الوطنية الدستورية: ما بعد القومية أم ما بعد الانتماء للدولة الحديثة؟
تظهر الوطنية الدستورية، من وجهة نظر أولية وغير مشروطة، كمفهوم يطبعه التناقض. إنّ الدساتير تحدّد مجالات الفعل السياسي، فهي تقوم على "تنصيص" الدولة، كما لاحظ ذلك مرة عالم الاجتماع الالماني المعروف نيكلاس لومان، وهي غالباً نتاج لصراعات دموية، أو على الأقل نتاج لمفاوضات طويلة، تفرض فيها مصالح معيّنة نفسها، وعبر ذلك أيضاً نوعاً من "السيرة الذاتية للسلطة".
أما الوطنية، فتظهر، وعلى النقيض من ذلك، كشيء مغاير البتة. فإذا كان الدستور يعمل على تنصيص الدولة، فإن الوطنية تلوّنها بطابع سحري، فالأمر لا يتعلق هنا بمصالح، ولكن بتضحية تقوم على الحب والحماس. وفي الوقت الذي يتوجّب فيه على الدستور حماية حقوق الأفراد، فإن الوطنية، وفي اللحظات الحرجة، تعمد إلى إعلاء مصلحة الجمعي، وخصوصاً تلك الوطنية الحالمة، على حقوق وحريات ومصالح الأفراد.
كان الفيلسوف ألزداير ماكنتاير قد أوضح مرة، بأن الوطنية تعتبر مصدراً مستمراً للمخاطر، أما المنظر السياسي جورج كاتب، فقد مضى خطوة أبعد، وزعم بأن احتقار الأخلاق طبعٌ متأصّل في الوطنية. ولكن، وعلى الرغم من أن الوطنية الدستورية تبدو كأوكسيمورون (تناقض في اللغة) ظاهرياً، فإن المفهوم امتلك ويمتلك لا غروَ جاذبية سياسية معينة، وبالخصوص جاذبية أخلاقية. إنه ليس من الصعب الإمساك بالفكرة الأساس التي تقوم عليها الوطنية الدستورية. فالولاء بالنسبة للوطنيين الدستوريين لا يكون تجاه الأمة، هذه الجماعة التي تعرف عن نفسها ثقافياً، وليس للإنسانية، ولكن للقيم الكونية و(بشكل غير مباشر) لقواعد الديمقراطية الليبرالية، التي تعبّر عن نفسها عادة في الدستور.
النقاش حول الوطنية الدستورية له بعدٌ عابرٌ للدول
وعبر ذلك تختلف الوطنية الدستورية عن التيارات الفكرية التي يعبر عنها مفهوم "القومية الليبرالية" في المجال الأنغلوسكسوني من جهة، ومن جهة ثانية عن الكوسموبوليتية، التي تربط الواجبات الأخلاقية أولياً "بجماعات البشر العالمية"، كما تزعم مارتا نوسباوم.
لكن الوطنية الدستورية تختلف أيضاً عن الفكر الجمهوري، هذه الوطنية المستلهمة من الحقبة الرومانية، والتي عاشت خلال عصر النهضة حقبة ذهبية، وكانت تُعلي من القيم العسكرية والاستعداد للتضحية.
كان المنظر السياسي دولف ستيرنبرغر أول من استعمل، كما هو معروف، مفهوم الوطنية الدستورية نهاية عقد السبعينيات، قبل أن يتبنّاه يورغن هابرماس لاحقاً. وبالنسبة لنقاد هذا المفهوم، فإن الأمر لا يعدو كونه تركيباً عقلانياً، ووسيلة مفهومية لأمة مقسمة، تمتلك ماضياً كارثياً. وهي وسيلة أضحت بلا جدوى بعد توحد ألمانيا، وتجاوز القومية الاشتراكية.
ولكن العكس حدث. فبالضبط، بعد العام 1990، سيتمتع المفهوم بشعبية كبيرة، في ظل مجتمعات سياسية تزداد تعدداً، مثلما هو الحال في إسبانيا، بأقاليمها المطالبة بالحكم الذاتي أو كندا بمذهبها الرسمي عن التعدّد الثقافي، والذي يهدف إلى الجواب على مطالب الأغلبية الأنغلوسكسونية والأقلية الفرنسية والجماعات الإثنية المهاجرة والسكان الأصليين.
لقد نصح رتشارد رورتي المعارَضة الإيرانية في مقابلة قبل رحيله، بتطوير الوطنية الدستورية كبديل علماني للهوية الدينية المتكلسة والمعادية للغرب، والتي يريد الثيوقراطيون اختزال الثقافة الإيرانية فيها.
