استعادة فلسطين سرديّاً...مجتمعها وفضائها المكاني والزماني وتاريخها البعيد والقريب

إلى أين تتجه الرواية الفلسطينية؟ على ماذا تركز؟ وما هي الخيارات التي نسلكها للتعبير عن الشرط الوجودي والتاريخي للفلسطينيين، داخل فلسطين وخارجها، في الوطن الممنوع من أن يصبح وطناً، وفي المنافي المتعددة والمتكاثرة التي يرتحل إليها الفلسطيني؟ والأهم من هذا كلّه كيف تبني الأصوات الجديدة في الرواية صورة فلسطين في متخيّلها السردي؟ الناقد الأدبي المعروف فخري صالح في عرض نقدي لأهم الأصوات الجديدة.

الكاتبة ، الكاتب: فخري صالح

تبدو هذه الأسئلة وكثيرٌ غيرها في صلب النظر إلى الكتابة الفلسطينية الجديدة التي تتشابك مع ميراثها الفلسطيني والعربي، حيث يواصل بعض ممثليها ما بدأه أسلافهم، كما يسعون في الوقت نفسه إلى الانشقاق عن هؤلاء الأسلاف، والنبش في تاريخ فلسطين، وثيقةً وأرشيفاً، فيما هو حاضرٌ وما هو غائب، في الواقع والمتخيّل. وهذا ما حاولت التعرف عليه من خلال قراءة ثلاث روايات جديدة تركّز عدستها السردية على مواضع خافية أحياناً، ومتخيّلة أحياناً أخرى ومعاداً تركيبها وتشكيلها على نحو مختلف.

أنور حامد: استعادة فلسطين سرديا

يسعى أنور حامد  في روايته "يافا تعدّ قهوة الصباح" أنور حامد (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2012) إلى استعادة قطاعٍ من العيش الفلسطيني قبل النكبة، أي إلى إعادة بناء المجتمع الذي جرى اقتلاعه ونفيه في سائر جنبات الأرض.

وهو يستخدم شكل "الميتارواية"، كاشفاً عن برنامجه وغاياته الأيديولوجية عبر المقدمة التي تشدد على ضرورة إحياء فلسطين في الكتابة السردية، وتثبيت اللحظات الغاربة في سيرة فلسطين، بوصف ذلك وسيلةً ناجعة لمقارعة الحكاية بالحكاية، والرواية بالرواية؛ أي روايتنا مقابل روايتهم: رواية المجتمع المدنيّ الفلسطيني، الذي كان قائما مقابل الرواية الإسرائيلية الشائعة التي تقول إن "فلسطين هي أرضٌ بلا شعب منحت لشعب بلا أرض".

يقول الكاتب في مقدمته متهكّماً أو متحسّراً: "الموضوع لا يؤرق محمود عباس، على ما يبدو، ولا يقضّ مضجع النمر، الذي دوّخ فرقة "المستعرِبين" في الانتفاضة الأولى، ولم تستطع إلقاء القبض عليه... أما أنا فلم أعد أحس أنني أقف على أرض صلبة، ليس فيما يتعلق بقناعتي الشخصية، بل بقدرتنا على إيصال الحقيقة للآخرين، بقناعتنا وحدها." (ص: 7) تلك هي المقولة الأيديولوجية والاستراتيجية السردية اللتان تقومان في أساس هذه الرواية، التي تندرج في سلسلة أعمال روائية فلسطينية وعربية تقوم على استعادة فلسطين ومجتمعها وفضائها المكاني والزماني وتاريخها البعيد والقريب.

