من المئذنة ينادي مناد: السلام عليكم
وإذا كان من الصعوبة بمكان، البت بنحو دقيق، في تاريخ التحام الشرق والغرب، موسيقياً، إلا أن ثمة حقيقة بينة، لا يمكن الاختلاف عليها: فبما أن ملحنين من قبيل موتسارت وبيتهوفن وشوبرت، على سبيل المثال وليس الحصر، ما كانوا قادرين، على تجاهل سحر الشرق، لذا تغلغلت عناصر موسيقية، تركية وأشعار فارسية، وحكايات وقصص عربية، في قلب الثقافة الأوروبية، في موسيقى هؤلاء الملحنين.
من هنا لا غرو، أن تدور أول أوبرا، من الأوبرات الكبرى، حول قصة، تشبه قصص ألف ليلة وليلة.
ففي يوم من أيام العام 1670، حل السفير العثماني في باريس، المدينة التي كانت، في تلك الحقبة من الزمن، تزهو بعظمة حكم الملك لويس الرابع عشر. وبكل فخر وثقة بالنفس، اصطحب أحدهم السفير العثماني، ليتجول في باريس، ويطلع على مفاتنها. إلا أن هذا السفير لم يكترث كثيراً، بما شاهد من عظمة باريس، وما كان منه إلا أن قال، بأن فرس سيده السلطان، مُزينة بجواهر، يفوق عددها، عدد الجواهر، التي تزين تاج الملك الفرنسي.
أوبرا ضد الأتراك، لكنها مدينة بالفضل لهم
واستشاط لويس الرابع عشر غضباً، حين وصل إلى سمعه تعليق السفير العثماني. وكان قد قرر أن يثأر لنفسه، من السفير وفق خطة مدروسة، لم يُطلع عليها إلا شخصان من الحاشية، شخصان من أهل الفن. وكان أحدهما هو الشاعر الذائع الصيت جان باتيست موليير، والآخر هو مؤلف الموسيقى الكلاسيكية جان باتيست لولي. وفيما كان الاثنان يعكفان على صياغة أوبرا جديدة، عنوانها »البرجوازي النبيل"« طلب منهما الملك أن يدسا في الأوبرا، التي يعملان على كتابتها، مشهداً مثيراً للسخرية، إلى أبعد حد ممكن. فهو كان قد عقد العزم على الاستهزاء بالأتراك، والسخرية منهم بكل معنى الكلمة.
ولكن، ولكي يكون بالمستطاع وضع الخطوط العريضة لهذا المشهد الساخر، كان المؤلفان، بحاجة إلى معارف دقيقة، إلى حد ما، بشأن خصائص المجتمع التركي. ولحسن حظهم، أن حاجتهم هذه كانت قد تزامنت مع وصول الرحالة الفرنسي شيفالييه لاوران ده آرفييه إلى باريس، بعد إقامته في تركيا، ردحاً من الزمن. وكان هذا الرحالة معجباً بقونية على وجه الخصوص، حيث كان قد عايش في هذه المدينة، الطقوس الصوفية، الدارجة في تكية مولانا جلال الدين البلخي، المعروف في الغرب بالرومي. ولم يدم الأمر طويلاً، حتى راح ده آرفييه يقص على موليير ولولي، بنحو دقيق، وبكلمات مفعمة بالحماس والبهجة، ما شاهده في مجالس الدراويش الصوفيين، المخصصة للذكر، وقيامهم بالدوران وهم يرتدون ثياباً طويلة، ويرددون ذكر الله بلا انقطاع. وكان حديث آريفييه عما عايشه في قونية، قد أشعل الفتيل في خيال موليير ولولي حقاً. وهكذا، نشأ المشهد المسمى »الطقوس التركية«، أي نشأ أول مشهد مخصص للأتراك في أوبرا أوروبية.
وتم تضمين القصة مشهداً، يدور حول خصائص الثياب الشرقية، ويتناول وشائج الحب المتبادل بين لوسيل (Lucille) وكليونت (Cleonte)، وسعيهما لتتويج حبهما بالزواج. إلا أن رغبتهما في الزواج لم تلق الاستحسان عند والد لوسيل. فهذا يفضل لابنته أن تتزوج شخصاً من طبقة النبلاء. وكان هذا الوضع قد دفع كليونت، لأن يحتال على والد لوسيل، ويكلف البعض لأن يعلنوا عن وصول أمير عثماني، يريد التجوال في باريس. وهكذا ظهر هذا الأمير المزعوم، محاطاً بكثير من الأبهة والفخفخة، وراح يرفع جوردان، والد لوسيل، إلى طبقة النبلاء، وذلك بمنحه لقب ماماؤتشي (Mammautschi)، أي بمنحه لقب مختلق نظير موافقته على الزواج المنشود.
