مسلمو البوسنة...حجر أساس في الحوار الأوروبي الإسلامي
"يا حبيبي يالله، قف بجانب وكن مع قيصرنا رفيع المقام، فرانتس يوزِف الأول! اللَّهُمَّ قوّي جيشه! وحقق مبتغاه واحمِ مملكته وأنعم عليها بالازدهار!". هذا بعض ما جاء في دعاء للمفتي الأكبر في البوسنة، جمال الدين تشاوشيفيتش- مفتي البوسنة والهرسك بين الأعوام 1914 و1930. وكانت مناسبة هذا الدعاء هو مرور أكثر من مئة سنة على ميلاد الإمبرطور النمساوي-المجري، فرانتس يوزِف.
منذ عام 1882 انتزعت الإمبراطورية النمساوية-المجرية من السلطنة العثمانية حق إدارة الحياة الدينية لمسلمي البوسنة. ومنذ ذلك التاريخ أصبح تعيين المفتي الأكبر ومجلس علماء الدين الإسلامي مباشرة في يد الإمبراطور النمساوي-المجري. وبذلك نشأت إدارة وتنظيم هرمي للدين الإسلامي فريد من نوعه على مستوى العالم.
تلتزم "الجمعية الإسلامية في البوسنة والهرسك" وفروعها اليوم مبدأ العلمانية وتتمتع باستقلال.
"يجلب استقلال الجمعية الإسلامية الكثير من المنافع فيما يخص المعالجة المستقلة للقضايا الدينية، غير أنه هذه الاستقلالية تحتم الكثير من المسؤولية"، كما يؤكد المؤرخ البوسني وخبير الشؤون الإسلامية، أمير دارنوفيتش. ويذهب أمير إلى القول إنه وبشكل يختلف عن البوسنة والهرسك، فإنه في معظم الدول الإسلامية تنظم مؤسسات حكومية الشؤون الدينية.
غالباً ما يصف الرأي العام الألماني الإسلام البوسني والبوسنين بـ"الاعتدال". ويعود هذا الوصف إلى عدة أسباب من بينها: يعيش المسلمون البوسنيون منذ قرون في محيط مسيحي. ويتشارك المسلمون مع جيرانهم الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك اللغة والثقافة. كما أن الدين كان له دوراً ثانوياً في الحياة العامة في يوغوسلافيا الاشتراكية السابقة، وهذا الأمر شمل المسلمين أيضاً. غير أن البوسنين شعروا أنهم مستمرون في الارتباط بموروثهم الإسلامي.
الطابع الأوروبي للإسلام في البوسنة والهرسك
في سياق القرن العشرين جرت عملية العلمنة في البوسنة والهرسك. تعتبر هذه العملية أن الإسلام لا يزال أهم أركان الهوية الثقافية والوطنية، ولكن العلمنة نفسها قللت دوره في الحياة السياسية والاجتماعية. ففي عام 1985 اعتبر فقط 15 بالمئة من المسلمين في يوغوسلافيا السابقة أنفسهم متدينين.
غير أن حرب البوسنة(1992-1995) جاءت وغيرت معها كل شيء. إذ تعرض المسلمون وعلى مدار ثلاث سنوات إلى تطهير عرقي ممنهج، وتهجير، وقتل جماعي، وإبادة جماعية، ليكون أول شعب يتعرض لمثل هذا على التراب الأوروبي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
يحتوي "مركز البحث والتوثيق" في سراييفو على أكثر البيانات موثوقية عن ضحايا حرب البوسنة. وبحسب معلومات المركز فإن نسبة المسلمين البوسنين بين الضحايا المدنيين تزيد عن 80 بالمائة.
نتج عن حرب البوسنة والهرسك زيادة أهمية الدين عند مسلمي البوسنة والهرسك في إنشاء دولتهم. وكحال الصرب الأرثوذوكس والكروات الكاثوليك يلتزم أكثر من 90 بالمئة من المسلمين البوسنين بالدين الإسلامي، غير أنه، وفي الجوهر، حافظ الإسلام البوسني على طابعه الأوروبي.
