استقرار أردني هش وتحديات اقتصادية كبيرة
مثل هذه المشاهد هي جزء من الحياة اليومية في العاصمة الأردنية عمان: يثير الازدحام المروري اليومي، الذي يشلُّ حركة المرور تمامًا بعد الظهر، توتُّرًا في الأعصاب. يقول محمد مشتكيًا، وهو رجل مسن يقود سيَّارته كثيرًا في طريقه إلى العمل: "لا توجد لدينا حتى وسائل نقل عامة في عمان. الهواء خانق لدينا وفي كلِّ يوم نقضي ساعات من دون فائدة في الازدحام". يروي محمد مدى صعوبة إطعام أسرته في هذه الأوقات. ويضيف بمرارة: "نحن نُمَوِّل تعليم أطفالنا ثم لا يستطيعون العثور على عمل - لكن: لنا على أية حال الملك عبد الله".
بعد عام على احتجاجات شهر أيَّار/مايو 2018، باتت حالة الإحباط في هذه المملكة أكثر من ملموسة. يعتبر الأردن في الغرب مرساة للاستقرار في منطقة تعيش اضطرابات. بين النزاع الذي لا ينتهي في سوريا وغرق العراق في الفوضى ونظام الحكم الذي يزداد استبدادًا باستمرار في مصر، تبدو المملكة الهاشمية مثل قطب ساكن في وسط عاصفة.
مرساة للأزمات في قضايا اللجوء واللاجئين
وبالإضافة إلى ذلك فقد استقبل الأردن نحو سبعمائة ألف لاجئ سوري، وهذا أمرٌ لاقى ترحيبًا واستحسانًا في الغرب. ولهذا السبب فإنَّ المانحين الدوليين يبذلون كلَّ ما في وسعهم من أجل دعم الأردن - على أمل أن يبقى مستقرًا. تتدفَّق من ألمانيا أيضًا أموالٌ كثيرة إلى هذه المملكة. فقد قامت الوزارة الألمانية الاتِّحادية للتعاون الاقتصادي والتنمية وحدها بتمويل مشاريع بقيمة ثلاثمائة مليون يورو في عام 2018، وتم تخصيص المبلغ نفسه لعام 2019. زد على ذلك أنَّ الولايات المتَّحدة الأمريكية ودول الخليج تقدِّم للأردن مساعدات بالمليارات.
ولكن على الرغم من ذلك يتدهور الوضع الاقتصادي في الأردن أكثر ويزداد الغضب من الظلم وعدم التكافؤ الاجتماعي. انفجرت في السنوات الأخيرة أسعار المواد الغذائية وإيجارات السكن والنقل. حيث تعتبر عمان اليوم أغلى عاصمة في المنطقة بتكاليف معيشة على المستوى الأوروبي. يبلغ - وفقًا للبنك الدولي - معدَّل البطالة رسميًا ثمانية عشر في المائة، ولكنه يصل في الحقيقة إلى ثلاثين في المائة، ولدى الشباب دون سنّ الخامسة والعشرين حتى إلى أربعين في المائة. يعيش ثلث المواطنين تحت خطّ الفقر، بينما المقاهي الأنيقة ممتلئة في منطقة جبل اللويبدة العصرية بعمان.
تستثمر العائلات الأردنية الكثير من المال في تعليم أبنائها وبناتها. وبالتالي يرتفع باستمرار عدد خرِّيجي الجامعات في الأردن. بيد أنَّ الحصول على المزيد من التعليم لم يَعُد يضمن للأردنيين حياةً أفضل، لأنَّ الشباب لا يجدون بعد تخرُّجهم أية فرصة عمل.
بطالة الشباب كبرميل بارود اجتماعي
تقول شابة في بداية الثلاثينيات من عمرها: "على الرغم من أنَّني قد درست في الخارج وعملت بعد تخرُّجي الكثير من دورات التدريب العملي والمشاريع، لكنني ما زلت لا أستطيع العثور على أية وظيفة. هذا أمرٌ محبط جدًا".
تقول أسماء رشاحنة البالغة من العمر خمسين عامًا وعضوة مجلس مدينة مادبا الواقعة على بعد نحو خمسين كيلومترًا إلى الجنوب من العاصمة عمان: "تكمن مشكلتنا الرئيسية في نقص الوظائف وعواقب ذلك على المجتمع. يبحث بعض خرِّيجي الجامعات عشرة أعوام إلى أن يجدوا وظيفة".
