خرافة جمهورية ألمانيا الإسلامية: برلين 2021 ليست طهران 1979
بدأ النقاش بانتشار ادّعاءٍ مفاده أنّ "الإسلاميّين القانونيّين" -[وهو مصطلح دارج في الأوساط المعنيّة لوصف الإسلاميّين الذين يسلكون السبل القانونيّة لتحقيق أهدافهم الأيديولوجية ولتمييزهم عمّن يلجؤون للعنف]- قد تغلغلوا داخل عديد المناصب المهمّة، وهم يعملون دون كللٍ أو ملل لاختراق مؤسّسات الدولة وصفوف المجتمع.
وسارع بعض الكتّاب لدقّ ناقوس الخطر، مثلما فعلت منيرة كاظمي في مقالٍ لها نُشِر بجريدة "نُويه زيورخر تسايتونغ" السويسريّة. وفيه ادّعت كاظمي بأن الوضع الحالي بألمانيا، -وهي واحدةٍ من أغنى الدوّل على وجه الأرض وأكثرها تمتّعًا بالاستقرار السياسي على مدى التاريخ- يحمل شَبهًا خطيرًا مع الأوضاع السائدة بإيران عام 1979، أي عشيّة اندلاع الثورة الإسلاميّة هناك، والسنوات التي تلتها. وبعبارة أخرى: الوضع الألماني يذكّرنا بوضع بلدٍ ذي أغلبيّةٍ مسلمة ما فتئ يمرّ بسلسلة من الأزمات السياسيّة المتتالية، سواءً الخارجيّة منها أو الداخليّة، من دون بصيص أمل للخروج من تلك الدوّامة.
وقد أبدى كتّابٌ آخرون وشخصيّاتٌ عامّة من مختلف التوجّهات تأييدهم لهذا التناول الدراماتيكي وأضافوا بندًا جديدًا للائحة الاتّهام. فهم يرون أنّ "اليسار" الألماني قد تجاهل طويلًا، ولحدّ اللحظة، مسألة الإسلامويّة، بل وأنّ ذلك اليسار ما هو إلّا مجرّد مطيّة يستعملها "الإسلام السياسي" لبلوغ أهدافه، إما عن عدم إدراك، أو جهل، أو حتّى حذرٍ غير مبرّر. وعليه، وبحسب رأي ذاك الفريق من المعلّقين فقد حان الوقت لمجابهة هذه المعضلة، وذلك بكلّ السبل المتاحة، لكي لا نجد أنفسنا من الغد وقد أصبحنا نعيش في ظلّ "جمهورية ملالي ألمانيا الاتّحاديّة".
وأبدى كتابٌ آخرون، في المقابل، اعتراضهم على مثل هذه المزاعم، مشيرين إلى أنّ الأقوال السابقة ليست مجرّد مبالغات أو تصريحاتٍ طائشة فحسب، بل هي جزءٌ من حملةٍ لا تهدف إلّا لصرف الأنظار عن لبّ المشكل، أي العنصريّة البيضاء، وكذلك لمواصلة استهداف المسلمين والمسلمات ووصمهم.
وطبقًا لهذا الرأي فإنّ الخطر المتأتّي من التيّار الإسلامي يكاد يكون معدوما، وإن وُجد فهو نتاج للعنصريّة الموجّهة ضد المسلمين، وفي أفضل الأحوال يتمّ التضخيم من حجم ذلك الخطر. وعلى النقيض تمامًا من الاتّهام القائل بأن "اليسار" لا يحرّك ساكنًا تجاه الحركات الإسلاميّة، يرى أصحاب هذه الرأي أنّ مجتمع الأغلبيّة البيضاء الألمانيّة، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، هو مجتمعٌ تنخره العنصريّة والأفكار الاستعماريّة، الشيء الذي يتمظهر في شكل حالةٍ عامّة من الإسلاموفوبيا ومن الاشتباه الجماعي اللذين يمارَسان ضدّ المسلمين.
إن النقاش الدائر حول "الإسلامويّة القانونيّة" مرتبطٌ أشدّ الارتباط باللغط حول مصطلح "الإسلام السياسي"، ذاك المصطلح الذي نال نصيبًا وافيًا من الشهرة حين أعلنت الحكومة النمساويّة تأسيسَ "مركز توثيق الإسلام السياسي" في شهر يوليو / تموز من عام 2020.
