حيل السودانيين للعيش في زمن الحرب

رجال يتجمهون حول عربات تحمل مياه تجرها حمير.
يعاني ملايين السودانيين من صعوبة الحصول حتى على مياه الشرب. هنا، ينشط بائعو المياه في الخرطوم، أغسطس/أب 2025. (Photo: Picture Alliance / AP | M. Ali)

في قلب حرب السودان المستمرة، صار الصمود روتينًا يوميًا، واقتصر الاقتصاد على الضروريات: الغذاء، الكهرباء، الوقود والإنترنت، فيما يلجأ سودانيون إلى حيل مبتكرة لمقاومة الجوع والبقاء تحت خط النار.

الكاتبة ، الكاتب: جوهرة الكمال كانو

حتى قبل اندلاع الحرب الحالية في أبريل/نيسان 2023، كان الشعب السوداني يرزح تحت أعباء اقتصادية خانقة. فقد أدت عقود من سوء الإدارة والنزاعات المسلحة، وأكثر من ربع قرن من العقوبات الدولية، إلى ارتفاع متواصل في الأسعار، وتدهور البنية التحتية، وندرة الفرص الاقتصادية، وهو ما تسبب بدوره في تراجع مستويات معيشة المواطن العادي.

ومع ذلك، زاد الصراع الحالي من تفاقم الأزمة؛ بعدما تسبب في نزوح جماعي للسكان، وانكماش القوى العاملة، وألحق أضرارًا جسيمة بالبنية التحتية الصناعية والزراعية الحيوية، وتوجيه الإنفاق العام لصالح العمليات العسكرية على حساب توفير الخدمات الأساسية كالصحّة والتعليم. 

وولّد ذلك، اقتصاد حرب في أنحاء البلاد، حيث يجرى تهريب السلع الأساسية كالوقود، وإجبار القوافل على دفع إتاوات للمسلحين أو الاستعانة بجماعات مسلحة لتأمين الطريق. وفي الوقت نفسه، تتعرض الأسواق المحلية للقصف أو النهب، وتندر العملة، بينما تُنهب المحاصيل مباشرة من الحقول.

كما ساهمت السياسات الاقتصادية المتبعة من طرفي النزاع في تعميق المعاناة. فقد قيدت قوات الدعم السريع صادرات 12 سلعة تمر عبر مناطق سيطرة الجيش إلى مصر، ما أدى إلى انخفاض الأسعار بشكل جعل المنتجين عاجزين عن تغطية تكاليف الإنتاج. من جانب آخر، عمد بنك السودان المركزي، الخاضع لسيطرة الجيش، إلى إصدار عملة جديدة حُظِر تداولها في مناطق سيطرة الدعم السريع، مما تسبب في عزل قطاعات واسعة من السكان اقتصاديًا.

وسط هذه التعقيدات، بات كسب العيش في السودان خلال العامين الماضيين أمرًا شديد الصعوبة، بل ومحفوفًا بالمخاطر. ورغم ذلك، لا يزال ملايين الناس يظهرون صمودًا استثنائيًا وإصرارًا على توفير سبل العيش لأنفسهم ولأسرهم ومجتمعاتهم، ويتجلى ذلك في قصص بعضهم.

شاشات التلفزيون والوقود

قبل الحرب، كان آدم موسى* (22 عامًا)، تاجر من شمال دارفور، يدير متجرًا صغيرًا لبيع الأجهزة الإلكترونية وشاشات التلفزيون. اعتمد على مهربين يجلبون البضائع عبر الصحراء من الحدود الليبية. غير أن تدفق البضائع المنهوبة من الخرطوم مع اندلاع الحرب دمّر عمله. فانتقل إلى تجارة الوقود، السلعة الأكثر طلبًا اليوم.

فمع توقف محطات توليد الطاقة الخمس في دارفور عن العمل تدريجيًا منذ بداية الحرب، ارتفع الطلب على الوقود لتشغيل المولدات الخاصة التي تزود المنازل والمستشفيات وحتى خدمات الإنترنت عبر الأقمار الصناعية بالكهرباء. وإلى جانب ذلك، تستهلك القوات المتحاربة والميليشيات كميات ضخمة من الوقود.