إن من يأخذ السياسة بجدية، حسب رورتي، يحتاج إلى مفهوم عن الوطنية، وذلك لأجل التعبير عن أفكار التضامن مع المواطنين وتصوّرات المستقبل بالنسبة لبلد ما. وخصوصاً في وضعيات لا يمكن فيها اشتراط شعور سياسي جماعي، ثم طرح مفهوم الوطنية الدستورية، كما فعل مفتي سراييفو، منافحاً عن وطنية دستورية عابرة للإثنيات المختلفة داخل البوسنة، كالإمكانية الوحيدة، من أجل توحيد بلد محكوم بصدمة الحرب الأهلية وأشكال العداء والنعرات الإثنية.
احتد النقاش في الدول الأوروبية حول اندماج المهاجرين وأقليات أخرى في العشرية الأخيرة بشكل دراماتيكي. وليس فقط ألمانيا من تعرف نقاشاً حول الاندماج الداخلي، يطبعه حِجاج حاد واستقطاب متزايد. ففي كل مكان ترتفع أصوات تنتقد ما تسميه بوهم "التعدّد الثقافي"، مطالبة المهاجرين وأبناءهم الارتباط بـ "نظام قيمي" معين أو تطالبهم بالتماهي مع "بلدهم المضيف"، أو حتى التماهي بـ "ثقافة الأغلبية".
وكمثال على ذلك، يقف هنا أنصار الثقافة الرائدة Leitkultur. لقد عمد مراراً رئيس البرلمان الألماني نوربرت لامرت إلى المطالبة بفتح نقاش حول "الثقافة الرائدة" الخاصة بالألمان، ودائماً، يجري التأكيد على أن ولاء المهاجرين الذين يطلبون الجنسية الألمانية لوطنية دستورية محضة ليس كافياً، في حين ترى مثلاً لالي أكغين، وهي سياسية في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، من أصل تركي، بأن الانتماء إلى الوطنية الدستورية، يتوجب أن يتجاوز الاختلافات بين الأغلبية والأقلية في ألمانيا الاتحادية.
ترتفع أصوات تنتقد ما تسمّيه بـ"وهم التعدّد الثقافي"
وعلاوة على ذلك فإن النقاش الدائر حول الوطنية الدستورية يمتلك أيضاً بُعداً عابراً للدول، وخصوصاً في النقاشات الدائرة حول مستقبل الاتحاد الأوروبي في عقد التسعينيات وبداية القرن الحالي، إذ تبدو الوطنية الدستورية كمفهوم يعد بالكثير، من أجل تقديم حلول على مشكلة معيارية وعملية: كيف يمكن تحقيق نوع من الولاء والشعور بالانتماء لـ "موضوع سياسي غير معروف (كما وصف يوماً رئيس المفوضية الأوروبية الأسبق جاك دولور الاتحاد الأوروبي)، إذا لم تكن هناك ثقافة أوروبية يشترك فيها الجميع، وإذا لم يطلب الاتحاد الأوروبي أن يتحوّل إلى "قومية أوروبية" أو دولة كبرى؟ لكن من المعروف أن فكرة الدستور الأوروبي قد نُحيت الآن جانباً، وهو ما قد يظهر من الوهلة الأولى أنه قد حرم الوطنيين الدستوريين من سندهم في الواقع السياسي.
لكن الأسئلة العميقة حول الشرعية، الولاء والوحدة السياسية داخل الاتحاد ما تزال مطروحة. فما زال سارياً واقع أن الاتحاد بصيروراته المزدوجة المتمثلة بتعميق عمله وتوسيع بنيته قد خلق وضعية، لا يمكن فيها الاستمرار على المستوى المعياري في اتخاذ قرارات أوروبية عبر تحقيق إجماع بين دول وطنية كاملة السيادة، وما زال هناك تباعد، حتى نستعمل عبارة لمايكل فالزر بين الجماعات القانونية والجماعات الأخلاقية.
وما زال السؤال مطروحاً حول ما إذا كانت البنيات فوق الوطنية قابلة لربطها بأي من أشكال الانتماء التقليدية. نحن جميعاً نغني النشيد الأوروبي، نعرف ونحترم حقوق وواجبات البلدان الأعضاء acquis communautaire إلخ، أو ما إذا كانت "المابعد قومية" في السياسة، تعني في النهاية أيضاً "ما بعد الشعور العاطفي بالانتماء" post-emotional.
وباختصار: هناك حيث يصبح الانتماء إشكالياً، أو يتوجّب التفاوض على أشكال جديدة للانتماء، وخصوصاً في سياق الاتحاد الأوروبي، فإن الوطنية الدستورية كعرض مفهومي واقعي (وأحياناً أيضاً كجزء من نظرية للديمقراطية مابعد وطنية شاملة) منافس يتمتع بمصداقية لكل تلك التصوّرات التقليدية عن الانتماء القومي وأشكال الولاء العاطفية.