الانحراف إلى طريق التطرف
يبدو للزائر من العالم العربي أمراً غريباً مشاهدة أن عدداً قليلاً من النسوة المسلمات يرتدين الحجاب. وليس هناك فصلاً حاداً بين الرجال والنساء، ولا حتى في المساجد. وبشكل طبيعي يمد الرجال والنساء أيديهم لمصافحة بعضهم البعض.
ولكن في مقابل ما سبق، تتزايد التقارير الإعلامية التي تتحدث عن حضور تنظيم "الدولة الإسلامية" في البوسنة والهرسك. في واقع الأمر فقد تزايد، منذ سنوات التسعينيات ومشاركة ما يطلق عليهم اسم المجاهدين في حرب البوسنة، التأثير القادم من العالم العرب وتركيا. فقد ساهمت السعودية ودول الخليج في بناء الكثير من المساجد والمؤسسات التعليمية وتدفق الطلاب والسياح من العالم العربي وتركيا إلى البوسنة والهرسك. وأصبحت مراكز التسوق الضخمة، التي بناها كبار المستثمرين العرب، المعالم الجديدة لمدن البوسنة والهرسك.
البوسنة والهرسك هي من أكثر الدول الأوروبية تصديراً لمقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية"-إذا قارنا عدد المقاتلين بعدد السكان. وينحدر معظم من يدعون أنفسهم بالمقاتلين في سبيل الله من قرى سلفية معزولة وتخضع الآن للمراقبة الشديدة.
في العشرين سنة الأخيرة واجه الإسلام البوسني التقليدي منافسة من السلفية. وبدأ المجتمع الإسلامي التعامل مع هذا التحدي فقط في الأونة الأخيرة- لقد تأخر في ذلك، حسب اعتقاد البعض.
المحافظة على الاستقلال الثقافي
من الواضح أن أغلبية الشعب البوسني المسلم يرفض الإيدولوجية السلفية. وعلى الرغم من التدين المضطرد ومعاناتهم من الاضطرابات النفسية لما بعد الحرب، فإن البوسنيين مستمرون في الإصرار على نمط حياة أوروبي. ويتجلى ذلك في المستوى المرتفع لاندماجهم في ألمانيا أو في النمسا، على سبيل المثال، اللتين لا تزالان تُعَدّان إلى جانب الولايات المتحدة الامريكية والسويد، الوجهة التقليدية للمهاجرين البوسنيين.
هل يتزايد التأثير العربي في البوسنة والهرسك أكثر مما هو عليه اليوم؟ هذا يتوقف على الأوروبيين؛ فطالما يدير الأوروبيون الظهر للبوسنيين، سيتعين على البوسنة والهرسك البحث عن الممولين من العالم العربي وتركيا أو روسيا.
من الجلي للعيان أنه وفي واحدة من أفقر الدول الأوروبية يترافق التأثير السياسي أو الديني مع المال. لقد حافظ المسلمون البوسنيون على استقلالهم الثقافي على مدار قرون. وبعملهم هذا طوروا الغريزة الضرورية للتعايش مع الأديان الأخرى: لقد حان الوقت أن يعترف الاتحاد الأوروبي بذلك ويرحب بالبوسنيين وتجربتهم كحجر أساس مهم في الحوار الإسلامي-الأوروبي.
نيداد ميمتش
الترجمة عن الألمانية: خالد سلامة
حقوق النشر: دويتشه فيله/ موقع قنطرة 2016
ينحدر الكاتب نيداد ميمتش من العاصمة البوسنية، سراييفو، ويعيش ويعمل كصحفي في العاصمة النمساوية، فيينا. يحمل ميمش شهادة الدكتوراة في اللغة الألمانية.