المسيحيون في تونس...تهديد إسلاموي رغم التواصل المؤسساتي
لقد كان إنذارًا واضحًا ورد فيه: "لديكم ثلاثة أيام من أجل اعتناق الإسلام وإزالة الصليب من كنيستكم، وإلَّا فسوف تدفعون الجزية".
هذا التهديد، الذي تلقاه كاهن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في تونس الأب ديميتري نتسفتاتف من قبل إسلامويين متطرفين، لم يكن التهديد الوحيد الذي احتل مكان الصدارة في عناوين الصحف ووسائل الإعلام التونسية العام الماضي 2012؛ فبالإضافة إلى ذلك وصلت بعض رسائل التهديد إلى المصلين الذين يرتادون هذه الكنيسة الصغيرة. وتمت تغطية الصلبان الموجودة على واجهتها بأكياس القمامة.
يقول راعي الكنيسة البروتستانتية الفرنسية في تونس القسيس وليام براون: "تنتشر في تونس حرية التعبير عن الرأي منذ قيام الثورة ولكن الإسلاميين المتطرفين يتمتعون هم أيضًا بهذه الحرية".
يستغل المتطرِّفون الإسلاميون هذه الحرية الجديدة في التضييق على الأقليات المسيحية في البلاد. وعن ذلك يقول القسيس وليام براون الذي يعيش مع عائلته في تونس منذ أحد عشر عامًا إنَّ "الكثيرين من المسيحيين التوانسة قلقون ويتجنَّبون الحديث في الأماكن العامة عن دينهم".
يعيش في تونس نحو خمسة وثلاثين ألف شخص مسيحي، أصلهم من ثمانين دولة. صحيح أنَّ هذه المجموعة صغيرة ولكنها متنوعة كثيرًا؛ إذ يوجد بالإضافة إلى الكنيستين البروتستانتية والأرثوذكسية العديد من الكاثوليك، ويعمل أربعون قسيسًا كاثوليكيًا في عموم البلاد.
أرض غير آمنة
وكذلك تمثِّل الكنيسة الأنجليكانية جزءًا من الأقلية المسيحية في تونس. ويترأس هذه الكنيسة القسيس بيل موسك الذي يدير منذ خمسة أعوام شؤون كنيسة القديس جورج في منطقة الحفصية في تونس العاصمة. في هذه المنطقة الشوارع ضيقة ومتربة وكذلك ينهيار الجص عن واجهات المباني وتعتبر فيها الجريمة وحوادث السلب في الشوارع جزءًا من الحياة اليومية.
وعن هذه المنطقة يقول بيل موسك: "الأوضاع هنا غير آمنة تمامًا، ومع ذلك بابنا مفتوح دائمًا". يمكن مشاهدة صليب كنيسة القديس جورج من بعيد وهو يعلو فوق أسطح المنازل في منطقة الحفصية.
ولكن مع ذلك لا يوجد لدى القسيس بيل موسك خوف من هجمات أو تهديدات ذات دوافع دينية مثل التهديدات التي شهدها زميله الأرثوذكسي الروسي ديميتري نتسفتاتف. وفي هذا الصدد يقول بيل موسك: "لم تتغيَّر الأوضاع تقريبًا بالنسبة للمسيحيين الأجانب منذ قيام الثورة".
ويبلغ عدد أعضاء الكنيسة الأنجليكانية في تونس نحو 300 شخص معظمهم من دول جنوب الصحراء الكبرى. فمنذ عام 2003 انتقل المقر الرئيسي لبنك التنمية الإفريقي إلى تونس. ويمثِّل موظَّفو هذا البنك مع أسرهم بالإضافة إلى الأوروبيين والأمريكيين المقيمين في تونس معظم المسيحيين في البلاد.
ولكن كنيسة القديس جورج ليست مجرَّد مركز التقاء للأجانب. وعن ذلك يقول بيل موسك: "التونسيون الذين توجد لديهم اهتمامات بالديانة المسيحية يأتون إلينا مثلما الحال مع المسلمين التونسيين الذين يشكون في دينهم أو يأتون لزيارتنا ببساطة من أجل المشورة".
من أجواء الخوف إلى التطرف الإسلاموي
وفي حين يؤكِّد القسيس وليام براون من الكنيسة البروتستانتية الفرنسية عدم وجود أية آثار تذكر لتنامي التطرف الإسلاموي في الحياة اليومية في تونس، يتَّفق رجلا الدين بيل موسك ووليام براون على أن المسيحيين التونسيين يلاحظون هذا التطوّر بوضوح أكثر. وعن ذلك يقول بيل موسك متذكّرًا: "قبل الثورة لم تكن توجد في تونس حرية تعبير عن الرأي، بل كانت توجد أجواء من الخوف".
