقدها منطلق من كينونتها وهو جزء اصيل منها.
وهذا النقد قد يفكك الحداثة كلها جملة وتفصيلاً ولا يُبقي فيها حجراً على آخر، ذلك انه لا مُقدس في المشروع الحداثي مُحصناً ضد النقد. وبهذه الميزة الكبرى تختلف الحداثة عن اية ايديولوجية بشرية او عقيدة دينية او اية منظومة فكرية اخرى، ذلك ان الايديولوجيات والعقائد الأخرى وإن سمح بعضها للنقد الذاتي او انطوى عليه فإنه لا يسمح له بالوصول إلى المكونات الجوهرية وربما المُقدسة للبنية الايديولوجية والعقدية، فالمسموح هو نقد الهوامش لا الثوابت. عبقرية الحداثة تكمن في ان لا ثوابت فيها سوى ثابت النقد، ولهذا فإنها تعيد تجديد ذاتها تحت معاول النقد الذي يصقلها اكثر، فيما العفن يصيب غيرها لأنها مهجوسة بالحفاظ على ذات مصمتة بعيداً عن النقد.حلاق بالغ في توصيف وحشية الدولة الحداثية
واستطراداً في نقاش حلاق في نقاشه للحداثة السياسية، ليس من التجاوز القول إن حلاق قد بالغ فعلاً في توصيف وحشية الدولة الحداثية، وحاد عن الموضوعية في انتقائيته للآراء والطروحات التي تهاجمها. هناك كثير من الطروحات الحداثية تجادل بأن الحداثة السياسية هي التي قلمت وحشية الدولة التي عرفتها البشرية، وحولت الأفراد من «رعية» إلى «مواطنين». وإن مركزية الدولة لا تصل إلى مرتبة القداسة الموصوفة في كتاب حلاق، بل تظل تعتبرها أداة لخدمة مواطنيها. وأقصى ما يمكن اعتباره طرحاً موضوعياً هنا هو القول إن تمظهر الدولة الحدايثة اخذ طيفاً وأشكالاً مختلفة، تبدت في حدها النتشوي (النازي، لاحقاً) الأقصى الدولة ذاتاً مقدسة وصارت هي الغاية الأسمى، لكن في بقية اشكالها الأخرى وطيفها تجسدها المُتسع والمُتعدد كانت اقل قسوة وأكثر ليونة وتوائماً مع سياقات متنوعة. مثلاً، هل ينطبق تحليل حلاق للدولة الحداثية وتوصيفها بالتوحش على الدول الإسكندنافية الراهنة، وهل هذا ما يراه مواطنوها؟
الأمر الآخر المهم، والمُهمش إلى حد ما في نقاش حلاق، هو ان فكرة الدولة الحديثة لم تتأسس على الضد من الإفراد ولمواجهتهم او منافستهم في السلطة او النفوذ، والانتقام منهم، كما يخلص إلى ذلك قارىء حلاق. بل تأسست وتطورت وتبدلت وهي تواجه تحديين، الأول هو الأعداء الخارجيين والحروب والصراعات التي كانت تستهدف الأفراد وتطحنهم. وهنا كان هدف الدولة الوصول إلى تنظيم العلاقات الدولية وفق انظمة جديدة اكثر مما ارادت قولبة الأفراد في سياقها، وعلى ذلك فإن ما انعكس على الأفراد بسبب هذه السيرورة الطويلة كان نتيجة وليس هدفاً. والتحدي الثاني هو الاستبداد الداخلي الذي كان متجسداً في تحالف الكنيسة مع الإقطاع، ثم تطور في أشكال إمبراطورية، او برجوازية، او حتى حداثية استبدادية. في مرافعة الإدانة القاسية التي يقدمها حلاق بضراوة نضالية ضد فكرة «الدولة الحديثة» نرى ان هذه الدولة قد قامت وتمأسست لهدف واحد وهو قمع الفرد وإخضاعه، وليس الدفاع عنه ضد عدو خارجي واستبداد داخلي. على ذلك فإن مفهوم التضحية من المواطنين والذي يسترذله حلاق جاء في هذا السياق، سياق الدفاع عن النفس والوطن والدولة معاً، وليس حصراً للدفاع عن الدولة وكأنها كيان مُصمت علوي لا علاقة له بالأفراد (المواطنين).
كل ما ذكر اعلاه لا يقلل من أهمية هذا الكتاب وموسوعيته. ليست كل الكتب مُستفزة للقراءة، وأقل منها تلك التي تستفز كتابة مراجعة مطولة فيها، وهذه القلة هي التي تُساهم في اثراء النقاش الفكري والجدل الإيجابي.
وكتاب حلاق بالتأكيد واحد منها. أهمية الكتاب، وهي مفارقة فعلاً كبيرة، تأتي من برهنته على أمر لم يكن احد أهدافه: وهو استحالة خلط الدين بالسياسة. الكتاب يثبت أنه لا مكان لشيء اسمه دولة اسلامية في الزمن الحديث، لأن الدولة الحديثة تتعارض مع الحكم الإسلامي.
وفي نفس الوقت فإن قيام الحكم الإسلامي يستلزم شروطاً لا تقل استحالة عن موائمة الدولة الحديثة مع الإسلام، وهي شروط تحوم حول اعادة انتاج الظروف التي توافرت لذلك الحكم في الماضي، كما يراها المؤلف.
نحن إذن بين استحالتين إسلاميتين وحداثة تقف على تخوم فشلهما بكونها النجاح الوحيد.
خالد الحروب
حقوق النشر: خالد الحروب 2018
خالد الحروب كاتب وأكاديمي عربي.