مدينة الصدر والثورة في بغداد - نواة المقاومة العراقية
"الآن صارت وسخة"، مثلما علَّق أحد المتظاهرين في ساحة التحرير ببغداد على ما حدث يومي الجمعة والسبت 6 - 7 / 12 / 2019. هذان اليومان كانا الأكثر دموية منذ فترة طويلة، منذ اندلاع الاحتجاجات في العراق في الأوَّل من شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2019. حيث قُتل خلالهما في العاصمة وحدها خمسة وعشرون شخصًا، ويُقال إنَّ نحو خمسين شخصًا آخرين قُتلوا في جميع أنحاء العراق.
اقتحم في البداية آلافٌ من أتباع ومؤيِّدي ميليشيات "الحشد الشعبي" الشيعية مخيَّم الاحتجاج المركزي في ساحة التحرير ببغداد، حيث يحتشد المتظاهرون المعارضون للحكومة. لقد جاء الرجالُ من جميع الاتِّجاهات، ويبدو أنَّ ذلك كان عملًا مُنَسَّقًا. كان بعضُ رجال الميليشيات يحملون الأعلام العراقية أو شعار هذه المجموعة شبه العسكرية، بينما كان آخرون يرفعون صورة آية الله العظمى علي السيستاني، الذي يتمتَّع بمكانة كبيرة في العراق، وقد أُجبِرَ يوم الجمعة قبل ذلك حكومة عادل عبد المهدي على الاستقالة من خلال مناشدة وجهها إلى البرلمان.
في البداية كان الوضع هادئًا، ولكن في اليوم التالي تم إطلاق الرصاص الحيّ في شارع الرشيد الواقع على مرمى حجر من ساحة التحرير. تحدَّث الناس عن معركة حقيقية. يقول البعض إنَّ قوَّات الأمن هي التي أطلقت النار على المتظاهرين. ويقول آخرون إنَّ الميليشيات الشيعية تقاتلت فيما بينها من أجل فرض سيطرتها على الشارع.
"سنطردهم جميعهم!"
ترتبط ميليشيات الحشد الشعبي ارتباطًا وثيقًا بالحرس الثوري الإيراني، الذي لعب دورًا رئيسيًا في تمويلها وتدريبها، وقد تم تشكيلها بهدف محاربة ميليشيات داعش الإرهابية. تعارض الاحتجاجات بشكل متزايد الدولة المجاورة إيران وتَدَخُّلاتها في السياسة العراقية. ومعظم المتظاهرين في ساحة التحرير يأتون من مدينة الصدر، وهي منطقة شيعية في بغداد.
يجلس حسين بثقة في توك توكه ذي اللون الأحمر الناري، وهو عربة ريكاشة ذات ثلاث عجلات بمحرِّك، تُعرف في العراق باسم "تُكتُك". يقوده حسين "تكتكه" عبر "مدينة الصدر" ويقول: "سنطردهم، سنطردهم جميعهم!". يتناول حسين وجبة إفطاره كلّ يوم الساعة السابعة صباحًا في واحد من محلات الوجبات السريعة، التي لا تُعَدُّ ولا تحصى هنا. ويتكوَّن إفطاره من شوربة و"مَخْلَمة"، وهي طبق بيض مع الطماطم والبصل والجبن. يوجد بالإضافة إلى ذلك خبز عراقي (صمون)، وهو خبز لذيذ مُعَيَّنِيّ الشكل [رُبَاعيّ الأضلاع]، يتم تقديمه ساخنًا في هذه الساعة.
من الواضح أنَّ طعمه يعجب حسين، وهو شاب عمره سبعة عشرة عامًا ولطيف جدًا. يعمل أثناء النهار في نقل الناس داخل مدينة الصدر، ويتسوَّق للأشخاص الذين لا يستطيعون المشي، أو يقوم بخدمة التوصيل. وفي تمام الساعة التاسعة مساءً، يذهب إلى ساحة التحرير، إلى المتظاهرين. وغالبًا ما يبقى هناك خمس ساعات.
"التكتك" بطل الاحتجاجات العراقية
وأخيرًا، يوقف حسين "تكتكه" في واحد من الشوارع الرئيسية داخل مدينة الصدر ويشير إلى موقف للسيَّارات، توجد فيه صفوف من عربات التوك توك الصفراء والحمراء. أصبح "التكتك" بطل الاحتجاجات العراقية. و"تكتك" هو أيضًا اسم "صحيفة الثورة العراقية". تُظهِر الكثير من رسومات الجرافيتي والكتابة على الجدران عرباتِ الريكاشة الصغيرة المرنة ذات المحرِّك (التكاتك) أثناء عملها، ويتم تصويرها أيضًا كأجسام طائرة، تُحلِّق فوق كلّ شيء.
تستريح هنا في موقف السيَّارات بمدينة الصدر عرباتُ "التكتك" ويتم غسلها وإصلاحها، وبعدما تعود من العمل في ساحة التحرير، يتم تزويدها بالوقود لتعود إلى هناك. يخبرنا حسين أنَّه لا يُسمَح لهم بالتزوُّد بالوقود في محطات الوقود العادية، ولذلك فهم يضطرون لشراء صفائح البنزين في الشارع. وفي الواقع يمكن في كلِّ مكان داخل مدينة الصدر مشاهدة "محطات تكتك" مُتنقلة تبيع الوقود بزجاجات أو بصفائح صغيرة.