"الإسلامويّة" و"الإسلام السياسي" مصطلحان يفتقران للدقّة
إذن علينا، بادئ ذي بدء، أن نمحّص النظر في تلك الآراء المنطلقة من وجود مجموعاتٍ متجانسة وحقائق لا تقبل الشك. فمثلما لا وجود ليسارٍ ألماني موحّد يمكن إلقاء اللوم عليه لفشله في مجابهة التوجّهات المتطرّفة في أوساط المسلمين، فليس هناك "إسلام" في هيئة شخص، أو "مسلمون" في المطلق يتّخذون موقفًا موحَّدًا من هذه المسألة أو تلك.
وعلاوةً على ذلك كثيرًا ما يتمّ استعمال مصطلحَي "الإسلام السياسي" و"الإسلامويّة" بطريقة تفتقر للدقّة، وهما مصطلحان يفيان غالبًا بالغرض المطلوب. هذا وقد نوّه كثيرٌ من الكتّاب بأنّه من الطبيعي أن يُسمَح في إطار نظامٍ ديمقراطيٍ علماني بممارسة أنشطةٍ سياسيّة ديمقراطيّة (الطابع) ذات خلفيّة دينيّة، وذلك دون الوقوع في دائرة الاشتباه.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار حقيقة أن الإسلامويّة باعتبارأيديولوجيا سياسيّة تسعى لفرض قراءةٍ بالغة التشدّد للإسلام على كل فئات المجتمع، وأنّها تشكّل في معظم البلدان ذات الغالبيّة المسلمة قوّةً سياسيّة لا يستهان بها. فبدءًا بالثورة الإسلاميّة في إيران، ومرورًا بصعود الأحزاب الإسلاميّة المحافظة الواسعة الانتشار، وصولًا إلى الشبكات الجهادية التي تنشط على مستوىً دولي، فقد جعل كلُّ هؤلاء الفاعلين من الإسلام الأساس الذي تقوم عليه أفكارهم وتوجّهاتهم (كلٌّ وفقًا لتفسيره الخاص)، والتي أحكموا بها سيطرتهم على قطاعات واسعة من الفضاء السياسي والاجتماعي والفكري في منطقة الشرق الأوسط على مدى الأربعين سنة الماضية. وذلك في تمايز جلي عن الوضع السائد منذ مطلع القرن العشرين وحتّى عقد الستينيّات، فقد كانت الغلبة حينئذٍ للتيارات القوميّة والاشتراكيّة.
وسرعان ما يتبادر للذهن عند عرض هذه القائمة التقريبيّة للتيارات الإسلامويّة المختلفة، أنّه من الخطأ وضع كل تلك المجموعات في سلّةٍ واحدة. فما يفرّق بين تلكم الجماعات أحيانًا أكثر ممّا يجمعها.
وقد فرض مصطلح "الإسلامويّة" نفسه كمسمّى للتيارات المتصلّبة فكريّا والمستعدّة لتبنّي العنف، في حين بقي مصطلح "الإسلام السياسي" محاطًا بإشكالات عدّة، رغم البريق الأكاديمي الذي قد يوحي به. وحتّى وإن أشار بعض الباحثين، وهم محقّون في ذلك، بأن هذا المصطلح وإن استخدم وتمّ وضع تعريفٍ له في كثير من المنشورات العلميّة الرزينة على مرّ العقود الأخيرة، إلا أنّه يظلّ مصحوبًا ببعض اللبس. إذ أنّ عامّة الشعب الألماني لن تطّلع على تلك المؤلّفات والتعريفات الأكاديمية ولن تتمكّن منها. ولذا فليس من السهل تجاهل العنصريّة الموجّهة ضد المسلمين وسط مجتمعٍ أصبحت فيه تلك الظاهرة تشكّل خطرًا جديّا يتسبّب وبصفة دوريّة في وقوع ضحايا جدد.