يعمل أنور حامد على استكمال المشروع الذي بدأه إميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني في ستينيات القرن الماضي، وواصله إلياس خوري ويحيى يخلف ورشاد أبو شاور وتوفيق فياض وسحر خليفة وليانة بدر وإبراهيم نصر الله، وغيرهم من الروائيين الفلسطينيين والعرب الذين أعادوا كتابة فلسطين في الرواية.  هكذا، يبني حامد معمار روايته داعياً القراء إلى التفكّر بخيوط الحكاية، سارداً لنا كيف تجمّعت هذه الخيوط بين يديه، وكيف سافر من المملكة المتحدة إلى عمان، ثم إلى تل أبيب، وصولاً إلى يافا والقرى الدارسة حولها، ليستعيد من قبضة النسيان تفاصيل عشق جارف غفل عنه الزمن بين طبيب ينتمي إلى عائلة إقطاعية فلسطينية وابنة ناطور العائلة في يافا.

وتتوالى فصول الرواية، بدءاً من وصوله إلى عمان وحصوله على يوميّات الطبيب الراحل من حفيده الشاب، مروراً بالمعشوقة التي بلغت أرذل العمر وتعيش الآن في بلدة الشونة بغور الأردن وهي غارقةٌ في ذكرياتها الحزينة مع بحر يافا وحبيبها الذي فرّقت بينها وبينه التقاليد المجتمعية الصارمة، والحوائط العالية، التي تفصل الطبقات، وكذلك الهجرة الفلسطينية القسريّة. يحضر الطبيب الفلسطيني فؤاد أولاً عبر يومياته، التي توفّر للروائي بياناً بسعي ابن الإقطاعي للانشقاق عن طبقته والالتصاق بجوهره الإنساني من خلال الانضمام إلى حزب قومي اجتماعي، والأهم من ذلك عبر حكاية حبّ عاصف يقوم بينه وبين ابنة ناطور بيارة والده الإقطاعي الذي يقيم علاقات مصلحيّة متوازنة مع سلطات الاحتلال البريطاني، والثوار الفلسطينيين، ومع مكوّنات المجتمع الفلسطيني المختلفة: مسلمين ومسيحيين ويهوداً، كما أنه يمثّل صورة الرجل الإقطاعي الذي يضطهد المرأة ويلهو بها ما شاء له اللهو، ويحافظ على ثبات العلاقات الطبقية الهرميّة بينه وبين الفلاحين الذين يعملون في أرضه. من جهة أخرى، وفي مقابل شخصية الطبيب العاشق ابن الإقطاعي، الذي أتم دراسته في الجامعة الأمريكية في بيروت بعد النكبة بعام واحد فقط، نقع على شخصية بهية، ابنة الناطور الجميلة والذكيّة والمتعلّمة، قويّة الشخصية والحالمة عاشقة البحر، في القطب المقابل للحكاية، حيث تتكشف لنا عيوب المجتمع الفلسطيني التي أدّت، من بين عوامل أخرى كثيرة، إلى ضياع البلاد عام 1948.

 

هكذا، وفي الفصول القصيرة المقتصدة لعمله، يقدّم الروائي صورة المجتمع الفلسطيني قبل هبوب العاصفة؛ أي أنه يحرص على تجنب ذكر علامات الصراع التي كانت واضحةً في المرحلة الزمنية التي تتحرك في إطارها شخصيات الرواية وتقع فيها أحداثها. لا يخبرنا الراوي عن التوترات التي سبقت الانفجار، ولا يشير، إلا لماماً، إلى مظاهر الخوف الفلسطيني مما كان يدور في الخفاء لتسليم فلسطين لليهود من قبل الانتداب البريطاني. ثمّة إشاراتٌ إلى الحب الذي تكّنه هالة ابنة الإقطاعي للثائر أبي الفوز، وإشارات في الفصول الأخيرة لقيام الخواجا اليهودي إسحق، صديق الإقطاعي، بتهريب اليهود الذين تلفظهم أوروبا على ظهر سفنه التي تذهب إلى الغرب محمّلةً ببرتقال يافا فتعود في الخفاء مزدحمةً بالمهاجرين الجدد.

