تحالف غير مستقر

لم يشارك الرئيس السوري أحمد الشرع في القمة العربية التي عُقدت في العاصمة العراقية بغداد في مايو/أيار الماضي، بعد حملة سياسية في العراق، قادتها قوى مقرّبة من إيران، ضد زيارته. فقد عارضت فصائل وأحزاب شيعية ضمن الائتلاف الحاكم حضور الشرع، بل طالب بعض النواب الشيعة بقرار برلماني يمنع دخوله البلاد، على خلفية مشاركته السابقة في القتال ضمن صفوف تنظيم القاعدة بالعراق خلال العقد الأول من القرن الحالي.
تبدو هذه الحملة انعكاسًا على التوتر المستمر في العلاقات العراقية-السورية المتذبذبة منذ وصول الشرع إلى الحكم، فقد كانت هناك نقاط تلاقي عدة بين البلدين، من بينها العلاقة الوثيقة مع إيران والتعاون الأمني والاقتصادي، حتى سقوط بشار الأسد.
لكن نقطة التحول جاءت أواخر عام 2024 مع صعود إدارة جديدة في سوريا ذات ماضٍ معقد ونهج مختلف في التحالفات الإقليمية، الأمر الذي وضع بغداد أمام واقع جديد: لم تعد إيران حليفًا مشتركًا بين البلدين، وتضم النخبة الجديدة في دمشق شخصيات قاتلت سابقًا إلى جانب تنظيم القاعدة داخل العراق.
غير أن العراق وسوريا يواجهان تهديدًا خطيرًا مشتركًا يتمثل في تنظيم "داعش"، الذي يعيد تنظيم صفوفه ويتحين الفرصة للعودة إلى الساحة على جانبي الحدود. هنا، تجد بغداد نفسها أمام خيار صعب: هل تتغلب الضرورة الأمنية المتمثلة في مواجهة "داعش" على الشكوك بشأن ماضي الشرع وخلفية النظام السوري الجديد؟
علاقات متذبذبة
تفاوتت استجابة العراق لتطورات المشهد السوري ما بعد الأسد على مرحلتين؛ حذر أولي تبعه تقارب تدريجي، بيد أن هذا التحول جاء مدفوعًا جزئيًا بتزايد القبول الدولي للرئيس الشرع، فضلًا عن المصالح المشتركة، وخصوصًا أمن الحدود ومحاربة الإرهاب.
في المرحلة الأولى، اقتصرت استجابة بغداد على إرسال وفد رسمي برئاسة رئيس جهاز المخابرات العراقي، حامد الشاطري، إلى دمشق في 26 ديسمبر/كانون الأول 2024، كما امتنعت بغداد لاحقًا عن تهنئة الشرع بتوليه الرئاسة في يناير/كانون الثاني.
وفي فبراير/شباط، صرّح القيادي في الإطار التنسيقي، الحزب الحاكم بالعراق، محمود الحياني، بأن صمت العراق تجاه رئاسة الشرع يعود إلى "ملفات إرهابية" تتعلق بعدد من أعضاء حكومته، الذين شاركوا في أنشطة ضمن صفوف تنظيم القاعدة في العراق بين عامي 2005 و2011.
فيما بدأت المرحلة الثانية منتصف آذار/مارس، حين زار وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني بغداد، حيث طغى موضوع تنظيم "داعش" على التصريحات الرسمية خلال الزيارة، ما عكس أولوية هذا الملف في العلاقات بين البلدين.

ارتباط المصير والتاريخ والهجرة
أثارت العلاقات الوثيقة بين تركيا والنظام السوري الجديد جدلًا حادًا داخل البلاد. فتركيا ترى صورتها في سوريا حيث الانقسامات العميقة؛ الإسلاميون ضد العلمانيين، والعلويون ضد السنة، والأتراك ضد الأكراد.
بعدها بأسبوعين، قدّم رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني التهاني للرئيس السوري بمناسبة تشكيل حكومته الجديدة، مؤكدًا في اتصال هاتفي، مطلع أبريل/نيسان، على أهمية التعاون الثنائي في مواجهة "داعش". أعقبت ذلك دعوة رسمية من بغداد إلى الشرع لحضور القمة العربية، أثارت الجدل في الأوساط العراقية. ووفق مصادر سورية، فقد اعتذر الشرع عن الحضور تفاديًا لإحراج الحكومة العراقية.