لا للإقصاء، نعم للتوعية حيال التوجهّات الملتبسة
وعلاوة على ذلك لا يزال الخبراء غير مجمعين على تعريفٍ للحدّ الذي يفصل بين تصنيف حركة سياسيّة أو جمعيّة ما على أنها تتبع "الإسلام السياسي". فمثلا لا يكاد يختلف اثنان على انتماء حركة "ميلّي غوروش" التركيّة القوميّة الإسلاميّة لتيار "الإسلام السياسي". ولكن ماذا عن كل أولئك الأفراد من الأسر التركيّة المقيمة بألمانيا والتي تنشط في شبكات تنظيم حركة ميلّي غوروش، وقد أصبح، بحكم العادة، نشاطهم في محيط الحركة أمرًا بديهيّا؟ فهل يحقّ للآخرين إذن أن يصنّفوهم على أنّهم من أتباع تيّار الإسلام السياسي؟
وماذا عن الشريحة الواسعة من المواطنين والمواطنات المسلمين الذين يساهمون بالعمل التطوعي في إطار جمعيّات خيريّة تقدّم خدماتٍ جليلية للمجتمع وتمدّ جسورا للحوار بين أتباع الأديان المختلفة، والتي قد يتقاطع انتماء بعض القائمين عليها مع منظّماتٍ لا سبيل لتصنيفها إلّا كأذرعٍ للإسلام السياسي؟
ولذا فمن الواجب العمل على عدم إقصاء المسلمين والمسلمات الألمان، ولا سيّما اليافعين منهم المولودين بألمانيا، بل وجب تحسيسهم بالإشكاليّات المتعلّقة بمواقف بعض الناشطين في صفوفهم. وفي الحقيقة هكذا هو الحال في أكثر من مكان ومن دون أيّ تدخّل، فالأجيال الشابّة مقبلة على التعليم الجامعي وخوض غمار النشاط الاجتماعي. وكنتيجة لذلك تزداد درجة الوعي لديهم تجاه مواضيع مثل رهاب المثليّة أو معاداة الساميّة، وربط تلك المواضيع بما يعانونه هُم من تصرفات عنصريّة مسلّطة تجاههم.
لا شكّ في أن الآراء القوميّة المتطرّفة، والمحافظة، أو حتّى الإسلامويّة تشهد رواجًا لدى الشباب الألماني من أصولٍ عربيّة أو تركيّة، وبمستوًى مثيرٍ للقلق. فأنا شخصيّا أعمل بمدرسة في مدينة برلين وأعرف من تجربتي الخاصّة أنّ غالبية التلاميذ والتلميذات في مدارس معيّنة يعتقدون بأنّ المثليّة الجنسيّة "حرام" وأنّها مبرّرٌ لاحتقار المثليّين والمثليّات.
وتهيمن في بعض الأحياء السكنيّة عقليّة ذكوريّة بحتة بتبريراتٍ دينيّة على الحياة الشخصيّة لشباب تلك الأحياء. وليس بالأمر الخفي أن اليهود خاصّةً وكذا العلويّين يتعرّضون مرّةً بعد أخرى لاعتداءاتٍ لفظيّة وجسديّة من قبل شبابٍ ينتمون لأوساطٍ مسلمةٍ متزمّتة، وهذا دون أن يبدي مجتمع الغالبيّة الألماني أيّ تعاطفٍ تجاههم. ولذا فإن كثيرًا من المدرّسين والمدرّسات من خلفيّات غير مهاجرة يواجهون صعوبات لا طاقة لهم بها.
ولكن في الوقت ذاته لا يتحرّك البعض ممّن يجب أن يبدو اهتمامًا بتلك الأوضاع السيّئة لفعل شيء حيالها، إمّا عن قلّة اهتمام، أو جهل أو بسبب حساباتٍ سياسيّة. فالمسلمون بألمانيا أقليّة تعاني من الوصم، سواءً نظر إليهم الآخرون كمسلمين بناءً على مظهرهم الخارجيّ فحسب، أو كانوا مسلمين معتدلين أو حتّى من أنصار الفكر المتطرّف. ومن هذا المنطلق فإنّ الحذر الذي يبديه بعض السياسيّين هو بالأمرٌ المفهوم إلى حدّ ما، بل وقد يصبح مطلوبًا بعض الأحيان.
التقليل من شأن خطر اليمين المتطرّف
باختصار يمكن القول إنّه يوجد في ألمانيا بالفعل فاعلون ومنظّمات وجب أخذها على محمل الجد، وتُحسَب جميعها، رغم الاختلافات التي بينها، على تيّارات "الإسلام السياسي"، وهي تنشر أطروحات فكريّة معاديةً للديمقراطيّة وأحيانا حتّى للإنسانيّة. ويلقى هذا الطرح الفكري رواجًا معتَبرًا، لا سيّما في أوساط الجالية المسلمة داخل البلاد. وتشكّل هذه التوليفة في أوساطٍ معيّنة أو مناطق بعينها خطرًا حقيقيًّا على غير المسلمين (خاصة الإيزيديّين واليهود والعلويّين والأرمن)، وعلى المسلمين السابقين، والنساء المتحرّرات، وعلى ناقدي بعض الإيدولوجيّات أو الهياكل، وعلى أصحاب الميول الجنسيّة المغايرة. ولذا فإنّه من غير المقبول بالمرّة التقليل من شأن هذا الخطر أو من مدى خوف الأشخاص المعنيّين بطريقةٍ أو بأخرى، أو محاولة تبرير التبعات التي كثيرًا ما تكون قاسيةً، أو عدم إظهار الدعم اللامشروط لضحايا ذلك العنف.