ما تشدد عليه الحكايات إذان هو اللوحة المجتمعيّة التي تتشكّل من الجغرافيا الفلسطينية الساكنة في مرحلة ما من أربعينيات القرن الماضي، أي قبل السقوط بقليل، حيث تقع عينا القارئ على الحياة اليومية لأبناء مدينة يافا المزدهرة، والمتمدّنة، التي يفد إليها مشاهير الفنانين والراقصات من مصر، وكذلك على السعي اليوميّ للفلاحين في القرى المجاورة التي تكمل مشهد المجتمع الفلسطيني المنقسم انقساما طبقيّا حادّاً والذي يقترب في صورته من ثنائية الإقطاعيين/ والفلاحين الأقنان (!). وتلك في الحقيقة قسمةٌ تحتاج إلى أسانيد تاريخية فعليّة، وإلا فإنها تندرج في خانة اصطناع مجتمع متخلّف يبرر الهزيمة والسقوط أولاً، كما أنه يشير إلى الاستقطاب الحادّ في التشكيل الاجتماعي ثانياً، ويسعى أيضاً إلى تقديم صورة عجيبة غرائبية مثيرة للخيال (إكزوتيكيّة) للمجتمع الفلسطيني قبل النكبة ليكون في إمكان القارئ الغربيّ (إن قيّض للعمل أن يترجم إلى اللغات الأوروبية) الاستمتاع بالصور النمطية الاستشراقية التي تغذّى عليها المخيال الغربيّ عن الشرق خلال قرون من الزمان منذ بدء الحملات الصليبيّة على العالم العربي الإسلامي الذي تقع فلسطين في قلبه تماماً بوصفها ملتقى الديانات السماويّة الثلاث ومحور الصراع على مدار قرون من الزمن.

في مقابل هذه الصورة النمطيّة، التي ترسمها الرواية للمجتمع الفلسطيني قبل النكبة، فإن الفصول العديدة التي تركّز على تفاصيل الحياة اليوميّة، والاحتفالات والطقوس، والأعياد والمناسبات والعادات والتقاليد، ومفردات المطبخ الفلسطيني، والأغاني والأهازيج الشعبية التي يرددها المحتفلون في الأعراس وفي مواكب الحج، تنسجم مع الفكرة الأساسية التي يسعى العمل إلى تجسيدها سرديّا من خلال صيغة اليوميّات، التي شكّلت البذرة التي تقول الرواية إنها انطلقت منها، وصولاً إلى الوصف التفصيلي للأحداث والممارسات اليومية، أو ما يمكن أن نطلق عليه اسم القراءة الأنثروبولوجية للمجتمع الفلسطيني في فترة زمنية محددة. أي أن الرواية، عبر استعادة متخيّلة لمقطع من الحياة والجغرافيا الفلسطينيين، تحقق الغاية التي رسمتها لنفسها، وهي وضع فلسطين المدنيّة، النابضة بالحياة، والمزدهرة في أربعينيات القرن الماضي في بؤرة المشهد، وذلك قبل أن تنوء "إسرائيل" بثقلها فوق جغرافيا فلسطين وتاريخها وبشرها ومجتمعها ومكونّاتها الطبيعية. إن حضور فلسطين الكامل غير القابل للضحد، أو النفي أو الطرد من الوجود الفيزيائي، كما من الجغرافيا والتاريخ، حقيقيٌّ وملموس في هذه الفصول الوصفيّة القصيرة.

تيسير خلف: سينما فلسطينية يطويها النسيان

مثله مثل أنور حامد يعمل تيسير خلف في روايته "موفيولا" (دار فضاءات، عمان، 2013) على إحياء التاريخ الفلسطيني، معتمداً موادَّ وثائقية ومذكرات وأرشيفات شخصيّة وعامّة تخصّ عدداً من الشخصيات الوطنية الفلسطينية، أو أنها تخصّ سينمائيين فلسطينيين كانوا قد بدأوا تصوير أفلامهم الأولى في فلسطين قبل النكبة. هكذا تحضر شخصيات المفتي الحاج أمين الحسيني والضابط ذي الكفل عبد اللطيف وعددٍ من السينمائيين الفلسطينيين من أبناء مدينة يافا الذين يلعبون أدوارهم في رواية تستقي مادتها من الوثائقي والأرشيفيّ لتضيء مساحات غائبة ومنسيّة من التاريخ الفلسطيني. 

