الأعمال الانتحارية لا تعود جذورها إلى الإسلام
يدل تاريخ الأعمال الانتحارية على أن هذا السلاح لم يستخدم في البداية من قبل المجموعات الإرهابية الدينية. بل على عكس من ذلك فقد استخدمت خلايا إرهابية ذات نزعة علمانية ماركسية لأول مرة هذا النمط من الاعتداءات.
قام فدائيون فلسطينيون في السبعينيات بأعمال انتحارية داخل الأراضي الإسرائيلية، أي قبل فترة طويلة من قيام منظمة حزب الله الشيعية اللبنانية بمثل هذه الأعمال. قامت بذلك يومها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهي منظمة فدائية كانت تقوم بنشاطاتها من الأراضي اللبنانية، وقامت بأول عملية لها من هذا النوع في عام 1972.
الجيش الأحمر الياباني يقوم بهجمات في الشرق الأوسط
من خلال اتصالها بكوريا الشمالية تعاونت الجبهة الشعبية مع منظمة إرهابية تسمى "الجيش الأحمر الياباني" التي كانت تتعاون أيضا مع تلك الدولة. وقد أفرز التعاون بين هاتين المنظمتين الماركسيتين المعاديتين للإمبريالية أول عملية انتحارية ارتجالية، حيث تسبب ثلاثة أعضاء من تلك المنظمة اليابانية بوقوع حمام دم في مطار اللد الإسرائيلي في 30 مايو 1972.
لم يحاول المهاجمون الفرار بعد قيامهم بالعملية فقد خططوا لها منذ البداية، بحيث تكون نتيجتها الموت الحتمي. قُتل أحد أفراد المنظمة بعد أن أطلق عليه جنود إسرائيليين النار وفجر الثاني نفسه بقنبلة يدوية وأُلقي القبض على الثالث قبل أن ينجح في محاولة قتل نفسه.
لم يكن الدافع الوحيد لتلك العملية تجربة الأعمال الانتحارية المسماة "كاميكازي" التي استخدمها جنود يابانيون أثناء الحرب العالمية الثانية، فقد تلقى الإرهابيون الثلاثة بالإضافة إلى ذلك تدريبا خاصا في معسكر في لبنان لتهيئتهم لمهمة الموت هذه. وتدل المؤشرات على أن خبراء عسكريين كوريين قد شاركوا في عملية التدريب.
عمل انتحاري خطط له في اليابان ونقل عبر كوريا الشمالية
يبدو إذن أن كوريا الشمالية قد لعبت دورا رئيسيا في عملية نقل طريقة العملية الانتحارية من الشرق الأقصى إلى الشرق الأوسط. في أثناء الحرب العالمية الثانية أجبر اليابانيون كوريين حاربوا تحت الراية اليابانية على القيام بعمليات انتحارية.
وقد نقل من بقي منهم على قيد الحياة هذه التجربة إلى غيرهم. ففي كوريا الشمالية التي ما زال الشيوعيون يحكمونها ما زال النظام يتبنى حتى يومنا هذا مفهوم البطولة الوطنية التي يتمركز محورها حول الأعمال الانتحارية القادرة على حماية الأمة في كل وقت انطلاقا من روح ما يسمى "القنابل البشرية".
كان لمذبحة اللد التي تحول فيها العمل الانتحاري الموجه أساسا ضد الأهداف العسكرية عمدا إلى هجوم على المدنيين أثر جانبي غير متوقع بالنسبة للمنظمات الإرهابية الفلسطينية، وهو اتهام اليابان لها بأنها تستغل أفرادا يابانيين لصالح قضايا عربية.
ورغم الفرحة التي غمرت العالم العربي بسبب نجاح تلك العملية الإرهابية اتهم الرئيس الليبي معمر قذافي الفلسطينيين بالعجز عن القيام بأنفسهم بمثل هذه العمليات الانتحارية.
بعد عامين من ذلك وبدافع الخليط بين الإحساس بالذل والتكتيك الإرهابي قامت عدة منظمات فلسطينية فدائية بتدبير عمليات0 انتحارية ما جعل مصرع المشاركين بها جزءا حتميا من برنامج الكفاح.
كانت أول هذه المنظمات منظمة "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة" التي ترأسها أحمد جبريل والتي انشقت قبل ذلك ببضعة سنين عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأصبحت منافسة لها.
علاقات سوريا بكوريا الشمالية
أرسلت منظمة "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة" بدعم من سوريا التي كانت وما تزال تتبادل علاقات وثيقة مع كوريا الشمالية، في 11 أبريل 1974أول ثلاثة فدائيين في مهمة انتحارية.
توغل الفدائيون المكلفون بتفجير أنفسهم في حالة فشل احتجاز الرهائن في مدينة كرية شمونا الواقعة في شمال إسرائيل وأحدثوا فيها من خلال استخدامهم المتفجرات مذبحة دموية.
