معركة إيمانويل ماكرون الخاطئة
شهدت فرنسا في شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2020 أحداثًا مروِّعة، هزَّت فيها البلادَ جرائمُ قتل لافته للنظر، قُطِع خلالها رأس مُدَرِّس يعمل في مدرسة ثانوية وطُعِن ثلاثة أشخاص حتى الموت في كنيسة، بأيدي جانِيَيْنِ مسلمين اثنين برَّرا جريمتيهما هاتين بالإسلام.
إنَّ هذه الحقيقة تجعل من التوضيح المعتاد الجاهز للاستخدام والمثير للريبة -بأنَّ هذه أفعال صادرة عن أفراد منعزلين "لا علاقة لهم بالإسلام"- يبدو فارغًا من محتواه وأجوف تمامًا مثل التنصُّل من المسؤولية عن جرائم مهولة مشابهة حدثت في الماضي.
وإلى أن يتم التحقُّق من دقة التسلسلية السببية الدافعة إلى ذلك يتعين أن تنطبق أطروحة الباحث الفرنسي في علم الاجتماع والدراسات الإسلامية جيل كيبيل، الذي تفترض أطروحته "استمراريةً" ممتدة من دعاة وأئمة -داعين إلى "الانعزال الثقافي" عن مجتمع الأغلبية- وصولًا إلى ذاكَيْنِ الفردين القاتلين.
لقد أثبت الشاب ذو الأصل الشيشاني -البالغ من العمر ثمانية عشر عامًا والذي قطع رأس المعلم صاموئيل باتي في ضواحي باريس- وكذلك الشاب التونسي -منفِّذ هجوم الطعن في الكنيسة بوسط مدينة نيس- أنَّهما على الأقل قادران على التعرُّف على إهانة النبي والسخرية من الدين وربط ذلك بأفعالهما.
ومهما كانت الطُرق المظلمة والمستويات الغامضة -المؤدية إلى جرائم القتل- متأثرةً بـ "عامِل الإسلام" تبدو جوانب أخرى أكثر إلحاحًا لا بد لها من التحليل والنقد، وذلك بأخذ ما يُراد -من عدم تجاهل للخلفية السياسية- بعين الاعتبار.
استعادة الضواحي
بدأ شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2020 بظهور نشيط للرئيس الفرنسي ألقى فيه إيمانويل ماكرون خطابه تحت شعار "الصحوة الجمهورية"، معلناً عن برنامج لاستعادة ضواحي باريس، التي سبق أن ذكرها قبل ثلاثين عامًا الباحث -المذكور آنفًا- جيل كيبيل في كتاب "ضواحي الإسلام" Les banlieues de l'Islam ، ولذلك فإنَّ هذه المشكلات ليست بجديدة.
لم يكن على الأرجح من المصادفة تلميحُ إيمانويل ماكرون إلى استعادة السيطرة على إسبانيا المسلمة، مهيبًا بجمهوره إلى أنَّ المسألة غير متعلقة بأقل من مكافحة "الانفصالية الإسلاموية" على الأراضي الفرنسية، ومؤكدًا على أن الجمهورية قد فَقَدَتْ السيطرة على "مناطق معيَّنة" وعلى وجوب استعادة هذه المناطق.
تواصلٌ فاشل
وفي مظهر الرجل الفاعل -الأشبه بالقائد العسكري- عرض إيمانويل ماكرون استراتيجيةً من المفترض أن تمنع الأعمال الإجرامية التي حدث مثلها لاحقًا في النصف الثاني من شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2020، غير أن فشل هذه الاستراتيجية فاضحُ السفور لدرجة الترويع، ودرسٌ -يقف له شعر الرأس فزعًا- حول مدى خطورة وقوع خطأ في التواصل.
فقد وصف ماكرون "المدرسة" بأنَّها ركيزة أساسية في برنامجه، مضيفًا أن "الجمهورية سوف تقاوم من خلال المدرسة مَنْ يريدون إسقاطها"، ومثلما قال فإن الأوساط الإسلاموية تقوِّض وبشكل متزايد التعليم الإلزامي، مشدِّدًا على أن "مدراء المدارس يكتشفون كلَّ يوم أطفالًا خارج النظام التعليمي، وكلَّ أسبوع يغلق المحافظون مدارس غير قانونية يديرها متطرِّفون"، يتعلم فيها الأطفال شكلًا متطرِّفًا من الإسلام يرفض قيم الجمهورية الفرنسية، وفق ما قال ماكرون.