تقوم الرواية، بصورة أساسية، بسرد حيوات اثنين من السينمائيين الفلسطينيين، هما إبراهيم حسن سرحان ومحمد صالح الكيالي، معرّجةً على لقطات من حياة سينمائيين آخرين هما إبراهيم وبدر لاما، مركزةً على تقاطع دروب هذه الشخصيات مع مسيرة حياة المفتي وارتحاله إلى روما وبرلين للقاء القائد الألمانيّ النازيّ أدولف هتلر والقائد الإيطالي الفاشيّ بنيتو موسوليني. لكن هذا الشطر من حياة الحاج أمين الحسيني لا يتجلّى إلا في اشتباكه مع حياة هؤلاء السينمائيين الفلسطينيين الذين يصوّرون أفلاماً وثائقية لزياراته لبعض المدن الفلسطينية أو أن واحداً  منهم، هو محمد صالح الكيالي، يشارك في تصوير لقائه بموسوليني، وتقوم بينه وبين المفتي علاقةٌ وثيقة، سواءٌ في مرتحله الأوروبي أو خلال لجوئه في السنوات الأولى من النكبة إلى القاهرة. ورغم أن حياة المفتي تبدو للوهلة الأولى مركزَ العمل الروائي إلا أن مدار السرد يتركز حول حياة السينمائيين الفلسطينيين وغروب أحلامهم بإنتاج أفلام عظيمة لدى حلول النكبة وتشردهم في جنبات الأرض.

تنطلق الرواية من حدث محوريّ في حياة إبراهيم حسن سرحان، ويتمثّل هذا الحدث في صناعة سرحان للموفيولا، أو آلة التحرير السينمائي (المونتاج) "التي ظهرت لأول مرّة في هوليود عام 1924 وكانت تكلفتها  في ذلك الوقت 600 دولار أميركي، أي ما يعادل 20 ألف دولار في أيامنا هذه." (ص: 5) وفي عام 1938 يقوم سرحان، الذي لم يتلّق تعليماً أكاديميّاً ولم يرتحل إلى أوروبا ليدرس الفن السينمائي، بصناعة "موفيولا خاصة به، بتكلفة منخفضة جداً، وبحلول ميكانيكية مبتكرة، وظل يحرر أفلامه فيها حتى أيار من عام 1948".

تأخذ الرواية عنوانها من هذه الآلة، ومن قدرة ابن سمكريٍّ فلسطيني على صناعة آلة المونتاج السينمائي التي أحدثت نقلةً نوعيّةً في تاريخ السينما، بسبب عشقه لفنيّ التصوير والسينما وحلمه بإنجاز  باكورته السينمائية التي لم تتحقق بسبب حلول النكبة. لكن آلة الموفيولا، التي يفتتح الكاتب روايته بتلخيص تاريخ صناعتها، لا تشير إلى براعة الفلسطيني قبل النكبة في الصناعة أو الابتكار، ولا تدلل على الوجود  المدنيّ الفلسطيني قبل النكبة أو تدحض مقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" فقط، بل إنها تعمل كمجاز وتقنية شكليّة؛ أقصد أنها تنبهنا منذ البداية إلى الأسلوبية التي يتبعها تيسير خلف في تقديم مادته السرديّة والتاريخيةن والتي تجعل العمل ينوس متحركاً ما بين الوثيقة والمتخيّل. فالكاتب يستخدم أسلوب المونتاج والتقطيع السينمائيين في الرواية، متنقلاً بشخصياته في فضاء مكانيّ ممتد وواسع، كما أنه يعتمد على ضبط زمانه السرديّ من خلال الإشارة في بداية الفصول إلى تواريخ الأحداث، بادئاً من أحداث صبرا وشاتيلا في 18 أيلول 1982، ومنتهياً في يوم ممطر بشاتيلا عام 1987، عائداً ما بين هذين التاريخين إلى زمان فلسطيني طواه النسيان وصار حبيس الأرشيف والوثيقة. وهو بذلك يبرر، أولاً، مجازَ آلة الموفيولا ودورها في تعيين الأسلوبيّة التي تنبني الرواية عليها، كما أنه يسمح له بتقديم مساحة واسعة من التاريخ الفلسطيني قبل النكبة وبعدها، ويمكنّه من إلقاء ضوء غامر على الكارثة الوطنية العامّة التي انعكست على حياة الشخصيات التي تتمرأى، في ضوء تقنية المونتاج والقطع واللصق والتركيب، ككائنات حقيقية وخياليّة في الآن نفسه، كمجازٍ للتاريخ وتعبيرٍ عن سخريته ومكره بالأوطان والأشخاص، وقدرته على التحوّل إلى شبح حلم أوكابوس.