والأمر المثير للانتباه، في خصائص المشهد التركي، هو أن موليير ولولي قد ضمنا هذا المشهد، عناصر مستقاة من ذكر الله، وذلك على أساس أن التفوه بلفظ الجلالة، بلا انقطاع، يقود المرء إلى غيبوبة عن الوجود. فالنشيد الأول، على سبيل المثال، ليس سوى إعادة ذكر الله عشر مرات متتالية، وبدون مصاحبة من الآلات الموسيقية. ومن ثم، يجري حوار بين المفتي والدراويش، بكلمات غير مفهومة، يراد منها الإيحاء، بأنها مفردات تركية أو عربية، أعني كلمات من قبيل (Hu) و »ey walla«. ويستخدم المغنون، في هذه الأوبرا، لغة جرى استخدامها في موانئ البحر المتوسط، وكانت خليطاً من مفردات عربية وفرنسية وإسبانية ويونانية، وإيطالية على وجه الخصوص (lingua franca). وهكذا فحين سأل المفتى عما إذا كان: Star bon Turca Giourdina?، أي عما إذا كان جوردان، الفرنسي المزمع رفعه إلى طبقة النبلاء، تركياً حسن النية؟ أجاب الدروايش: Hi valla، أي أرادوا أن يقولوا نعم والله.
وحين أراد المفتي، بنطق معين، التعرف على عقيدة جوردان، وراح يسأل عما إذا كان هذا الفرنسي من أتباع ديانة لوثر، أو كافراً أو برهمياً أو من السريان، كان الدراويش يقولون في كل مرة: jok، أي كانوا ينفون ذلك بمفردة تركية معناها: لا.
وأخيراً، اكتشف المفتي بارتياح كبير أن جوردان مسلم.
ولإخراج هذا المشهد في الأوبرا المذكورة، لم يقتصد أولو الأمر في فرنسا، بالنفقات المالية، وتحمل الجهود المضنية، فقد طلبوا من المختصين تصنيع ملابس فاخرة، زاهية، وعمائم وأحذية، ليست ذات طابع شرقي صرف فحسب، بل ومكلفة جداً أيضاً. وبناءً على هذا كله، يمكن القول إن الملك قد أخذ الثأر لنفسه فعلاً.
حضور تركي وآلات موسيقية شرقية
وتخللت »المشاهد التركية« الأوبرات، التي تم عرضها لاحقاً أيضاً. ويمكننا هنا الاستشهاد، على سبيل المثال، بالأوبرا المسماة »الصيدلي« ليوسف هايدن، وبالمقطوعة الغنائية المسماة »Salamelica«، التي تخللت هذه الأوبرا. فهذه المقطوعة الغنائية، الرائعة بامتياز، تتحدث عن القسطنطينية، باعتبارها المدينة التي اعتاد سكانها، على الغناء والرقص بلا انقطاع.
وكانت المقطوعة الغنائية، قد جرى تزويقها، بما يسمى »أسلوب الموسيقى التركية« (alla turca)، هذا الأسلوب الذي كان، في القرن الثامن عشر ـ وفي فيينا بنحو خاص ـ موضة العصر. وحين يتحدث المرء عن »الموسيقى التركية« ـ وهو حديث المقصود منه تأثير الموسيقى التركية على الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية ـ فإنه يربط هذه الموسيقى دائماً بالموسيقى الحربية التركية، التي كانت دارجة في صفوف المحاربين الانكشاريين. ففي فيينا، على وجه الخصوص، ما كان العثمانيون أمة نكرة. فهذه الدولة المجاورة كانت قد خاضت مع النمسا العديد من الصراعات الحربية. وكان العثمانيون يستخدمون في هذه الصراعات، فرقاً موسيقية مشكلة من محاربين انكشاريين، دأبوا على استخدام الطبول والزمارات والأجراس والتيجان المزينة بجلاجل كثيرة، وذلك بغية إثارة الفزع في قلب العدو بالضوضاء والصخب الناتج عن هذه الآلات الموسيقية.