وتضيف أنَّ الدخول إلى الحياة العملية صعبٌ للغاية، وذلك لأنَّ الشركات تريد الخبرة من المتقدِّمين لطب الوظيفة، وهذا أمر لا يتمتَّع به الشباب. وبسبب عدم وجود أية متنزَّهات أو منشآت ومرافق رياضية والقليل جدًا من العروض الخاصة بالشباب من أجل قضاء أوقات الفراغ، فهم يبقون يتسكَّعون ببساطة طيلة أعوام. "لا يعرف الشباب بعد تخرُّجهم ماذا يفعلون وهذا أمر خطير جدًا"، مثلما تقول أسماء رشاحنة. وهنا تعتبر المخدِّرات والكحول والتطرِّف من الإغراءات الموجودة في كلِّ مكان. ويستفيد من ذلك المشهد السلفي الواسع في البلاد.
وهذا بمثابة برميل بارود اجتماعي. لا يعود السبب فقط إلى نقص الوظائف. فالناس يرون كيف لا يتم منح الوظائف والمناصب على أساس المؤهلات، بل على أساس العلاقات. ويرون كذلك أنَّ أجزاءً من أموال مساعدات الإغاثة الدولية تتسرَّب إلى قنوات مظلمة وأنَّ المحسوبية والمحاباة تنتشر في البلاد كالأمراض المعدية.
لا أمل في التغيير
انفجر الإحباط في شهر أيَّار/مايو 2018 في أكبر احتجاجات شهدتها البلاد منذ عام 2011، وذلك بعد أن أعلن رئيس الوزراء هاني الملقي عن زيادة في ضرائب الدخل وزيادة أسعار الكهرباء والمحروقات. اجتمع المتظاهرون في عمان عند الدوَّار الرابع بالقرب من مقر رئيس الوزراء وفي أجزاء أخرى من البلاد بأعداد من المشاركين كبيرة نسبيًا بالنسبة للمعايير الأردنية.
اضطر هاني الملقي إلى المغادرة وقد قام الملك عبد الله في شهر حزيران/يونيو 2018 بتعيين خبير البنك الدولي عمر الرزاز خليفة له. وبعد ذلك هدأت المظاهرات مرة أخرى، ولم تحدث سوى بعض الاحتجاجات المنفردة، مثل مسيرة العاطلين عن العمل من العقبة إلى عمان.
يعتبر تغيير الحكومة بالنسبة للأسرة المالكة وسيلةً فعَّالة من أجل مواجهة ضغط الشارع. وعلى الرغم من أنَّ عمر الرزاز قد وعد المواطنين بـ"عقد اجتماعي جديد" لجميع الأردنيين، لكن لم يحدث سوى القليل. وقد صدرت قوانين الضرائب الجديدة في شكل مُخفَّف في نهاية عام 2018.
وحول ذلك تقول الصحفية رنا الصباغ إنَّ المظاهرات كانت لحظة فاصلة في هذه المملكة التي تعتبر في العادة غير سياسية: "الناس كانوا يريدون معرفة ما الذي يحصلون عليه مقابل ضرائبهم. أنظمة التعليم والرعاية الصحية سيِّئة جدًا، وكذلك الشوارع والبنية التحتية بائسة. فلماذا يجب علينا أن ندفع ضرائب طالما أنَّنا لا نحصل على أي شيء؟".
لقد تظاهرت الطبقة الوسطى الأردنية. ولم يتمكَّن الإخوان المسلمون من استغلال هذه الاحتجاجات لأغراضهم الخاصة. واليوم يقول أحد الناشطين ممن شاركوا في الاحتجاجات: "أتذكَّر بسعادة تلك الأجواء الاحتفالية الشعبية أثناء الاحتجاجات والشعور بالتضامن بيننا نحن المتظاهرين. ولكننا لم نحقِّق أي شيء. وبقينا محبطين".
ويضيف أنَّ الأردنيين يسمعون باستمرار أنَّهم يجب عليهم أن يكونوا سعداء لأنَّهم لا يعيشون في سوريا أو في مصر. ويقول: "بالطبع نحن لا نريد وضعًا كما هي الحال في هذين البلدين. ولكننا بحاجة إلى رؤية أنَّ هناك شيئًا ما يتغيَّر، وهذا ما لا نراه لدينا".
وحتى الصحفية رنا الصباغ لم تعد قادرة على سماع المقارنة مع سوريا ومصر. "يجد الأردنيون هذه المقارنة المحببة أيضًا في الغرب غير مناسبة"، مثلما تقول رنا الصباغ، رئيسة تحرير صحيفة جوردان تايمز السابقة. وتضيف: "رجاءً قارنوا الأردن بتونس أو حتى من وجهة نطري بلبنان عندما يتعلَّق الأمر بمشهد إعلامي ليبرالي. ولكن لا تقارنوننا بجميع هذه الدول، التي لا يحترم حكَّامُها حقوقَ الإنسان مطلقًا ويتصرَّفون مثل أسوأ الأنظمة الاستبدادية".