سامية عيسى: زمن الفلسطيني إذ يتداعى

تسعى رواية سامية عيسى "حليب التين" (دار الآداب، بيروت، 2010) إلى تصوير ما هو مسكوتٌ عنه في المدوّنة السردية الفلسطينية، وكشف المخبوء في التجربة الفلسطينية المرّة. فلا بطولات هنا ولا حضور للبطل الفلسطيني القادر على الانتصار على عار الهزائم والخسارات الدائمة، بل سقوطٌ حرٌّ متواصلٌ في بئر العار وذلّ الروح والجسد. فهذا النصّ الصادم، وعلى النقيض مما عوّدتنا عليه الرواية الفلسطينية، ممثلةً في أعمال جيل كنفاني وجبرا وحبيبي، وحتى في أعمال الجيل التالي لهم من الكتّاب والكاتبات، لا يخجل من تحويل فضلات جسد الفلسطيني وقاذوراته إلى مجازٍ تمثيلي يعبّر عن حال الذل والانسحاق التي وصل إليها أبناء المخيمات الفلسطينية في لبنان بعد هزيمة بيروت 1982. وهو لا يحجم كذلك عن تصوير أشواق الروح والجسد الطالعة في خضمّ هذه القذارة وفضلات الجسد الإنساني التي تزكم الأنوف وتغوص فيها الأقدام وهي تتراكم في القنوات المكشوفة في المخيّم، وكذلك في المرحاضين اليتيمين المخصصين لجميع سكان المخيّم من الرجال والنساء.

تنطلق "حليب التين" من اكتشاف فاطمة، الأرملة التي فقدت معظم أبنائها في حروب المخيمات، لجسدها في المرحاض العمومي الذي تقضي فيه نساء مخيّم أوزو (الذي كان فيما مضى مجرّد معسكر تدريب لمقاتلي فتح) حاجاتهن. هكذا، ووسطَ فضلاته وإفرازاته، يشهق الجسد بأشواقه على مسمعٍ من مدير المخيّم المتلصص الذي يفدُ إلى المكان كلّ يوم ليستمع إلى لهاث المرأة، فيلهث معها، دون أن يكون قادراً على التحقق من هويّتها. وإذ تواصل فاطمة المجيء إلى المرحاض لكي تداعب جسدها وتصعد في مدارج النشوة والرغبة، وتنسى الفقر والذلّ اللذين تعيشهما مع أحفادها وزوجة ابنها الشهيد، تولد علاقة حبّ غريبة بينها وبين رجلٍ ستينيّ من أبناء المخيّم. ومن خلال هذا الحبّ غير المتوقع، تقوم سامية عيسى بتصعيد هذه الواقعية الخشنة القاسية التي تصوّر، بجرأة نادرة في السرد الفلسطيني، عالماً مخفيّاّ وصادماً ومؤلماً في الوقت نفسه. فالفضاءُ المكانيّ الخانق، الذي يمثله المخيّم، والحصارُ الممتد، الذي يحتّم على ابن المخيّم أن يقضي حاجته كالحيوان، يجري فتحهما على أفق الحبّ، تلك العاطفة الإنسانية النبيلة التي تبدد بعضاً من شعور القهر والذل، والخيبة والخسران، وافتقاد الطريق وانغلاق الأفق، وهزيمة الفرد والجماعة.