بناء على المعلومات الإسرائيلية لم يتسبب الهجوم في أي وقت من الأوقات في احتجاز الرهائن. أطلق الفدائيون النيران على المارة بلا هدف معين وتوغلوا في مجمع سكاني حيث قتلوا هناك أيضا عددا من الأشخاص ثم تراجعوا إلى الطابق الأعلى من المجمع. وعندما اقتحم الجنود الإسرائيليون المبنى وقعت تفجيرات أودت بحياة الإرهابيين الثلاثة.
ما زالت منظمة "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة" تتمسك بشدة بروايتها القائلة بأن الفدائيين فجروا أنفسهم، أما الإسرائيليون فيدعون بأن قذائفهم هي التي أحدثت الانفجارات.
"إخراج" إعلامي لموت الاستشهاد
بغض النظر عمن يقول هنا الحقيقة، فمن المهم لفهم تطور تجربة الأعمال الانتحارية عدم الاكتفاء بمراعاة نموذج التفجير الذاتي بل أيضا ولأول مرة أسلوب "الإخراج" الإعلامي لتوديع القائمين بتلك العمليات.
بالنسبة لهذه الصيغة التوديعية يقتدي الفلسطينيون هنا على نحو أكيد مطلق بأسلوب ترتيب وإخراج توديع طياري عمليات كاميكازي اليابانيين، علما بأنهم طوروا هذه الأشكال على نحو كبير.
تم في أحد الأفلام توثيق الأيام الأخيرة للفدائيين كما سجلت وصاياهم في جهاز التسجيل، وتم عرضها بعد تنفيذ العملية مباشرة في مؤتمر صحفي أشرفت عليه المنظمة المعنية مع إظهار صور منفذي العملية.
نجمت عن عملية كرية شمونا عمليات انتحارية عديدة أخرى قامت بها منظمات فلسطينية فدائية متنافسة واتسمت هذه العمليات بزيادة تصاعدية في معدلات العنف والحدة.
كان الهدف السياسي المعلن لهذه العمليات إظهار صلادة الموقف وانعدام التخاذل حيال الخصم الإسرائيلي. وتزامنت مثل هذه العمليات مع رفض مدبريها تماما لأي تقارب قد يحدث مع إسرائيل، علما بأن منتصف السبعينيات شهد مثل محاولات التقارب هذه، لا سيما من قبل ياسر عرفات.
وفي الحقيقة فقد تسببت العمليات الانتحارية في جعل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني يصبح أكثر راديكالية، حيث أفرز هذا النوع الفريد من الوحشية ضربات إسرائيلية ازدادت حدة على الدوام. وقد نجح خصوم عرفات أخيرا في دفع منظمة فتح التي يترأسها عرفات إلى القيام بعمليات انتحارية كذلك.
توظيف موت الاستشهاد للأغراض السياسية
قام الفدائيون بأعمال انتحارية في السبعينيات من أرضية علمانية، لكن مدبري تلك الأعمال احتفلوا بهم بعد ذلك كشهداء بالمفهوم الديني الإسلامي. بمعنى أن المنظمات العلمانية استغلت بمهارة التقاليد الدينية لموت الاستشهاد بالمفهوم الإسلامي دون أن تظهر أفعالها بأنها نابعة من روح دينية محضة.
ومع أن وصايا المنتحرين لم تتضمن الإشارة صراحة إلى ثواب أعمالهم الانتحارية في الجنة بالمضمون الديني التقليدي، إلا أن الرسائل التي خلّفوها عبرت عن يقينهم بوجود حياة في الآخرة بعد الموت.
بعد أن قام حزب الله في بداية الثمانينيات بعمليات انتحارية في لبنان مقتدين بالعمليات المماثلة للفلسطينيين قبل ذلك بعقد واحد، وبعد لجوئهم إلى تطوير هذا النمط من العمليات باستخدام العربات المفخخة بدأ الترابط يتضح بين الأعمال الانتحارية والدين.
الدين الإسلامي يحرم الانتحار
التجديد الرئيسي الذي ابتدعه حزب الله في هذا الصدد تم باستخدام مصطلح "عملية استشهادية" بدلا من عبارة "عملية انتحارية".
ولكن حزب الله لم يفلح في اجتهاد تفسير ديني للإرهاب الانتحاري يتخطى قاعدة تحريم الانتحار في الإسلام، هذا على الرغم من أنه نجح بمهارة ودون إعطاء تبرير ديني واضح في توظيف تقليد تمجيد الاستشهاد عند الشيعة لأغراضه الخاصة، أي توظيف تقاليد تمجيد الاستشهاد، وهو ما سعت منظمة حماس الفلسطينية إلى تكريسه في منتصف التسعينيات.
بقلم جوزيف كراوترو
ترجمة عارف حجاج
Qantara.de 2004 (حقوق الطبع والنشر محفوظة)