ومع سقوط النظام لم يسقط فقط جدار الصمت بل كذلك "صار البعض للأسف يستغلون الحرية الجديدة التي تمكِّنهم من قول وفعل ما يريدون". وهذه الحرية الجديدة بالذات تقدِّم الدعم للمتطرِّفين المتديِّنين.
لقد قام زين العابدين بن علي بتحجيم دور الدين في السياسة والمجتمع وهكذا كانت تتم محاربة الإسلام السياسي وكان يتم على مدى عقود من الزمن اضطهاد أنصار الإسلام السياسي المعتدل وخاصة أعضاء حركة "النهضة" بشكل شديد. وهذا يفسِّر أيضًا النجاح الذي حقَّقته حركة "النهضة" في أوَّل انتخابات تم إجراؤها بعد سقوط بن علي في شهر تشرين الأوَّل/ أكتوبر 2011 والذي يعود سببه إلى تضامن المواطنين مع هذه الحركة التي كانت محظورة طيلة عقود من الزمن.
لكن صعود الإسلام السياسي إلى مستوى الحكومة في تونس عمل على تمهيد الطريق للآراء المتطرِّفة داخل الحياة اليومية في المجتمع. ويقول القسيس بيل موسك إنَّ "المسيحيين التونسيين هم أشخاص تركوا الإسلام واعتنقوا الديانة المسيحية".
رياح مضادة لمعتنقي المسيحية في تونس
كما يمثِّل اعتناق الديانة المسيحية قرارًا له عواقب وخيمة؛ ويقول بيل موسك في هذا السياق: "صحيح أنَّه لا يوجد اضطهاد من قبل الدولة ولكن المسيحيين التونسيين يواجهون في حياتهم الخاصة الكثير من الرفض". ومع ذلك هناك محاولات على المستوى الرسمي لإشراك المسيحيين التونسيين في التنظيم الجديد للبلاد، مثلما يضيف القسيس موسك: "طلب منا أعضاء الجمعية المعنية بصياغة الدستور إجراء اتصالات مع المسيحيين التونسيين من أجل سماع آرائهم في سياسة شؤون الأقليات المستقبلية".
صحيح أنَّ هذا يشكِّل بادرة حسنة ولكن حتى هذا المشروع الرسمي لا يغيِّر شيئًا كثيرًا في الرياح المعاكسة القاسية التي يتعرَّض لها معتنقو المسيحية في حياتهم اليومية في تونس. لا يرغب بيل موسك في الخوض كثيرًا في التفاصيل حول معتنقي الديانة المسيحية من التونسيين في كنيسته ويقول إنَّ ذلك "قد يشكِّل خطورة بالنسبة لهم".
وكذلك يعرف وليام براون أيضًا حجم المخاطر التي يتعرَّض لها المسيحيون التونسيون ويقول إنَّ "زملاءهم في العمل وكذلك أسرهم يمارسون عليهم ضغوطات كما أنَّهم يصبحون ضحايا الاضطهاد والتهديدات".
لقد شهد القسيس وليم براون بنفسه بعض حالات اعتناق الديانة المسيحية. "كثيرًا ما يكون الأشخاص الذين يدخلون إلى الديانة المسيحية من الشباب التونسيين. وبعضهم يعرضون عن الإسلام لأنَّهم يرفضون التطرف الإسلاموي. وأمَّا الآخرون فهم يأملون من اعتناقهم المسيحية في الوصول بسهولة إلى أوروبا". ثم يقول موجزًا: "لكن الدوافع الحقيقية لا يعلمها إلاّ الله".
ولكن في الواقع يجب على مسيحيي تونس في حقبة بناء الديمقراطية مواجهة التحديات الراهنة وحماية أنفسهم من التيَّارات المتطرِّفة: "يجب عليهم التفكير جيدًا ليتأكدوا مع مَنْ يمكنهم الحديث بصراحة حول دينهم. ويجب عليهم كذلك التواصل بشكل أفضل فيما بينهم وبناء ثقة متبادلة". هذه الثقة التي يثبت وجودها كلَّ يوم القسيس الأنجليكاني بيل موسك الذي تبقى أبواب كنيسته في منطقة الحفصية مفتوحة للجميع.
كاتارينه بفانكوخ
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013