وشدَّد ماكرون على ضرورة مواجهة هذا الميول، قائلًا إنَّ المدرسة يجب أن تكون هي المؤسَّسة التي تغرس في جميع الأطفال قيم الجمهورية ومبادئها المتمثِّلة في الحرِّية والمساواة والأخوَّة.
وهنا من المستحيل عدم اعتبار قطع رأس المعلِّم صاموئيل باتي ردًّا فظيعًا على هذا الجزء من خطاب ماكرون، وهو مدرِّس التاريخ الذي عرض في الفصل الدراسي -من أجل تناول موضوع حرِّية التعبير- الرسومَ الكاريكاتورية الساخرة من النبي محمد، التي نشرتها صحيفة شارلي إيبدو قبل ستة أعوام.
لم يكن بالإمكان أن يكون تذكير قيادة الدولة الفرنسية أكثر قساوةً من ذلك بأنَّها لم تعد تستطيع الوصول بواسطة اللغة إلى مَنْ تخاطبهم. وهذا ليس أقل وضوحًا في الأجزاء الأخرى من استراتيجية ماكرون الرامية إلى مواجهة الإسلاموية.
فقد قال الرئيس إيمانويل ماكرون إنَّه يريد المساهمة في بناء "إسلام تنويري" un Islam des Lumières ، لمواجهة إسلام الأئمة الظلامي في الضواحي.
وفي حين أرسل الرئيسُ الأمريكي باراك أوباما -حين كان في السلطة- أميرةً عربية شعرها مصبوغ باللون الأشقر -هي رانيا الأردنية- من أجل مكافحة الإسلام السيِّئ بالإسلام الجيِّد، ها هو رئيس الجمهورية الفرنسية يقوم بهذه المهمة بنفسه فوريًّا من دون وساطة لكن هذا تمادٍ في الادعاء للنفس بما ليس لها ومبالغة متهورة في تقدير سلطة الذات الأخلاقية.
ظهور يشبه الكاريكاتور
وبصرف النظر عن تنافسه مع السياسية اليمينية الفاشية مارين لوبان على كسب الحظوة لدى المواطنين الفرنسيين، يبدو أنَّ ماكرون يجد صعوبة في فهم سياق أفعاله الذاتية. ففي كلمته يتحدَّث حول ضرورة معالجة تاريخ فرنسا الاستعماري، ولكن لا بدَّ من أنَّ هذا يقع على مسمع الكثيرين ككلمات جوفاء غير مترافقة بأفعال -إن لم يكن حتى استهزاءً وسخرية- لأنَّ سياسات ماكرون تمشي في أماكن عديدة على خُطى الاستعمار الفرنسي وتتبع تقاليده: في مالي وليبيا ولبنان.
وظهوره في بيروت بعد انفجار المرفأ المدمِّر -بمادة نترات الأمونيوم في شهر آب/أغسطس 2020 والذي قدَّم خلاله وعودًا وردية غزيرة مثل المطر- كان يشبه الكاريكاتور. ثمة درس مهم يجب تعلمه من تاريخ الاستعمار -بالإضافة إلى الاعتراف بالجرائم ضدَّ الإنسانية التي وصفها بذلك ماكرون بنفسه ذات مرة قبل فوزه في الانتخابات قبل أكثر من ثلاثة أعوام- وهذا الدرس هو اعتراف الإنسان بحدود سلطته الذاتية واعترافه حتى بعجزه الذاتي.
إنَّ مَنْ يمنح نفسه الحقّ في "بناء" إسلام جديد -بحسب تعبير ماكرون- متوافق مع المصالح الذاتية لم يسمع على الأرجح الطلقات التحذيرية بعد، فتاريخ الاستعمار الفرنسي بدأ في الجزائر في ثلاثينيات القرن التاسع عشر بسحق الأُخوَّة الإسلامية الراسخة.