يقول الباحث العراقي رمضان البدران، إن هذا التحول في الخطاب العراقي يعكس تخفيفًا للتحفظات تجاه ماضي الشرع، في ضوء النهج المعتدل نسبيًا الذي تتبناه الإدارة السورية الجديدة، إلى جانب تنامي الاعتراف العربي والدولي بها.
عدو مشترك يوحّد الخصوم
يضيف البدران لـ"قنطرة": "تنظيم داعش من أهم الملفات وأكثرها حساسية بين العراق وسوريا، وهو عامل محوري في دفع البلدين نحو التعاون في ظلّ النظام السوري الجديد".
ففي الأشهر التي تلت سقوط الأسد، سارع التنظيم لاستغلال المرحلة الانتقالية، عبر إعادة تنظيم صفوفه وتجنيد مقاتلين جدد. وأشار الخبير العسكري وأستاذ الدراسات الأمنية في جامعة الدفاع الوطني بواشنطن، ديفيد دي روش، خلال زيارته بغداد مؤخرًا، إلى قلق واضح لدى المسؤولين العراقيين، الذين عبّروا عن خشيتهم من عودة التنظيم للتمدد انطلاقًا من الأراضي السورية.
وفي أبريل/نيسان، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز، أن مسؤولين أمريكيين حذروا في تقريرهم السنوي لتقييم التهديدات العالمية من أن "داعش" سيحاول استغلال سقوط نظام الأسد لتحرير السجناء واستعادة قدرته على التخطيط وتنفيذ الهجمات.
ويكمن التهديد الأساسي حاليًا في محاولة التنظيم لتحرير آلاف المعتقلين، بينهم مقاتلون متمرسون، ممن لا يزالون محتجزين في سجون تابعة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) منذ هزيمة التنظيم عام 2019.
بدوره، صرّح رئيس جهاز الأمن الوطني العراقي عبد الكريم عبد الفاضل، في أبريل/نيسان، بأن "داعش" يخطط لشنّ هجوم على مخيم الهول في شمال شرق سوريا لتحرير آلاف المقاتلين المحتجزين.
وأشار أيضًا إلى أن قسد لا تمنح التنظيم أي مساحة للمناورة، وتمنعه من استعادة قوته داخل مناطقها، وبعد اتفاقها مع الشرع على دمجها ضمن الجيش السوري ومؤسسات الدولة، أصبح بإمكان دمشق وبغداد الاستفادة من خبرة قسد الواسعة في محاربة "داعش" لاحتواء أي عودة محتملة للتنظيم.
ويُعدّ هذا التعاون الثلاثي بين دمشق وبغداد وقسد عاملًا حاسمًا في الحد من تحركات "داعش" عبر الحدود، وإحباط محاولاته لتحرير السجناء.
ويقول المحلل السياسي الكردي سليمان جعفر: "تملك قسد خبرة كبيرة في محاربة داعش منذ عام 2014، وهي مستعدة للعب هذا الدور مجددًا في حال طُلب منها ذلك من قبل العراق"، وأضاف لموقع قنطرة: "لن تتردد قسد في المشاركة بأي تعاون مستقبلي ضد داعش إذا طلب العراق ذلك".
حل طويل الأمد؟
يقول الصحافي السوري فراس يونس إن عودة تنظيم "داعش" أوجدت "فرصة للتقارب والتنسيق" بين العراق وسوريا.
ويضيف: "النظام السوري الحالي مُصمم على محاربة داعش، لأن بين الطرفين عداء تاريخيًا، بدأ حين كانت هيئة تحرير الشام التي يقودها الشّرع، قد نشأت كفرع للقاعدة في سوريا تحت اسم جبهة النصرة".
ويتابع يونس: "هناك ضرورة لتنسيق أمني وعسكري بين البلدين، وخبرة قوات قسد في هذا المجال غاية في الأهمية".
ومع ذلك، يرى يونس أن الجهد العسكري وحده لا يكفي لتحقيق الاستقرار، "فالحل الجذري يتطلب إصلاحًا سياسيًا"، يقول: "من خلال بناء نظام ديمقراطي شامل في سوريا، وتعزيز الحريات، والانطلاق في عملية إعمار سريعة".
لقد شكلت محاربة "داعش" عاملًا رئيسيًا في التقارب بين سوريا والعراق، لكن احتواء الخطر العابر للحدود للتنظيم على المدى البعيد يتطلب ترسيخ آليات ديمقراطية داخل سوريا، وتوسيع التمثيل السياسي، واستمرار قدرة الشّرع على الاستفادة من الخبرات الكردية في ذلك المجال.
قنطرة ©