ولكن في كل مكان، وفي مثل هذه الحالات يتم التعبير بسرعة عن شكلين من الشك متناقضين في الواقع، أو عن حجج صريحة، ضد الوطنية الدستورية. بل منذ نهاية السبعينيات تعرّض الوطنيون الدستوريون للانتقاد باعتبار أن مفهومهم مغرق في التجريد وفي الكونية، وعبر ذلك، "مفرغ من الدم" Blutleer، فالأمر يتعلق في رأي خصوم الوطنية الدستورية بوطنية لأساتذة الجامعات لا علاقة لها بالعالم.
فإرنست فولفغانغ بوكنفيلدر وصف الوطنية الدستورية يوما كفكرة شاحبة تنتمي إلى الدرس الجامعي أكثر منها إلى الواقع، ويواخيم فست في إحدى آخر المقابلات معه، تحدّث في تهجم أقل، ولكن مفصحاً عن رفضه، معتبراً أنها فكرة من أفكار أساتذة الجامعات "تم التفكير فيها فوق طاولة المكتب، قبل أن يتناقش فيها الأساتذة ويرسلوها إلى الخارج"، ليردف متابعاً: "إنها فكرة جيدة، لكنها غير قابلة للتطبيق، لأن الناس لا يشعرون بمثل هذه الطريقة".
انتقِد الوطنيون الدستوريون باعتبار أن مفهومهم مغرق في التجريد وفي الكونية
ومن وجهة نظر فلسفية، جرت العادة على الزعم بأن المبادئ الكونية في قلب الوطنية الدستورية لا يمكنها أن تشرح لماذا يتوجّب على المواطنين أن يعبّروا عن ولائهم إزاء ديمقراطية محددة، لأنه من وجهة نظر الوطنية الدستورية، توجد هناك العديد من مواضيع الولاء كما توجد هناك العديد من الديمقراطيات الليبرالية.
وبلغة أخرى: وبغض النظر عن النقد الذي يرى أن الوطنية الدستورية يعوزها الارتباط العاطفي، فإن قيم الدستور لا تفرض انتماء إلى بلد محدد. فالوطني الدستوري وبغض النظر عن جنسيته يمكنه أن يعلن انتماءه إلى الولايات المتحدة، ألمانيا أو أستراليا كما يفعل مع وطنه الأصلي، ولهذا لا يمكن استخلاص من فكرة الوطنية الدستورية معيار للحجم الذي يمكن أن تتخذه مؤسسة فوق وطنية مثل الاتحاد الأوروبي.
لكن، وعلى نحو متناقض فإن نقاداً آخرين يعتبرون الوطنية الدستورية مغرقة في "الخصوصية". إن المتشككين داخل وخارج ألمانيا ينظرون إليها كشيء يبعث على الفضول التاريخي، يبدو مقنعاً فقط بالنظر إلى السياق الذي ظهر فيه، ويمثل إحساساً بالحياة فلسفياً، مرتبطاً بألمانيا الغربية.
وكثيراً ما تتم الإشارة أيضا إلى أن بعض الديمقراطيات لا تمتلك دستوراً مكتوباً موحداً (بريطانيا) ولا يمكنها للسبب ذاته أن تطوّر وطنية دستورية. وبالنظر إلى الولايات المتحدة الأميركية وسويسرا فإن ذلك يعني، بأن مثل هذه الدول المتعددة داخلياً، والتي تبدو من النظرة الأولى أن ما يوحدها هو قيم سياسية مشتركة، هي في الواقع دول قومية كلاسيكية، انتشرت جاذبية قيمها المشتركة أولاً بفضل أساطيرها ورموزها القومية.
وهكذا فإن النقاش حول هذا المفهوم الذي يتهم بأنه مفرغ من الدم، يحكمه الإستقطاب. فما زلنا نفتقد مناقشة مستفيضة لهذا المفهوم حتى يومنا هذا، وما يدعو للأسف أن النقاشات الألمانية الحالية حول الهوية سرعان ما تنزلق إلى العاطفي، تماما كما كان الحال عليه في النقاش حول "الهوية الوطنية" في عقد الثمانينات، والذي أصبح اليوم نسيا منسيا.
إن هذا الخطاب الذي يحكمه الطابع النفسي، والذي يتمحور دائما وبشكل أولي حول كيفية أن نحقق أنفسنا كأمة (لكن ذلك قد يعني أيضا كيف يمكن أن نفقد أنفسنا كأمة) ، قليل الفائدة، إذا ما كان السؤال الحقيقي هو عن المبادئ السياسية وفي إطار أي شكل من أشكال المواطنة الواقعية يمكننا أن نتحد في أمة؟ وبدلا من ذلك يتم الاحتفاء في خطب عاطفية حول الأمة بما كانت عليه ألمانيا من قبل.
ترجمة عن الألمانية: رشيد بوطيب