حكاية شبكة إغاثة ثورية

كتب حساب "مو فيصل" على موقع إكس، أكتوبر/تشرين الأول الماضي: "من أول رصاصة حتى لحظة كتابة هذه التغريدة، لم تهتم أي جهة حكومية أو أي هيئة أخرى بالشعب السوداني في مناطق النزاع سوى غرف الطوارئ التابعة للجان. شباب وشابات خاطروا بحياتهم على مدار عام ونصف لتوفير الطعام والدواء والخدمات الاجتماعية لآلاف السودانيين المتواجدين هناك".
في يوم السبت 15 أبريل/نيسان 2023 أي قبل عامين، استيقظ السودانيون على صوت إطلاق النار، إيذانًا ببدء حرب طاحنة أحدثتأسوأ أزمة إنسانية في العالم.
ما يحدث في السودان هو نتيجة صراع على السلطة بين الجنرال عبد الفتاح البرهان قائد الجيش السوداني، والجنرال حميدتي قائد قوات الدعم السريع شبه العسكرية. أدى هذا الصراع إلى واحدة من أكبر أزمات اللاجئين في العالم، بنزوح أكثر من 14.6 مليون شخص داخل البلاد وخارجها، وسط مجاعة واسعة النطاق.
بعد أيام قليلة من اندلاع الحرب، امتلئت مواقع التواصل الاجتماعي بالسودان، بنداءات عاجلة للمساعدة في إجلاء الناس من مناطق الصراع في الخرطوم، وسرعان ما تطورت هذه النداءات إلى استجابة جماعية شعبية هدفها تلبية الاحتياجات الأساسية للناس العالقين في هذه المناطق.
وفي خضم ذلك، ظهرت شبكات المتطوعين المعروفة باسم "غرف الطوارئ" كرد فعل على هذه الأزمة، إذ جمع المواطنون والنشطاء أنفسهم لتقديم مساعدات إنسانية حيوية.
من المقاومة إلى الإغاثة
ظهرت غرف الطوارئ لأول مرة خلال ثورة ديسمبر/كانون الثاني 2018 في السودان كهيكل دعم تلقائي، وغير مركزي. استفادت هذه الغرف في البداية من الشبكات المجتمعية التي أنشأتها "لجان المقاومة في الأحياء"، التي لعبت دورًا محوريًا في الثورة – بقيادتها للاحتجاجات، وتنظيمها للأحياء، وإطلاقها لحملات جماعية لتنظيف وتأهيل الأماكن العامة.
أصبحت غرف الطوارئ الذراع التنفيذية لهذه اللجان، إذ قدمت المساعدات العاجلة في ظروف معقدة للغاية، في ظل رقابة شديدة، واستهداف مباشر، وقطع الإنترنت ووسائل الإعلام.

مع اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023، بدأت غرف الطوارئ التنسيق على المستوى الوطني لتقديم المساعدات الإنسانية، ودعم المستشفيات المحلية، وإنشاء مراكز طوارئ في الأحياء، وتدشين مطابخ جماعية لتلبية احتياجات المواطنين الأساسية.
يشكّل الدافع الرئيسي وراء غرف الطوارئ واللجان هو خدمة المجتمع المحلي وحمايته، ويعتمد نموذج عملهم على بنية تحتية مجتمعية لا مركزية تمامًا، إذ لدى كل منطقة أو حي غرفته الخاصة التي تعمل بشكل مستقل، لكنها تنسق مع الشبكة الأوسع على مستوى السودان.