ومن الواجب الوقوف في وجه التيارات المعادية للديمقراطيّة والحاملة لبذرات الفاشيّة في الأوساط المسلمة بألمانيا، وبكل حزم، تمامًا مثلما هو الحال بالنسبة لمجتمع الأغلبيّة الألماني مع تياراته اليمينيّة المتطرّفة. وهنا نصل إلى صلب الموضوع: إنّ التهويل من حجم "الإسلام السياسي" بألمانيا، إلى حدّ تصويره على أنّه على وشك الإمساك بمقاليد حكم جمهورية ألمانيا الاتّحاديّة لهو أمرٌ مضلّل. فبرلين سنة 2021 ليست طهران سنة 1979. ولذا فإن الفكرة التي يروّجها البعض ومفادها أنّه يتوجّب على الجميع فعل المستحيل حتى لا نصبح من الغد على أعتاب "جمهوريّة ألمانيا الإسلاميّة"، ليست سخيفةً فحسب، بل هي تحجب الرؤية عن حقيقة المخاطر في واقع ألمانيا.
فاليمين المتطرّف الألماني، إلى جانب كونه أكبر الجماعات المعادية للديمقراطيّة والمستعدّة لاستخدام العنف، يتمتّع كذلك بتعاطفٍ ظاهرٍ أحيانًا، وخفيٍّ أحيانًا أخرى، تصل جذوره إلى عمق الطبقة الوسطى من المجتمع. وبالإضافة إلى امتلاكه لدرجةٍ عاليةٍ من التنظيم، فإن لديه ارتباطاتٍ وثيقة مع مراكز السلطة تطوّرت مع الزمن، ويعمل أنصار اليمين المتطرّف بلا كلل، على خلق تشكيلات موازية داخل أجهزة الشرطة والمخابرات وصفوف الجيش، وهو الأمر الذي تُوِّج بالنجاحٍ كما ظهر ذلك في أكثر من مناسبة.
ويشكّل هذا حالةً من اختلال التوازن تمتدّ تبعاتها لتصل إلى المجال السياسي. فعندما يتمّ التعامل مع بضع أئمة متطرفين في حي نُويْكولن -[حي برليني يتميّز بالتواجد الكثيف للجاليالت العربيّة والمسلمة]- على أنّهم أشدّ خطرًا على الجمهورية من المزيج القومي الألماني المتطرّف المكوّن من جماعاتٍ شبه عسكريّة ومن جمعيّات أخويّة ذكوريّة ومن نازيّين جدد، بالإضافة لكلّ الشبكات الداعمة لهم، سواءً داخل البرلمان الألماني أم خارجه، فسيكون لهذا مفعول ضارٌّ على المدى الطويل على الجهود المبذولة لمحاربة القوى المعادية للديمقراطية في الأوساط المسلمة.
إن وجود حالةٍ عامّةٍ من الاشتباه الجماعي والوصم المتواصل تجاه المسلمين والمسلمات لا يزيد فقط من صعوبة التمييز الضروري بين القوى الديمقراطيّة والقوى المعادية للديمقراطية داخل التجممّعات المسلمة بألمانيا، بل إنه أيضا يتسبّب في نشر الإحباط وخيبة الأمل حتّى لدى أولئك الذين يعتبرهم الآخرون مسلمين بسبب ملامحهم الخارجية لا غير.
لقد أصبح حَريًّا بوسائل الإعلام والسياسيين في ألمانيا أن يوجّهوا إشارةٍ للرأي العام بأنّهم قد أدركوا مقدار الخطر المتأتّي من الأنشطة الإسلامويّة، وأنّهم لن يتسامحوا مع تلك الأنشطة، ولكن من دون الإغراق في المبالغة أو ممارسة الشعبويّة. والأمر المؤكد في هذا السياق أنّ مواصلة الادّعاء بغياب النقد الموجّه للمسلمين وللمؤسّسات الإسلاميّة أو بأنّنا قاب قوسين أو أدنى من فرض الحجاب على الجميع، ليس مفيدًا بالمرّة.
طيفون غوتشتات
ترجمة: صهيب زمّال
حقوق النشر: موقع قنطرة 2021
وُلد طيفون غوتشتات سنة 1987 بمدينة هامبورغ الألمانية وهو باحث في الدراسات الثقافيّة وكاتب وموسيقي يقيم في برلين منذ سنة 2016. يشمل مجال أبحاثه مواضيع مثل تحوّلات الهويّة والفكر القومي وموسيقى الشرق الأوسط.
[embed:render:embedded:node:41751]