توظيف أيديولوجي وافتقار إلى الحكمة....فكرة "التطبيع" في التباساتها وأغراضها
بخفّة وتسرّع كبيرين اتّهم المحسوبون على ما يسمى معسكر "المقاومة والممانعة" الروائي اللبناني المعروف أمين معلوف بالتطبيع مع إسرائيل لمجرد ظهوره على قناة إسرائيلية خاصّة، تحدث فيها عن أدبه ورواياته. هكذا فبدلا من إعتبار الأمر اختراقاً من الثقافة العربية للثقافة الإسرائيلية، وأن أديبا عربياً معروفاً فرض ذاته على الإسرائيليين، جرى أخذ الأمر وكأنه بالعكس، أي اختراقاً للثقافة العربية من قبل إسرائيل، علما أن القناة الإسرائيلية لا يراها الا الجمهور الإسرائيلي.
كان ادوارد سعيد قد حضّ باستمرار على محاورة المثقفين الإسرائيليين، الذين ينبذون الصهيونية ويتعاطفون مع قضية الفلسطينيين، وبرأيه فإنه ينبغي "دعوتهم الى النقاش في الجامعات ومراكز الثقافة والمنابر العامة في العالم العربي. واجبنا كمثقفين مواجهة الأوساط الثقافية والأكاديمية الاسرائيلية، عن طريق القاء المحاضرات في المراكز الاسرائيلية، في شكل علني وشجاع وواضح الالتزام..حان الوقت لتخليص أنفسنا من التحامل العنصري ودفن الرأس في الرمل والبدء من الآن بالعمل لتغيير وضعنا". ("الحياة"، 26/5/1998).
ومن الواضح هنا أن ادوارد سعيد في مقالته هذه لا يدعو لتطبيع العلاقات مع دولة إسرائيل، وإنما إلى تعزيز معرفتنا عن إسرائيل، والتأثير في وعي المواطنيين الإسرائيليين.
على أية حال، لعل هذه مناسبة لتفكيك مفهوم التطبيع، ومناقشة التباساته وأغراضه، بعد أن غدا وسيلة للتلاعب والمواربة والحجب والتغطية، التي تنتهجها الأنظمة الاستبدادية، والتي تتغطى بالمقاومة والممانعة لتأبيد سلطتها، وتهميش مجتمعاتها.
في ماهية التطبيع واشكالياته
بداية فإن "التطبيع" يعني كسر الإجماع المتمثّل برفض وجود إسرائيل، وكل تمثلاتها الرسمية، السياسية والأمنية والاقتصادية والقانونية والثقافية، وبالتالي التعامل معها، ومع مؤسساتها. لذلك فإن رفض التطبيع، أو مناهضته، يفيد بالعكس، أي برفض التعامل مع إسرائيل، الاستعمارية والعنصرية، باعتبارها غير شرعية، ولكونها قامت باغتصاب أرض فلسطين، وتسبّبت بتشريد شعبها، وحرمانه من وطنه وحقوقه، وباعتبار ذلك جزء من استراتيجية وطنية تستهدف تقويض مبررات المشروع الصهيوني ونزع الشرعية السياسية والقانونية والأخلاقية عن وجود إسرائيل.
بيد أن طرح الأمر على هذا النحو يضعنا أمام إشكالية أخرى تتعلق بالتمييز بين الدولة الإسرائيلية والمجتمع الإسرائيلي، أو الإسرائيليين كأفراد، علماُ أن ثمة وجهة نظر ترى بأنه لا يوجد فرق، وأن كل الإسرائيليين صهاينة، ومغتصبون، وجزء من الآلة العسكرية الإسرائيلية. وبديهي فإن وجهة نظر كهذه ترى في أي تعامل على الصعيد الفردي، مع إسرائيليين، ومهما كان الشخص، أو الهدف، عملاً من أعمال التطبيع، ينبغي تحريمه ومناهضته.
على ضوء كل ذلك فإن التصدّي لسؤال التطبيع يستلزم التمييز، وليس الخلط، بين ضرورة ومشروعية التعاطي مع الإسرائيليين (اليهود) كأفراد أو كجماعات، في محاولة التأثير عليهم، لتعزيز فهمهم للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وبين مناهضة التعامل، أو التطبيع، مع إسرائيل كدولة وكمؤسسات، وضمنه قبول روايتها للمكان والزمان الفلسطينيين.
فبينما يفيد التعامل الأول بتطوير مواقف القوى اليهودية المعادية لإسرائيل الاستعمارية والعنصرية والدينية، وإيجاد مشتركات مستقبلية معها (وإلا فلا معنى للحديث عن خيار الدولة الواحدة الديمقراطية)، فإن الموقف الثاني يفيد بضرورة الاستمرار في عزل إسرائيل وتفنيد أطروحاتها وفضح ادعاءاتها الأيدلوجية، ومقاومة سياساتها العنصرية والاستعمارية، ما يصبّ في الاستراتيجية الرامية لتقويض الصهيونية ونزع الشرعية عن كيانها.
وقد يبدو ضروريا هنا، مع كل ما ذكرناه، التمييز، وعدم الخلط، بين حملة "المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" ضد إسرائيل، وصولاً إلى نزع شرعيتها، من جهة، وما يسمى مقاومة التطبيع من الجهة الأخرى. فالحملة التي تلقى نجاحاً مضطرداً في أوروبا والولايات المتحدة وكندا، على صعيد المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية لإسرائيل، تأتي في إطار المقاومة الشعبية والسلمية، وتتأسّس على تحكيم معايير حقوق الإنسان والقانون الدولي.