''القوى السياسية غارقة في الصراع''
تحسن محدود للوضع الإنساني في السودان عقب مفاوضات جنيف، في الوقت الذي تضغط واشنطن لوقف الحرب المستعرة منذ نحو العام ونصف، كما يقول رئيس تحرير صحيفة التيار السودانية عثمان ميرغني لقنطرة.
استُوحي هذا النهج الجماعي من مفهوم "النفير"، وهو مصطلح عربي شائع في السودان يشير إلى الممارسة المجتمعية للتنظيم الجماعي السريع لمساعدة الآخرين داخل المجتمع أو الحي.
لطالما كانت المساعدة المتبادلة والتضامن في السودان عنصرين أساسيين لبقاء المجتمعات ومقاومتها – سواء من خلال إنشاء عيادات متنقلة وغرف إسعاف خلال الاحتجاجات، أو بناء أنظمة لتوصيل الدواء والخبز والوقود خلال جائحة كورونا، أو تنظيم حملات طعام وجهود جماعية لتنظيف وإعادة بناء البنية التحتية المحلية، وتشكّل هذه الأنشطة اليومية مقاومة حيوية ووسائل ضرورية للاستمرار وإعادة البناء بعد الأزمات.
إعادة صياغة المساعدات الإنسانية
كتب حساب أبو شامة عبر إكس، في مايو/أيار 2024، "في الآونة الأخيرة، ارتفع سعر الصرف، وارتفعت معه أسعار الطعام والإمدادات والإيجارات. الوضع يزداد صعوبة، خاصة مع قلة الوظائف، وانقطاع الإنترنت، وتعطل التبرعات. يعتمد كثير من الناس كليًا على المطابخ المركزية، والمدارس مكتظة بالعائلات والأطفال (في جميع الولايات). لا يوجد توثيق تقريبًا لما يحدث في المدارس أو للوضع الإنساني والصحي الكارثي في السودان".
منذ الأسابيع الأولى للحرب، كانت غرف الطوارئ نشطة حتى في ظل العنف الشديد، واعتمد من لم يتمكن من مغادرة منازلهم في الخرطوم وفي أنحاء البلاد على جهود المتطوعين لتوفير الرعاية الطبية، وتنظيم مطابخ جماعية، واستعادة تشغيل الكهرباء، والحفاظ على البنية التحتية قدر المستطاع.
ازدادت أهمية غرف الطوارئ بعد تعطل تدفق المساعدات الإنسانية والمالية الدولية، الذي حدث نتيجة تعليق العديد من المنظمات لأنشطتها في مناطق النزاع.
علاوة على ذلك، فاقم انقطاع الاتصالات في السودان منذ بداية الحرب، واستهداف الصحفيين، وتدمير البنية التحتية المصرفية والتقنية، فضلًا عن المناخ السياسي والاقتصادي الدولي المتدهور، من عزلة السودان الكاملة وتوقف تدفق المساعدات عبر القنوات الرسمية.
داخليًا، تواجه غرف الطوارئ تحديات متنامية، إذ يخاطر المتطوعون يوميًا بحياتهم لتوصيل المساعدات وإطعام الناس في ولايات مزقتها الحرب، ويواجهون نقصًا متزايدًا في الموارد واستهدافًا مستمرًا ومضايقات وتجريمًا من كلا طرفي النزاع.
غير أن التنسيق بين غرف الطوارئ بات أكثر صعوبة مع استمرار الحرب، بسبب التحديات اللوجستية مثل الحواجز الأمنية، والمناطق المحاصرة، وقلة الإمدادات من الأدوية والوقود والطعام.

مآسٍ إنسانية وسط مستقبل غامض
مع عبور أكثر من نصف مليون سوداني الحدود إلى تشاد هربا من الحرب المستعرة في بلادهم، يكافح عمال الإغاثة لتلبية احتياجاتهم وسط اكتظاظ المخيمات ونقص التمويل وانتشار الصدمات النفسية.
داخليًا، تواجه غرف الطوارئ تحديات متنامية، إذ يخاطر المتطوعون يوميًا بحياتهم لتوصيل المساعدات وإطعام الناس في ولايات مزقتها الحرب، ويواجهون نقصًا متزايدًا في الموارد واستهدافًا مستمرًا ومضايقات وتجريمًا من كلا طرفي النزاع.
غير أن التنسيق بين غرف الطوارئ بات أكثر صعوبة مع استمرار الحرب، بسبب التحديات اللوجستية مثل الحواجز الأمنية، والمناطق المحاصرة، وقلة الإمدادات من الأدوية والوقود والطعام.
إعادة صياغة المساعدات الإنسانية
يعكس نموذج المساعدة الشعبية الذي تتبعه غرف الطوارئ فهمًا عميقًا لاحتياجات المجتمعات المحلية في مواجهة هذه التحديات، ولقد أثبتت قدرتها اللافتة على الابتكار والتكيف، وألهمت شبكات دعم مماثلة عبر الشتات السوداني، الذي أصبح دعامة أساسية في ظلّ العزلة الدولية الشديدة.
كما نجحت المبادرات التي يقودها المغتربون في دعم عمليات غرف الطوارئ عندما أخفقت المنظمات الدولية، من خلال توفير الدعم المالي واللوجستي، وقيادة حملات التوعية والدعوة، ويبرز هذا التعاون العابر للحدود الإمكانات الهائلة للجهود القاعدية والمساعدة المتبادلة محليًا وعالميًا.
لقد أعادت غرف الاستجابة الطارئة تشكيل المشهد الإنساني في السودان بشكل عميق، مبدية مرونة السكان المحليين وخبرتهم وقوتهم، إذ تركز على اللامركزية في اتخاذ القرار والتوزيع بخلاف النماذج التقليدية للمساعدات، بالاعتماد على لجان الأحياء لتقييم الاحتياجات، والتشاور مع المجتمع، وتوزيع الإمدادات، وتعبئة الموارد من خلال شبكات محلية.
تعتمد هذه الجهود على المعرفة المحلية، كاستخدام طرق آمنة لتوصيل الإمدادات، وتحويل المدارس إلى ملاجئ، وتوفير الأدوية من مصادر غير رسمية (خاصة عبر شبكات المغتربين) – وكل ذلك بالاعتماد على الثقة الاجتماعية.
يضمن هذا النهج المتجذر ثقافيًا أن تكون المساعدات متوافقة مع الديناميات الاجتماعية وموزعة على نطاق واسع، وتجسدّ غرف الطوارئ نموذجًا حيًا على كيفية استجابة المجتمعات للأزمات بسرعة ومرونة واستدامة عند تأسيسها على البُنى الشعبية، مقدمًة نموذجًا مؤثرًا لإعادة التفكير في المساعدات الإنسانية عالميًا.
قنطرة ©