وفي كل مرة يندحر فيها العثمانيون وينسحبون من ميدان المعركة، كان النمساويون يجمعون ما يخلف العثمانيون وراءهم من آلات موسيقية، ويمعنون النظر فيها، والانتفاع منها أيضاً طبعاً. وكان لتسلل هذه الآلات، إلى الفرق المتخصصة في عزف الموسيقى الكلاسيكية، نتائج بعيدة المدى. فمن حقائق الأمور أن ملحني العصر الكلاسيكي (الذين كان الثلاثة العظماء يوسف هايدن وفولفغانك أماديوس موتسارت ولودفيغ فان بيتهوفن أشهرهم قاطبة)، كانوا قد عزموا أيضاً على نقل الضوضاء والصخب، من ميادين القتال، إلى صالات الحفلات الموسيقية. ولتحقيق هذا الهدف، استخدم هؤلاء المؤلفون الطبل والمثلث والصنجات، أي أنهم استخدموا آلات لا يمكن تغيير درجتها الصوتية، أو علو طبقة النغمة الصادرة عنها. وإذا كان الطبل (Trommel)، على وجه الخصوص، خير مثال على الآلات الموسيقية التي لا يمكن تغيير درجتها الصوتية، إلا أن الطبل الكبير يقوم، في الفرق الموسيقية، بدور الآلة المتممة الممكن تغيير درجتها الصوتية بحسب الطلب.
وارتبط استخدام آلات النقر، أو الضرب كما تسمى أيضاً، بالرغبة في زيادة الصخب، الناتج عن مجمل الفرقة الموسيقية. من هنا، فإن التباين بين درجات الصخب، الناتجة من الآلات الموسيقية المختلفة، كان قد تطور إلى خاصية مميزة »للأسلوب التركي«.
وما من شك في أن هذا الأسلوب المتميز، قد ترك انطباعات قوية، عند جمهور ذلك الزمن، كما يتبين من الوصف الذي ضمنه ليوبولد موتسارت، في رسالته العائدة إلى عام 1777. فقد كتب في هذه الرسالة إلى ابنه فولفغانك، واصفاً عرض دراما فولتير الموسومة »زايير، أو تركي يستشيط غضباً من فرط الغيرة«، وهو عرض تخللته موسيقى من تأليف هايدن، قائلاً: "لقد كانت موسيقى هايدن، في هذه المسرحية التراجيدية، رائعة فعلاً. ففي نهاية أحد الفصول، كانت هناك أغنية رافقتها ألحان، تعالت من التشيلو والنايات والأبوا وما سوى ذلك من الآلات الموسيقية. وما أن انتهينا من سماع عزف هادئ، خافت الأصوات، سرعان ما تعالت ألحان الموسيقى التركية، بنحو مفاجئ وبلا سابق إنذار، الأمر الذي أرعب النساء الحاضرات ودفعهن، من ثم، لأن يضحكن على أنفسهن من فرط فزعهن".
أوبرا موتسارت التركية
وبعد حقبة قصيرة من الزمن كتب فولفغانك موتسارت أشهر أوبرا تركية في التاريخ: »الاختطاف من السراي«. وفي هذه الأوبرا أيضاً، استخدم موتسارت، عناصر أسلوب الموسيقى التركية، المتميزة بتباين الأصوات، المتعالية من الآلات الموسيقية المختلفة، كما هو بين من الرسالة التي كتبها إلى أبيه عام 1781، فقد كتب قائلاً: "وما كانت الافتتاحية الموسيقية تشتمل على ما هو أكثر من أربعة عشر إيقاعا. ومع أن الافتتاحية قصيرة جداً، إلا أنها كانت تتحول بلا انقطاع، من موسيقى صاخبة تارة، وتارة أخرى هادئة، وهكذا دواليك، علماً بأن الموسيقى التركية كانت تتعالى دائماً، عندما كان يتعين أن يكون العزف صاخباً. وعلى ما أعتقد، لن يكون المرء، هاهنا، قادراً على الاسترخاء والنوم العميق، وفي الواقع، فإن المرء مطالب بألا يستسلم للنوم طيلة تلك الليلة".
وكان أبناء فيينا في غاية الغبطة، على خلفية الموضة الجديدة. ففي زمن، تميز بتوافر كل منزل من منازل فيينا على بيانو، وبوجود مؤلفات موسيقية، للأوبرات والسيمفونيات، يمكن استخدامها في المنازل للعزف على البيانو، دائماً وأبداً، ما كان بالإمكان، طبعاً، الاستغناء عن عزف الموسيقى بالأسلوب التركي أيضاً. ويمكننا التدليل على هذه الحقيقة من خلال موتسارت ثانية، واللحن الذي ألفه للفصل الثالث، من السوناتا331 KV. فهو قلد هاهنا، بنحو ناجح، »الصخب« المنبعث من آلات النقر، أو الضرب، وراح يعزفها على البيانو. ففي عصر موتسارت، أعني إبان كان مواطنو فيينا، يستخدمون الفن، لتصعيد الفزع من الأتراك، وحين كان الملحنون، يؤلفون الأعمال الموسيقية، بأسلوب الموسيقى التركية، أخذ المرء يصنع أجهزة بيانو تحتوي على خانة مخصصة لعزف الموسيقى الانكشارية. وبهذا المعنى، فإن آلة النقر »التركية« كانت موجودة في كل منزل، من منازل فيينا.