لا يوجد في الأحياء والمناطق الأخرى وقودٌ لهم، بل هنا فقط. يُدير حسين المحرِّك من جديد ويستمر عبر هذا الحي الفقير ذي الرائحة الكريهة في بغداد. عندما تأتي الأمطار، مثلما هي الحال في هذه الأيَّام، تختلط مياه الصرف الصحي ومياه الأمطار وغالبًا ما تبقى طيلة أيَّام على أرصفة الشوارع الهشة.
أكبر الأحياء الفقيرة في بغداد
تعتبر مدينة الصدر أكبر المناطق الفقيرة في العاصمة العراقية بغداد. معظم الذين يعيشون هنا في مدينة الصدر هم من العرب الشيعة، ومعظم أهالي هذه المنطقة البالغ عددهم ثلاثة ملايين نسمة فقراء. مَنْ تتحسَّن أوضاعه، ينتقل إلى أطراف مدينة الصدر أو شارع فلسطين أو أية منطقة أخرى. غير أنَّ الذين يرحلون من هنا ليسوا كثيرين. وفي المقابل الذين يأتون إلى هنا أعدادهم أكثر. فمدينة الصدر ممتلئة عن بكرة أبيها.
تم تأسيس هذه المنطقة في عام 1959 بعد إسقاط الحكم الملكي. فقد أمر رئيس الوزراء الجديد في ذلك الوقت، الجنرال عبد الكريم قاسم، بتوزيع أراضي هذه المنطقة كمنطقة سكنية على العراقيين الذين كانوا يتدفَّقون بأعداد كبيرة من المحافظات الجنوبية إلى العاصمة. وهكذا بدأت الهجرة من الأرياف إلى العاصمة. وأطلق عبد الكريم قاسم على هذه المنطقة الجديدة اسم "مدينة الثورة". وها هي اليوم قد بات اسمها مدينة الصدر.
ثورة نابعة من الشعب
معظم المتظاهرين في ساحة التحرير ببغداد يأتون من هنا. والمقاتلون في الشوارع، الذين يستولون على جسور دجلة بهدف شلّ حركة المدينة، هم أيضًا من هنا. يقول حسين بفخر "نحن نعمل ثورة". ولكنها هذه المرة نابعة من الشعب وليس من الجيش مثل عام 1958. ترتفع الأصوات المنادية بإعادة تسمية مدينة الصدر إلى "مدينة الثورة".
"يجب أن يذهبوا جميعهم"، مثلما يقول حسين مكرِّرًا بهدوء ولكن بحزم شديد: "جميعهم حرامية ولصوص والآن قتلة". ويضيف أنَّ استقالة رئيس الوزراء وحده لا تكفي. وإيران؟ ماذا عن هذه الجارة التي تثير غضب الكثير من المحتجِّين؟ هنا يحاول حسين التواري عن الأنظار، ينظر من حوله ويقول: "حكومتنا هي إيران، وأنا ضدّ الحكومة".
هذا يُبيِّن كلَّ شيء. الأشخاص الآخرون الذين حاورتُهم في مدينة الصدر لم يُعبِّروا عن آرائهم بهذا الشكل المختصر والموجز، الذي وضع من خلاله الشاب حسين النقاط على الحروف. ولكن المضمون هو نفسه لدى الجميع. لقد سئم أهالي مدينة الصدر من رجال الدين، الذين لا يغيِّرون أي شيء في وضع المدينة البائس، بل يحرصون على ملء جيوبهم.
تحويل مدينة صدام إلى مدينة الصدر
بعد الغزو الأمريكي والبريطاني في عام 2003، تم تغيير اسم هذه المنطقة التي صارت تسمى في ذلك الحين باسم مدينة صدام إلى مدينة الصدر - إحياءً لذكرى آية الله العظمى محمد صادق الصدر، والد الزعيم الشيعي الحالي مقتدى الصدر. استقر هنا في هذه المنطقة بشكل خاص الشيعة الذين كانوا عرضة للاضطهاد في عهد الطاغية صدام حسين.
أسَّس مقتدى الصدر ميليشيات جيش المهدي، الذي كان يضم أحيانًا حتى خمسين ألف رجل وقد ضمن لنفسه السلطة في هذه المنطقة. ليس هذا فحسب؛ فقد تلقى رجال ميليشياته تدريبات عسكرية وجعلوا بغداد تعيش في حالة من الرعب والخوف. وكانت فرق الموت تقوم بمطاردة وقتل الأشخاص الذين كانوا مرتبطين على نحو ما بنظام صدام.
لقد عانى العراق من هجرة عقول غير مسبوقة - من نزوح النخبة. وعندما كانت تُذكَر كلمة جيش المهدي أو مدينة الصدر، كان الناس ينصدمون. وبعد انسحاب الأمريكيين من العراق في عام 2011، تباهى مقتدى الصدر بتنفيذ جيشه ستة آلاف هجوم على القوَّات الأمريكية. لقد شكَّلت مدينة الصدر واحدةً من أكبر المخاطر الأمنية بالنسبة لقوَّات الاحتلال الأمريكية.