وبحسب عمر البرغوثي، وهو أحد مؤسسي حركة "مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها" (BDS)، فإن الحملة التي تقوم بها حركته تستهدف «قطع العلاقات...مع إسرائيل، كونها دولة احتلال وأبارتهايد..كما قاطع العالم جنوب أفريقيا خلال حقبة نظام الأبارتهايد. »، والعمل على «إنهاء احتلال كل الأراضي العربية التي احتلت في 1967، بما في ذلك إزالة المستعمرات والجدار، وإنهاء نظام التمييز العنصري القائم في أراضي 1948 ضد الجزء من شعبنا الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية، وعودة اللاجئين إلى ديارهم الأصلية التي شرّدوا منها». وأن الحملة" تدعو إلى مقاطعة شاملة لدولة اسرائيل ولمؤسساتها المتواطئة في نظامها الاستعماري والاحتلالي والعنصري. وهي تشمل مقاطعة وسحب الاستثمارات من الشركات العالمية المتورطة في الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية ضد شعبنا..المقصود بالمقاطعة هو الدولة الإسرائيلية وكل مؤسساتها الأكاديمية والثقافية وكل الفعاليات والمهرجانات والمؤتمرات التي تنظم من قبلها أو بالتعاون معها». ("الرأي" الكويتية، 6/11/2013. (
ولعل أكثر ما ينبغي التنبيه إليه في هذا الموضوع هو أن التطبيع مع إسرائيل ومؤسساتها، إنما هو من الناحية العملية أمر سيادي، بمعنى أنه من اختصاص الدول، دولة مقابل دولة، وليس في مقدور أفراد، أي أن الأنظمة هي التي تتحكم بالتطبيع، أو بعدمه، لأنها هي التي تتحكم بالمجال العام المجتمعي والسياسي.
جانب أخر ينبغي الانتباه إليه، وهو أن فكرة التطبيع في المنطق الداخلي لأصحابها، تنطوي على تناقض بيّن، بين اعتبارهم إسرائيل دولة عنصرية، ودولة "غيتو"، تميل إلى الانغلاق، وعدم الاعتراف بالآخر، والاستعلاء والهيمنة، في هذه المنطقة، وبين الاعتقاد بأنها تسعى إلى التطبيع (بما فيه التطبيع المجتمعي ـ أفراد لأفراد)، لأن ذلك يفيد باستعدادها للانفتاح، وقبول الآخر، والتحول إلى دولة عادية. إذ أن النظرية الأولى تفترض عدم قابلية إسرائيل للتطبيع، وتخوّفها منه، لأنه قد يفقدها خاصّيتها باعتبارها ذاتها دولة يهودية، وباعتبارها هنا الأقلية، لا الفلسطينيين، أو العرب الذين لديهم لغة وثقافة وتقاليد وحضارة ضاربة في التاريخ.
التطبيع إسرائيلياً
ليس القصد من ما ذكرناه الايحاء بأن إسرائيل ضد التطبيع تماماً، وإنما القصد منه التنبيه إلى ضرورة تدقيق مفاهيمنا وتعزيز معرفتنا بطبيعة هذه "المعركة" وحدودها وأدواتها، ذلك أن إسرائيل تتوق للتطبيع لكن وفق مفاهيمها وأولوياتها وحاجاتها، أي ليس وفقاً للمفهوم المبسط والشائع عربياً، سواء لدى المناهضين له أو الموافقين عليه. والمعنى أن إسرائيل تتوق للتطبيع الذي يتأسس على:
اولاً، اعتراف الدول العربية بها، وإقامة علاقات طبيعية معها، ما يتضمن تبادل سفراء وإقامة علاقات سياسية واقتصادية وأمنية، مع تعاون في اقامة منظومة مشتركة من البنى التحتية المتعلقة بالاتصالات والمواصلات والطاقة والمياه، فضلا عن فتح الحدود لاتاحة التنقل بحيث يكون للإسرائيليين مجال بري يخرجهم من عقدة الانحصار في المجالين الجوي والبحري.
ثانياً، الاعتراف بالرواية الإسرائيلية لتاريخ هذه المنطقة، وضمنه السردية اليهودية عن "أرض الميعاد"، وحق اليهود في اقامة دولة لهم، وهذا هو مغزى المطالبة بتغيير المناهج التعليمية في البلدان العربية، وطلب إسرائيل الاعتراف بها كدولة يهودية حصراً.
ثالثاً، القبول بتجاوز العناصر الاساسية للقضية الفلسطينية، لا سيما منها قضية اللاجئين الفلسطينيين، والانتهاء من "حق العودة".
من كل ذلك يمكن الاستنتاج بأن إسرائيل تريد التطبيع على أن يكون ذلك بينها كدولة وبين الأنظمة العربية، أي أنها ليست متحمسة لانفتاح المجتمع الإسرائيلي على المجتمعات العربية، لأن ذلك يتناقض مع رؤيتها لذاتها كدولة يهودية، وانغلاقها على نفسها إزاء "الأغيار"، من الفلسطينيين والجوار العربي، كما يتناقض مع اشتغالها على إعلاء شأن الهوية اليهودية عند مواطنيها، وتعزيز مركزية الصراع ضد العرب، الأعداء، في وعيهم.
ماجد كيالي
حقوق النشر: قنطرة 2016
ماجد كيالي كاتب وباحث سوري معروف يكتب لعدد من الصحف العربية وله دراسات متنوعة حول الفكر السياسي المعاصر في العالم العربي.