أُخوةٌ اضطر زعيمها الأهم الأمير عبد القادر الجزائري إلى الهرب إلى سوريا، التي كانت لا تزال تابعة للدولة العثمانية. وبدأت قوة الاحتلال الفرنسي -التي كانت ملتزمة في ذلك الوقت بمبادئ التنوير المتمثِّلة في الحرِّية والمساواة والأخوة- في "بناء" هياكلها الخاصة في محل الهياكل الإسلامية المُدمَّرة.
شعارات بالية أكل الدهر عليها وشرب
من الأساس فكرة خوض المعارك القديمة بين الغرب والشرق مرة أخرى في خريف عام 2020 هي فكرة خاطئة، إنْ لم نقل فكرة سخيفة. وهنا يود المرء أن يصرخ للرئيس الفرنسي هاتفًا: "إنَّها المعركة الخاطئة" C'est la mauvaise bataille ، لأن الرسوم الكاريكاتورية الساخرة من النبي محمد لن تُثني المتديِّنين عن الظلامية ولن تُقنع أي شخص بمزايا المنطق العلماني.
هذه الفكرة تتناسب مع أثَرٍ قديم مجهولِ مؤلِّفهُ كان منتشرًا في أواخر العصور الوسطى عن "الدجالين الثلاثة" De Tribus impostoribus ، وكان يُقصَد به مؤسِّسو الديانات السماوية موسى وعيسى ومحمد. يعود هذا النص إلى بداية نقد الدين، الذي أدَّى إلى التنوير الأوروبي. في ذلك الوقت كان لهذا النوع من الاستفزاز دورٌ تنويري، ولكنه اليوم مفارقة تاريخية ميؤوس منها غير واردة في مكانها الصحيح.
غير أنَّ التهكم الحقيقي ينشأ عند رؤية رئيس الدولة وهو يوفِّق بين ما قدَّمه هو من تشخيص للمجتمع وبين سياسته هو نفسه، إذ يمكن إلى حدّ كبير تفسير ضعف الدولة المُشْتكَى منه بجفاف مواردها وتسريع ماكرون لإعادة التوزيع من الأسفل إلى الأعلى بالإضافة إلى التخفيضات في التمويل التي نجم عنها تدمير نظام التعليم المدرسي ووسائل النقل العام والخدمات الاجتماعية في السنوات الأخيرة.
وهذا واضح من نظام رعاية صحية متآكل من الداخل تضرَّرت معه فرنسا من وباء كورونا بشكل يكاد يكون أكثر من أية دولة أوروبية أخرى بعدد أَسِرة عناية مركَّزة لا يكفي لعدد حالات الإصابات الشديدة بفيروس كوفيد-19. لقد أعلن الرئيس الفرنسي من دون تخطيط "الحرب" على فيروس كورونا في شهر آذار/مارس 2020، تمامًا مثلما يدعو الآن إلى خوض المعركة ضدَّ "انفصالية الإسلامويين". يجب على ماكرون التركيز على أزمة الجمهورية بدلًا من التشدُّق بالحديث حول "أزمة الإسلام".
المشكلة تبدأ بحقيقة أنَّ نخبة المجتمع -التي ينتمي إليها إيمانويل ماكرون المتخرج من تخصص المصارف الاستثمارية- لا تعرف على الإطلاق "بعض المناطق والأحياء المعيَّنة في الجمهورية"، غير أنَّها مع ذلك تحاول ملء الفراغ بشعارات بالية أكل الدهر عليها وشرب حول الدولة العلمانية.
لقد كتب الكاتب الفرنسي ميشيل ويلبيك حول هذا الفراغ في المقام الأوَّل في روايته "خضوع" Soumission ، ولكن النقَّاد احتفلوا بدلًا من ذلك بهذا العمل -الصادر في عام 2015 بعد فترة قصيرة من الهجوم على مجلة شارلي إيبدو- باعتباره قبل كلِّ شيء تحذيرًا من عدوانية الإسلام. إنَّ مثل سوء الفهم هذا بات أمرًا شبه حتمي لا مفرّ منه في فرنسا وأوروبا اليوم.
شتيفان بوخِن
ترجمة: رائد الباش / ع.م
حقوق النشر: موقع قنطرة 2020
يعمل الكاتب شتيفان بوخن صحفيًا تلفزيونيًا لبرنامج بانوراما لدى القناة الأولى الألمانية آيه آر دي ARD. درس اللغة العربية وآدابها في جامعة تل أبيب.
[embed:render:embedded:node:42059]