لكن حكاية فاطمة لا تكتمل إلا من خلال ربطها بحكاية زوجة ابنها الشهيد فائقة الجمال، التي تدعى "صديقة" والتي تهرب من مراودة قادة التنظيمات الفدائية لها عن جسدها، لتتحول في مدينة دبيّ إلى مومس تبيع جسدها لمن يشتري. وإذا كانت حكاية فاطمة مجازاً لضياع الفلسطيني وهزيمته الداخليّة، فإن حكاية صديقة تمثّل وصولاً بهذا المجاز إلى ذروته، أي إلى السقوط التامّ والهزيمة المدويّة، في زمان تداعى فيه كلّ شيء من حول الفلسطيني. إن ما دفعها إلى الرحيل إلى دبيّ هو عكس ما انتهت إليه.  لقد حاولت الهرب من ذلك المصير لكن الشرط الوجودي المذلّ، المنهك للروح والجسد، وانسداد الأفق، الذي ترسمه الرواية، لا يتركان أمامها سوى السقوط الحرّ في الهاوية، إلى أن تقرر الرحيل، برفقة فاطمة وأبنائها الذين كانت تركتهم معها في بيروت، إلى واحدة من الدول الأسكندفانية بعيداً عن عارها الشخصيّ، والثورة التي أكلت أبناءها وبناتها، والوطن الذي أذلّها وانتهك روحها وجسدها.

تذكّرنا الحلول التي تقدمها سامية عيسى لشعور العار والدنس، بالهروب والرحيل بعيداً عن فضاء المخيّم الضيّق الخانق، برواية غسان كنفاني "ما تبقى لكم". ثمّة خيطٌ رفيع خفيّ يصل الروايتين معاً، بحيث تبدوان تجسيداً لشعور العار الذي يشعر به الفلسطينيّ لضياع وطنه. لكن غسان يحوّل الإحساس بالعار، الذي يصوره من خلال علاقة مريم بزكريا، إلى مجاز يجري حلّه من خلال مصرع زكريا على يدي مريم، وكذلك من خلال فتح أفق الصراع على المستقبل عبر النهاية المفتوحة التي يتعارك فيها مع الجندي الإسرائيلي. أما شعور العار، الذي تلهمه حقبةٌ ومآلٌ تاريخيان مختلفان، وإحساسٌ عميق بانغلاق الأفق وهزيمة الروح والجسد معاً، فلا يبدده أو يخفف منه، في رواية "حليب التين"،  سوى العودة إلى الطفولة، إلى البراءة الأولى حيث "شجرة التين الكبيرة أمام بيت والدتها التي كانت تتفيّأ ظلالها ساعات الظهيرة وتقطف أكوازها المندّاة بالجليب التينيّ.

 

فخري صالح 2015

 

في ضوء نشأة الرواية العربية...إعادة نظر في مفهوم الأدب العالمي

أنور حامد في يافا تعد قهوة الصباح

تسعى رواية الكاتب الفلسطيني أنور حامد"يافا تعدّ قهوة الصباح"منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2012، والتي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية هذا العام إلى استعادة قطاعٍ من العيش الفلسطيني قبل النكبة، أي إلى إعادة بناء المجتمع الذي جرى اقتلاعه ونفيه في سائر جنبات الأرض. وهي تستخدم شكل الميتارواية، كاشفةً عن برنامجها وغاياتها الأيديولوجية عبر المقدمة التي تشدد على ضرورة إحياء فلسطين في الكتابة السردية، وتثبيت اللحظات الغاربة في سيرة فلسطين، بوصف ذلك وسيلة ناجعة لمقارعة الحكاية بالحكاية، والرواية بالرواية" أي روايتنا مقابل