أنزلنا حسين أمام المركز الإعلامي لمقتدى الصدر. وهو مبنى فاخر مبني بالحجر الرملي الأصفر. يوجد فوق المدخل ملصقٌ بصور آية الله العظمى محمد صادق الصدر، الذي تم اغتياله عام 1999، وقد تم إطلاق اسمه على مدينة الصدر. والمبنى بحدِّ ذاته مهجور. لا يُشاهَد فيه أحد. تقف فقط سيَّارة شرطة عند حافّته اليمنى، ورجلان أحدهما يرتدي زيًا عسكريًا ويحتسيان الشاي.
لا يريد الرجلان ذكر اسميهما، ولكنهما يبدأن الحديث. لقد قُتِل أيضًا في معارك يومي الجمعة والسبت ثلاثةٌ من رجال الشرطة. يقول الرجل الذي يرتدي الزيّ العسكري: "نحن نقف إلى جانب حركة الاحتجاج". ويضيف الآخر: "نحن أيضًا غيَّرنا الاتّجاهات".
أسطورة "روبن هود" مدينة الصدر
يكشف لنا في النهاية هذا الرجل عن أنَّه جندي، مُنتسبٌ للجيش العراقي وقد أصيب مؤخرًا أثناء مهمة عسكرية في ساحة التحرير. قدمه ملفوفة بضمادة ويعرج منها. يقول رجل الشرطة هذا مبرِّرًا سبب تعاسة الأهالي في مدينة الصدر: "لقد تم خداعنا".
بعد سؤالهما لماذا انتخبا مقتدى الصدر وجماعته العام الماضي 2018، هزَّ الرجلان كتفيهما، وقال الجندي: "لقد صدَّقناهم". وفي هذه الأثناء ظهر رجلٌ ينتمي إلى المركز الإعلامي، ووَعَدْنا بتنظيم لقاء مع متحدِّث باسم مقتدى الصدر. ولكن رُفِضَ طلبه على الهاتف. حاول عدة مرات أخرى من دون جدوى. قالوا له إنَّهم لا يريدون الحديث إلى الصحافة. ليس الآن.
"العراق للعراقيين!"
يقول حيدر، وهو سائق توك توك ومن أصدقاء حسين: "ثلاثة أرباع جماعة مقتدى الصدر لصوص، مثل جميع الآخرين". ويضيف أنَّهم أخرجوا الملايين خارج العراق، وبعضهم يحملون جوازَيْ سفر اثنين. وأنَّ هناك ست وزارات يحتلها جماعة مقتدى الصدر. وأنَّ الدين بالنسبة لهم تجارة "يستخدمونه لتصغير حجمنا".
ومع ذلك فقد كان مقتدى الصدر، البالغ من العمر خمسة وأربعين عامًا، يُقدِّم نفسه في السابق على أنَّه نصير الفقراء، وقد أصبح بمثابة "روبن هود" مدينة الصدر ووضع نفسه على رأس حركة المظاهرات، التي خرجت في تلك الأيَّام للاحتجاج على قلة الكهرباء وسوء المياه. واقتحم أتباعه حينها المنطقة الخضراء، التي تخضع لحراسة مشدَّدة في بغداد، وجلسوا على مقاعد النوَّاب في البرلمان وطالبوا بالمشاركة في صنع القرار.
انتصر في انتخابات شهر أيَّار/مايو 2018 تحالف "سائرون"، الذي شكَّله مقتدى الصدر وكان يُمثِّل ما يشبه الحركة الشعبية. سادت أجواء التفاؤل، حتى في مدينة الصدر أيضًا. وكان أمل الناس كبيرًا في تحسُّن حياتهم عندما يُشكِّل نوَّابهم الحكومة. وفي هذا الصدد يقول حيدر أيضًا: "لكنهم غشُّونا وخدعونا". ولكن الآن يركب مقتدى الصدر سيَّارته الفيراري، ويرسل ابنه كسفير للعراق إلى أمريكا الجنوبية، ويسافر بالطيَّارة إلى سباق السيَّارات في مدينة قُم الإيرانية. ويُقال إنَّه موجود حاليًا في إيران أيضًا.
يقول حسين وحيدر بصوت واحد: "لن نتوقَّف حتى يذهبوا جميعهم. العراق للعراقيين!". لقد تعلموا في جيش المهدي التغلب على الخوف، مثلما يقول سائق توك توك آخر. وربما يستفيدون من ذلك الآن.
يُعلِّق الشابان حسين وحيدر بغمزة عين على القول إنَّ مقتدى الصدر قد غيَّر تسمية ميليشياته إلى "سرايا السلام"، وإنَّه كان يريد نزع سلاحها منذ النصر على ميليشيات "الدولة الإسلامية" الإرهابية قبل عامين. ويقولان: "إذا كان لأحد في الواقع أن يقوم بثورة في العراق فهم أهالي مدينة الصدر".
بيرغيت سفينسون
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019