يقطع آدم الصحراء بشاحنته نحو ليبيا للحصول على الوقود من جماعات مسلحة على الجانب الليبي من الحدود، ثم يبيعه أو يبادله بسلع أساسية في مناطق سيطرة الجيش شمالاً في مركز الدبة أو شرقاً في شمال كردفان حيث قوات الدعم السريع. لكن رحلاته محفوفة بالمخاطر: فالإتاوات تُفرض عليه في نقاط التفتيش من مختلف الأطراف المسلحة، وقد يُجبر أحيانًا على استئجار مرافقين مسلحين لحماية شحنته. وما يتبقى بعد هذه النفقات هو مصدر رزقه الوحيد.

كسر الحصار

منذ مايو/أيار 2024، فرضت قوات الدعم السريع حصارًا خانقًا على مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، ما أدى إلى نقص شديد في الغذاء والإمدادات. وقد وثقت تقارير وفاة أكثر من 60 شخصًا جوعًا في أسبوع واحد فقط.

مع غياب الرجال بسبب القتال، الفقدان؛ أو لخطر الاعتقال، اضطرت نساء مثل كلتوم إسحق* إلى خوض مغامرات محفوفة بالمخاطر لإعالة أسرهن. كلتوم ليست غريبة على التجارة، فقد نشأت في مجتمع رعوي جنوبي الفاشر، وانتقلت عام 2004 إلى مخيم زمزم بعد هجمات واسعة على القرى. تعيش الآن مع والدتها المسنة وأطفالها الستة.

Here you can access external content. Click to view.

ولتأمين الغذاء وسط تزايد خطر المجاعة، تخوض كلتوم مع نساء أخريات رحلات سرية على ظهور الحمير خارج المدينة المحاصرة لشراء مواد غذائية. عادةً تجلب "البليلة العدسية" — وجبة من اللوبيا الحمراء المسلوقة، زهيدة الثمن نسبيًا ومشبِعة، ولا تتطلب تحضيرًا يُذكر، مما يجعلها مثاليةً في أوقات الندرة الشديدة.

لشراء البليلة، كلتوم بحاجة إلى سيولة نقدية صار من الصعب الحصول عليها خلال العامين الماضيين، إذ تُعتبر التحويلات المالية عبر الهاتف المصدر الرئيسي للدخل، والتي غالبًا ما يُفقد نصف قيمتها بسبب الرسوم. 

لكن ليس لديها خيار آخر: فالموردون لا يقبلون إلا النقود، وبدونها، لا يُمكنها ممارسة التجارة. علاوة على ذلك، تعتمد كلتوم على طرق صحراوية نائية لتجنب النهب أو الاعتقال. تقول: "لا أستطيع النوم ليلة السفر، لكن إن لم أذهب فلن يأكل أطفالي". ما تُهربه على حمارها لا يُطعم أسرتها فحسب، بل جيرانها أيضًا. ومع أن كل رحلة قد تكون الأخيرة، تواصل المجازفة.

واليوم، مع تدهور الوضع أكثر، أصبح "الأمباز" — قشور الفول السوداني المخصصة عادةً كعلف — الغذاء الرئيسي لعدد من الأسر في الفاشر، وفق التقارير.

من الماشية إلى ستارلينك

أما أحمد التوم*، تاجر أربعيني من مدينة الضعين، فقد اضطر إلى التخلي عن تجارته التقليدية في الماشية والمنتجات الزراعية عبر الحدود مع جنوب السودان، بعد أن جعلت الحواجز، والنهب، والسياسات النقدية عمله مستحيلاً منذ اندلاع الحرب. علاوة إلى ذلك، فإن نقاط التفتيش العديدة على طول طرق التجارة، والتي غالبًا ما تسيطر عليها ميليشيات محلية تطلب إتاوات مقابل المرور، جعلت عمله بلا جدوى.

وجد أحمد، ضالته في توفير خدمة الإنترنت لسكان مدينته الضعين، عاصمة ولاية شرق دارفور، التي مازالت تحت سيطرة قوات الدعم السريع منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2023. وكما هو الحال في العديد من المناطق في جميع أنحاء السودان، قُطعت المدينة عن شبكة الاتصالات الوطنية، مما أجبر السكان على الاعتماد على شبكة ستارلينك للاتصالات، وإجراء المعاملات المالية عبر الهاتف المحمول.