تقرير كارثي حول أداء الحكومة
تستخدم الحكومة الأردنية والأسرة المالكة الأزمات في المنطقة ووجود العديد من اللاجئين في البلاد كذريعة لتبرير الأوضاع البائسة. صحيح أنَّ انهيار الأسواق في سوريا والعراق قد أصاب هذا البلد بأضرار شديدة للغاية وأنَّ الظروف العامة صعبة - لأنَّ الأردن بلدٌ لا توجد لديه أية موارد طبيعية تستحق الذكر أو أراضٍ زراعية كبيرة، ولكن المشكلات في الأردن هي أيضًا محلية الصنع.
ففي نهاية عام 2018 نشر الدكتور مصطفى حمارنة، وهو رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي (ESC)، تقريرًا بعنوان "حالة البلاد" مكوَّنًا من ألف وخمسمائة صفحة. لقد عمل على إعداد هذا التقرير أكثر من سبعمائة باحث أردني. يُعدُّ مصطفى حمارنة جزءًا من النخبة القيادية في البلاد، فهو يلتقي الملك عبد الله بانتظام، كما يقوم مجلسه الاقتصادي والاجتماعي بتقديم الاستشارات للحكومة.
ولكن مع ذلك فإنَّ هذا التقرير حول أداء الحكومة على مدى الثمانية عشر عامًا الماضية يحتوي على جرد شامل لا يرحم لعدم الكفاءة والمحسوبية والفساد في المملكة. وهذا عمل فريد من نوعه في الأردن.
يصف تقرير "حالة البلاد" بالتفصيل كيف تعثَّرت الاستراتيجيات الحكومية التسع المُعلن عنها منذ عام 2002 من أجل النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل، وتبخَّرت في غابة من البيروقراطية وعدم الاهتمام وعدم الكفاءة. ويذكر أنَّ معدَّلات البطالة وديون الدولة تستمر في الارتفاع وأنَّ الدولة غير قادرة على أن تُقدِّم للمواطنين الأردنيين مستوًى مقبولًا من الخدمات العامة.
تنامي فقدان الثقة
ينتقد التقرير حقيقة وجود العديد من المؤسَّسات الجميلة التي تبدو كأنَّها ديمقراطية، ولكن على الرغم من ذلك فهي لا تمثِّل إلَّا واجهة لكي توهم الغرب بأنَّ هناك جهودًا من أجل الإصلاح. شهد الأردن منذ عام 2000 إحدى عشر حكومة ضمَّت ثلاثمائة وسبعين وزيرًا، من بينهم مائتان وسبعة وخمسون وزيرًا جديدًا. وجميع هؤلاء السياسيين كانوا مهتمين أوَّلًا وقبل كلِّ شيء بـ"الحصول على قطعة من الكعكة على أساس انتماء عشائري ضيِّق الأفق"، مثلما يَرِدُ في تقرير "حالة البلاد".
يذكر التقرير أنَّ "المناصب والوظائف في القطاع العام أصبحت فرصةً لكسب أكبر قدر ممكن من المال والجاه في حين أنَّها تخلو من الكفاءات وآليات المساءلة والرقابة". ويبيِّن التقرير أنَّ هذا النوع من السياسة لا يستفيد منه إلَّا عدد صغير من الأردنيين، في حين تبقى الدولة وأغلبية الأردنيين صفر اليدين . يصل مصطفى حمارنة إلى خلاصة تفيد بأنَّ الفشل السياسي أدَّى إلى مزيد من فقدان الثقة لدى المواطنين.
وكذلك ترى رنا الصباغ أنَّ هناك فقدانًا سريعًا للثقة لدى المواطنين في مؤسَّسات الدولة. غير أنَّها تقول: "على العكس مما عليه الحال لدى الحكَّام في دول أخرى في المنطقة، فإنَّ الملك عبد الله لا توجد لديه أية مشكلات تتعلَّق بشرعيَّته".
يوجد في الأردن إجماعٌ واسع على أنَّ الملكية لا غنى عنها كمؤسَّسة لدولة هشة مكوَّنة من أهالي شرق الأردن والفلسطينيين، بالإضافة إلى الكثير من اللاجئين والمهاجرين. "لكن الناس مستائين من كيفية إدارة البلاد وحكمها". وهم يُعَبِّرون بصراحة وعلى نحو متزايد عن استيائهم هذا، حتى وإن كان موجَّهًا ضدَّ سياسة الملك.
كلاوديا مينده
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019