ففي ذلك العصر ما كانت توجد آلات للنقر. وهكذا، تعين على المرء أن يكون مبتكراً، إذا ما أراد تلحين »موسيقى تركية«. ففي كونشرتو الكمان، رقم خمسة، 219 KV، طلب موتسارت من العازفين على التشيلو، أن ينقروا بالأقواس، على أوتار آلاتهم (أي أنه استخدم التقنية التي يطلق عليها مصطلح (col legno). وبهذا النحو استوحى موتسارت الصوت المنبعث من طبل يُنقر عليه بمكنسة.
وثمة أمر متميز الأهمية بقدر تعلق الأمر بأوبرا »الاختطاف من السراي«. فهذه الأوبرا جرى عرضها لأول مرة في عام 1782 في فيينا. وقبل ستة أعوام من هذا التاريخ، صدر قرار يعمم اللغة الألمانية، كلغة رسمية في كافة ربوع إمبراطورية الهابسبورغ. وعلى خلفية هذا القرار، غير أولو الأمر اسم مسرح المدينة، من » مسرح بورغ« (Das Theater nächst der Burg)، إلى »المسرح القومي الألماني« (Deutsches Nationaltheater). وبعد عام فقط، أمر القيصر يوسف الثاني، بتأليف أوبرا قومية ألمانية. وهكذا، ولأول مرة في التاريخ، تقرر عرض أوبرا، يتخاطب فيها المغنون بالألمانية، وذلك لأن القيصر كان مهتماً، بضرورة أن يستقطب المسرح، اهتمام أوسع قدر ممكن من كافة فئات المواطنين.
وتأسيساً على هذا كله، تم تكليف موتسارت، برعاية حفلة الافتتاح موسيقياً. وتلبية لهذا التكليف، كتب موتسارت موسيقى لمادة تركية. وبهذا المعنى، يمكن القول، إن المسرح القومي الألماني قد بدأ نشاطه، بأوبرا تركية الطابع. وليس بخاف أن من حق المرء، أن يسأل عما إذا كان صنيعٌ من هذا القبيل ممكن التحقق، في اليوم الحاضر أيضاً؟
وفي الواقع، لم يكن موتسارت أول مؤلف موسيقي، تسحره الموضوعات الشرقية. فقبل موتسارت، وقبل تأليفه أوبرا »الاختطاف من السراي«، كان كريستوف فيليبالت غلوك قد ألف واحدة من أهم الأوبرات. فهو ألف ـ في فيينا أيضاً ولكن للمسرح الفرنسي ـ عملين موسيقيين: في عام 1761 أوبرا »القاضي المخدوع«، وبعد ثلاث سنوات من ذلك، أوبرا »اللقاء غير المتوقع أو حجاج مكة«.
وتدور أحداث هذه الأوبرا، حول الأمير علي البصري، وسعيه للعثور على خطيبته رضية، التي جرى اختطافها وضمها إلى حريم سلطان القاهرة. ونجح الاثنان في الهروب من القاهرة، بفضل الرشوة التي أعطياها راهباً يعيش من الصدقات اسمه كاليندير (Calender)، ونجحا في التسلل برفقة قافلة حجاج ذاهبة إلى مكة. بيد أن كاليندير لعب على حبلين، وأفشى سرهما، لدى السلطان. لكن السلطان رأف بالخطيب وخطيبته وعفا عنهما.
ونعثر، في أوبرا غلوك أيضاً، على ذات الموضوع، الذي تناولته أوبرا موتسارت الموسومة »الاختطاف من السراي«، والمؤلفة بعد أوبرا غلوك: موضوع التأكيد على عدالة السلطان المسلم، وتفضيله العفو، بدافع من المشاعر الإنسانية، وحباً في إحقاق الحق، أي إننا هاهنا إزاء موقف، كان الماسوني موتسارت قد عرضه أيضاً، في وقت لاحق (وذلك رغبة منه في الإشادة بالقيصر يوسف الثاني).
وكما هو معروف، فإن من مسلمات الأمور، في الأوبرا الجيدة أن يلعب، جنباً إلى جنب، الراعي »الخير« والشخص »الخبيث«، الذي جسده هنا كاليندير، الراهب الذي نادراً ما تمسك بأهداب الدين، طيلة الحياة، التي قضاها درويشاً متسولاً. فهو لا يتقيد بالقواعد المتعارف عليها، ولا هم له سوى أكل أموال الناس بالحرام. لا بل هو يذهب إلى ما هو أكثر شراً من هذا كله، فهو يختزن ويخفي الخمر في قبو مسكنه.