اقترض أحمد المال من شقيقه المقيم في بريطانيا لشراء جهاز إنترنت عبر ستارلينك الذي يجرى عادةً تهريبه إلى السودان عبر ليبيا أو تشاد أو جنوب السودان. 

اشترى أحمد جهازه من دبي عبر جوبا، حيث تبلغ تكلفته 295 دولارًا أمريكيًا شهريًا للاشتراك العادي، بالإضافة إلى تكلفة الجهاز وقدرها 2500 دولار أمريكي. يضاف إلى ذلك رسوم شهرية تفرضها قوات الدعم السريع على كل جهاز، قد تصل إلى 50 ألف جنيه سوداني (نحو 20 دولارًا). يتقاضى أحمد 1000 جنيه سوداني (أقل من نصف سنت أمريكي) مقابل الجيجابايت الواحد. وفي الأيام الجيدة، يكفي دخله لتغطية احتياجات أسرته وربما ادخار مبلغ ضئيل لرد دينه لأخيه يومًا ما.

الإقبال على الطاقة الشمسية

انتشرت على مواقع التواصل صورة لماعز تختبئ تحت ألواح شمسية، رافقها تعليق ساخر "فوائد الطاقة الشمسية".  لاحقًا اتضح أن الصورة ليست في السودان، رغم أنها لاقت صدى واسعًا، إذ باتت الطاقة الشمسية شريان حياة أساسيًا.

عاد مصعب أنور*، 32 عامًا، إلى بورتسودان بعد أن غادر البلاد في بداية الحرب، على أمل الاستفادة من خبرته في الطاقة الشمسية لبدء مشروع تجاري. ورغم أن السودان عانى بالفعل من مشاكل مزمنة في الكهرباء قبل الحرب، إلا أن الصراع زاد الوضع سوءًا، مع استمرار هجمات الطائرات المسيرة التي تستهدف وتدمر البنية التحتية للطاقة في البلاد، بما في ذلك أنظمة الطاقة التي تغذي محطات المياه والمناطق السكنية ومختلف القطاعات الحيوية. ونتيجة لذلك، ارتفع الطلب على أنظمة الطاقة البديلة - بما في ذلك الألواح الشمسية والبطاريات والمحولات - بالتزامن مع ارتفاع أسعارها.

يوضح مصعب أن العديد من الموردين الجدد دخلوا السوق، مما أدى إلى إغراقها بمعدات رديئة الجودة، وتسبب في خسائر فادحة للمستهلكين. في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أعلنت الحكومة عن إعفاء معدات الطاقة الشمسية المستخدمة في الزراعة من الرسوم الجمركية، لكن القرار لم يُنفذ بعد. ويبشر هذا، بالإضافة إلى عودة النازحين إلى الخرطوم بعد استعادتها من قبل القوات المسلحة السودانية، بمزيد من النمو في السوق، وفقًا لمصعب.

ما وراء الصمود

تكشف قصص آدم وكلتوم وأحمد ومصعب أن السودانيين لم يكتفوا بالنجاة رغم الحرب، بل أبدعوا في إيجاد حلول اقتصادية مبتكرة والتكيف مع الوضع وملء فراغ خلفه الانهيار المؤسسي والاقتصادي. غير أن هذا الصمود وحده لا يكفي.

أكثر من ذي قبل، هناك الآن حاجة ماسة إلى حلول مستدامة طويلة الأمد، عبر مؤسسات داخلية ودعم دولي، لضمان الأمن وتوفير الموارد والخدمات الأساسية. من دون ذلك، ستظل الاقتصادات غير الرسمية والأنظمة الموازية تهيمن، فتزيد ثراء الجماعات المسلحة وتعمق مأساة المدنيين.

* تم تغيير الأسماء لحماية الأشخاص الذين تمت مقابلتهم في هذه المقالة.

 

نشر المقال لأول مرة في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط.

ترجمه من الإنجليزية: محمد مجدي

قنطرة ©