لقد كان كاليندير يمتع نفسه بنعم الحياة في الخفاء، ويتظاهر أمام الناس، بالفقر والفاقة وبحياة الضنك والحرمان. وبوسع المرء أن يـرى، في هـذا كلـه، تلميحـاً إلى الوضـع الذي سـاد وقتـذاك، أي حين أمر القيصر يوسف الثاني بإصلاح الأوضاع في الأديرة، وبضرورة اختبار النفع الحاصل من كل واحد منها. وبهذا المعنى، ومن خلال الاستعانة بدرويش مسلم، جرى توجيه النقد إلى الرهبان الكاثوليك.
دراويش في الأوبرا
ومن حق المرء أن يمعن النظر أيضاَ، في دقة ما كان الأوروبيون يعرفونه عن الإسلام في القرن الثامن عشر. فكريستوف فيليبالت غلوك يترك أحد الدراويش يترنم بنص، مع أنه غير مفهوم أبداً ولا أصل له بأي حال من الأحوال، أعني النص الذي ترد فيه عبارة (Castagno castagno)، إلا أن غلوك يزعم بنحو مثير للاستغراب: "إن هذه النصَ نشيدٌ كان محمدٌ يتغنى به في الخفاء، وهو مستقى من القرآن".
وجرت العادة في القرن الثامن عشر، على أن يُلَّحن الحوار الدائر في الأوبرا الواحدة بأشكال مختلفة. ولهذا السبب، بالذات، توجد، أيضاً أوبرا، هي من تأليف هايدن، لكنها تدور حول نفس الموضوع الذي تدور حوله أوبرا غلوك. وفيما كان الحوار يدور باللغة الفرنسية في أوبرا غلوك، يُغني الفنانون في أوبرا هايدن، الموسومة »أسترهازي« (Esterháza)، باللغة اللاتينية. وهنا أيضاً، أعني في أوبرا هايدن، يواجهنا الخبيث كاليندير ثانية. فهو على وشك إغراء شاب، اسمه عثمان، بالتحول إلى حياة الدراويش. فعثمان يتطلع للانتماء إلى رابطة من رابطات الدراويش، وذلك لأنه كان قد لاحظ، أن التغني بالنشيد ـ الذي لا يفهم، هو نفسه، مفرداته أصلاً - ، أعني النشيد القائل: Castagno castagno ، يلقى الاستحسان عند الناس، ويدفعهم لأن يتصدقوا عليه بالمال الوفير. ولكن، ومن قبل أن يتغنى بهذا النشيد، عليه أن يرتل »لا الله إلا الله«، أي عليه أن ينطق بالشهادة الإسلامية. وهكذا، يترك هايدن ـ بقصد أو بلا قصد ـ شخوص الأوبرا، التي ألفها، ينطقون بالشهادة الإسلامية، كما لو كانوا قد تحولوا إلى الإسلام.
إن محاكاة اللغات الشرقية هو أحد الملامح المميزة للأوبرات، التي تسودها نزعة التعلق بالغرائب (exotische Opern ). فمن ناحية، تطور ما يسمى بـ »أسلوب الثرثرة بكلام لا معنى له«. فعلى سبيل المثال حاولوا محاكاة الكلمات العربية من حيث الرنين. وعلى خلفية هذه المحاولات، نشأت عادة التحدث بنحو سريع، يكاد أن يكون مقطوع النفس، اعتقاداً من الأوربيين، أن العرب يتحدثون بهذا الأسلوب، في الحياة العامة. ومن ناحية ثانية، نشأ أسلوب تضمين النصوص المختلفة مفردات عربية، من قبيل »الله« و »محمد« و »الكعبة«.
وفي مقطوعته الموسيقية المسماة »أطلال أثينا«، يترك بيتهوفن جوقة المغنين، تنادي المرة تلو الأخرى: »الكعبة«. أضف إلى هذا، أن النص بأكمله قد اشتمل على موضوع ملفت للنظر فعلاً، وذلك لأنه ينوه بمعراج محمد. فقد جاء في النص:
في ثنايا أكمامك
حَمِلتَ القمرَ.
الكعبة! محمد!
ولقد امتطيت البُراقَ المنيرَ
لتعرج به إلى السماء السابعة
أيها النبي العظيم! الكعبة!
وعموماً، لا مندوحة لنا من القول، إن المعارف المحدودة عن الثقافة واللغة، كانت لا تزال لم تتطور، بعدُ، بالنحو المطلوب. كما أن تقنيات الاستشراق اللغوية كانت في بداياتها الأولى، وبالتالي، فإنها ما كانت تسمح بالانتفاع من المفردات والجمل بالنحو الصحيح. وبرغم هذه الحقيقة، لا يجوز للمرء أن يتجاهل حقيقة، أن الإمبراطورة ماريا تيريزيا، قد أمرت في وقت مبكر، في العام 1754، بتأسيس أول أكاديمية ملكية مخصصة لشؤون الشرق في فيينا، وأن هذه الأكاديمية قد منحت الراغبين، الفرصة لتعلم العربية والفارسية والتركية. وما من شك في أن يوسف فون هامر، كان ولا يزال، واحداً من أشهر خريجي هذه الأكاديمية. فترجمته لديوان الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي ألهمت غوته وحفزته لأن يؤلف "الديوان الغربي الشرقي".
الشيرازي و »الديوان الشرقي ـ الغربي« لغوته
حين قرأ غوته قصائد حافظ، انتابه حماس شديد ووجد نفسه ـ كما أقر هو نفسه بذلك ـ مدفوعاً دفعاً شديداً لمضاهاة الشاعر الفارسي من حيث »غزارة الإنتاج«. وتعززت غزارة الإنتاج بفعل قصة حب جارف أيضاً. فغوته كان قد هام حباً بالممثلة النمساوية مريانة فون فيليمر، وراح، هو ومريانة هذه، يتبادلان رسائل حب مكتوبة بالشفرة. وما كانت هذه الشفرة، في أغلب الأحيان، سوى أرقام القصائد الواردة في ترجمة فون هامر لديوان حافظ. وهكذا، انكب غوته على دراسة كافة المصادر المتاحة، وراح يؤلف ديواناً شعرياً، يستلهم قصائد حافظ. وعارضت مريانة قصائد غوته بقصائد مماثلة. ودخل هذا الحب ـ الذي ما كان مكتوباً له أن ينتهي نهاية سعيدة ـ التاريخ الأدبي بهيئة حاتم وزليخا.
ولم يدم الأمر طويلاً، حتى راح بعض الموسيقيين، يؤلفون الألحان لهذه القصائد. وكان فرانس شوبرت، على سبيل المثال، من أوائل الموسيقيين، الذين نجحوا نجاحاً كبيراً في تلحين هذه القصائد، التي يقول فيها غوته، تارة مخاطباً غدائر الحبيبة: "أيتها الغدائر، أنت تأسريني في دائرة المحيا!" (قصيدة »زليخا« رقم 21 في كتاب زليخا، الديوان الشرقي) ، وتارة ثانية مخاطباً الريح: "أيتها الريح الغربية كم أحسدك على أجنحتك الرطيبة: لأنك تستطيعين أن تحملي إليه نبأ ما أعانيه من آلام الفِراق!"، (قصيدة »زليخا« رقم 39 من نفس الكتاب)، ويتغزل بعيونها تارة أخرى قائلاً، في قصيدة »سر« رقم 14، في كتاب العشق): "على عيون الحبيب، دارت جميع القلوب".
ويمكننا، بلا عناء، التدليل على أن الملحنين ظلوا، حتى الزمن الراهن، مسحورين بالنفس الشرقي، الكامن في هذه القصائد. فعلى سبيل المثال، كتب الألحان الموسيقية لقصائد زليخا روبرت شومان وفيلكس مندلسون وشقيقته فاني هنزل، وكذلك مؤلفون موسيقيون ينتمون إلى القرن العشرين، نذكر منهم أنتون فيبرن ولويجي دالابيكولا. أضف إلى هذا أن العديد من قصائد »الديوان الشرقي ـ الغربي« قد جرى تلحينها من قبل موسيقيين كثيرين، نذكر من بينهم كل من هوغو فولف وريتشارد شتراوس وغوتفريد فون آينم.
ولم تكن هذه القصيدة أو تلك، من قصائد غوته، المستوحاة من قصائد حافظ، هي فقط المنهل العذب، الذي غرف منه العديد من ملحني ذالك الزمن. فالبعض من قصائد حافظ، أيضاً، تم تلحينها، على سبيل المثال، من قبل يوهانس برامز وأوتمار شوك وكارول جيمانوفسكي.
وانطوى تلحين برامز على أمر متميز، كانت له علاقة مباشرة، بالترجمة التي قام بها جورج فريدرش داومر، لقصيدة حافظ المتقيدة بالوزن والقافية. فهو لم يترجم هذه القصيدة الغزلية، إلى الألمانية، بأسلوب نثري، بل أصر على ترجمتها بأسلوب شعري، بأسلوب يلتزم بالوزن والقافية، رغبة منه الاقتداء بحافظ.
وكانت هذه القصيدة تقول:
يا مَلِكَتي، أَلا ما أروعَ البهجةَ،
التي يسبغها عطفُك ورفقُك!
فابتسمي، فنسائمُ الربيعِ تجري
في فؤادي، نشوةً وغبطةً!
والأمر الذي تجدر الإشارة إليه، هو أن برامز أراد التقيد بالقافية، إلى أبعد حد ممكن عند تلحين القصيدة، ولذا فإنه لحن فاصلاً موسيقياً، يفصل بين البيتين الثاني والثالث، وذلك ليسهل عليه الاحتفاظ بالوزن، الوارد في ترجمة داومر، أي أنه لحن فاصلاً موسيقياً يسمح له الفصل، موسيقياً، بين قافية البيت الثاني وقافية البيت الرابع.
والأمر المميز لديوان حافظ الشيرازي، هو أن ديوانه لا يزال، حتى اليوم الحاضر، يُستخدم للفأل وقراءة الطالع. وكان الملحن النمساوي أندرياس وايكيدال قد ألف عام 2002 قطعة موسيقية، اسمها »فأل حافظ« (Hafis-Orakel)، تُعزف على البيانو (أو الناي)، وتُغنى بصوت السوبرانو. وغني عن البيان، أنه ليس بالإمكان تلحين مجمل ديوان حافظ الشيرازي، لكي يقرأ المرء فيه الطالع. وتبقى هذه الحقيقة قائمة، حتى وإن اعترفنا، أن العادة لا تزال جارية، في إيران، في أن يقتني المرء، في الشارع، ظروفاً تشتمل على هذا البيت أو ذاك من قصائد حافظ. وهذه الظاهرة، هي التي أراد وايكيدال، الإشارة إليها موسيقياً، على ما يبدو. وكان قد لحن قصيدة حافظ، بحيث يأتلف اللحن مع كل بيت يتلو البيت السابق عليه. وما من شك في أن الأمر، سيستغرق زمناً طويل، إلى أن يتم تلحين كافة الصيغ، والبالغ عددها 5040 صيغة، في هذا المشروع الموسيقي.
وهكذا نلاحظ، أن الأغنية الألمانية تزخر، بالموضوعات المستقاة من الشعر الفارسي، لا بل نلاحظ ما هو أكثر من هذا، نلاحظ أن هذه الأغنية تستوحي صيغة القصيد الفارسي إلى حد بعيد جداً. على صعيد آخر، فإننا مدينون لكل من فون هامر وفريدرش روكرت ـ وهما شاعران كبيران ـ (نشرا ترجمات شعرية مهمة) وعالمان مرموقان، بالشكر على قيامهما، على وجه الخصوص، بترجمة أعمال أدبية، عربية وفارسية وتركية، جرى، من ثم، تلحينها. ويمكننا أن نشير هاهنا، على سبيل المثال وليس الحصر، إلى ترجمة روكرت لمقامات الحريري، فهذه الترجمة تولى تلحينها الموسيقار روبرت شومان على شكل أربعة مقطوعات موسيقية تحمل رقم 66 op. وعنوانا مفاده »صور من الشرق«.
إلا أن هذا كله، كان وضعاً استثنائياً فعلاً. فمن يمعن النظر في الحالات والظواهر الأخرى، يكتشف بيسر، أموراً مثيرة للاستغراب، وطرائف مثيرة للعجب.
ففي عام 1831، قام الموسيقار الفرنسي فيليسين دافيد برحلة إلى الشرق. والأمر المثير للاستغراب هاهنا، هو متاعه، فقد كان، في جملة هذا المتاع، جهاز بيانو، كان دافيد قد حمله معه وهو يجوب الصحراء. وفي وقت لاحق، كانت هذه الرحلة قد شحذت طاقاته وحفزته لتأليف قصيدته السيمفونية الموسومة »الصحراء« (Le désert)، علما بأن ما اشتملت عليه هذه السيمفونية من أغنية عنوانها »نشيد الصحراء« (Gesang der Wüste)، قد كان، في ذات الوقت »تمجيدا لله«.
وواصل دافيد، تأليف القطع الموسيقية، الشرقية الطابع، طيلة ما كان قد تبقى له من حياة، وتحول إلى أهم ممثلي الاتجاه المتعلق بالغرائب، في عالم الموسيقى. وعلاوة على هذا كله، كتب دافيد أوبرا اسمها مستقى من الاسم الفارسي »لاله رخ« (Lalla Roukh). وكانت هذه الأوبرا مستقاة من إحدى روايات الشاعر الايرلندي توماس مور، وهي رواية كان قد ذاع صيتها في ألمانيا أيضاً وقتذاك، وكانت قد ساهمت في تعزيز شغف، ألمانيا أيضاً، بالشرق. وكان روبرت شومان، واحداً من جملة أولئك، الذين طغى عليهم هذا الشغف. وهكذا، شجعته هذه الرواية على تأليف قطعة موسيقية دنيوية الطابع، وإن كانت تدخل في عداد الموشحات الدينية (Oratorium). وتخللت هذه القطعة الموسيقية، أناشيد غنتها جوقة من حور العين. وإذا كان القرآن قد أشار إلى أن الله يَنعُم على المسلمين الأتقياء بحور العين في الجنة، فإن روبرت شومان يترك جوقة حور العين، تُزين بالزهو السلالم الموصلة إلى الله.
والمؤذن، أيضاً، يغني
ومنذ زمن بعيد جداً، مارس المؤذن، ولا يزال يمارس، تأثيراً قوياً، في إلهام الموسيقيين الأوربيين. وبما أن الإسلام لا يَكتب العزوبيةَ على رجال الدين، وبالتالي، فإن رجل الدين المسلم مطالب بالزواج أصلاً، حاله في ذلك حال كافة المسلمين الآخرين، لذا لم يكن، أمراً نادراً، أن يعشق رجل الدين المسلم، ويكابد آلام الغرام. وكان كارول جيمانوفسكي أيضاً، قد تعرض لهذا الموضوع في أناشيده المسماة »أغاني المؤذن الولهان«. وبرغم أن الموضوع كان يحتم، أن يؤدي هذه الأغنية مغن من الرجال، وذلك لأن المؤذن يتحدث فيها عن شغفه بواحدة من النساء، إلا أن شومان ترك هذه الأغاني تُغنى من قبل مغنية.
وكما هو معروف، فإن من الملامح المميزة للأذان، هو أن المؤذنين في الجوامع المختلفة لا يؤذنون في وقت واحد أبداً، بل في أوقات مختلفة يتخللها تفاوت من بضعة ثوان. وغني عن البيان، أن هذا التفاوت الضئيل، يعطي الانطباع باندلاع فوضى عارمة، وصخب شديد، وذلك لأن الجميع يؤذنون بنحو تتزاحم فيه الأصوات. وتظل هذه الحقيقة قائمة، حتى وإن ظل المرء قادراً، على سماع المؤذنين، يؤذنون بأصوات مختلفة القوة، وذلك بحسب المسافة الفاصلة بين السامع والجوامع، التي ينطلق منها الأذان.
ففي أوبرا »حلاق بغداد« للموسيقار بيتر كورنيليوس، يوجد مشهد، مثير للعجب بنحو شديد، ومن وجوه مختلفة. ففي هذا المشهد، يقف ثلاثة مؤذنين على خشبة المسرح، وخلف الكواليس أيضاً، منادين ـ بنحو متفاوت زمنياً بعض الشيء ـ »الله أكبر«. والأمر المثير للاستغراب، هو أن الجمهور يسمع ثانية، من ثم، أصوات نسائية تكبر وتنادي بالأذان. وعلى ما نعتقد فإننا لسنا بحاجة، للتأكيد هاهنا، على أن الأصوات النسائية لا وجود لها أبداً في المناداة بالأذان.
وما من شك، في أن بعض الموسيقيين، قد خلطوا بين الأمور، وزعموا ما لا يُعقل، بأي حال من الأحوال. ففي حين استغرق المؤلفون، موسيقياً، بما فيه الكفاية، في الألحان ذات الطابع الشرقي، كانت هناك أيضاً نصوص تدعوا للاستغراب فعلاً. فعلى سبيل المثال، كتب الموسيقار السابق الذكر فيليسين دافيد، عملاً موسيقياً، عنوانه المؤذن العظيم »اللطف«، ويتميز بأن المؤذن يخاطب الجمهور من مئذنة الجامع قائلاً: السلام عليكم، ويرد على نفسه بنفسه قائلاً: وعليكم السلام.
نادية كيالي
ترجمة: عدنان عباس علي
حقوق النشر: فكر وفن/ معهد غوته 2011
نادية كيالي: هي ملحنة وكاتبة متخصصة في الموسيقى في فيينا. عرضت مدينة أوسنابروك الألمانيـة الأوبـرا التي ألفتـها بعنوان: Neda وهي أوبرا مستلهمة من الشاعر الفارسي نظامي وحركة الاحتجاجات في إيران أيضا.