السودان بعيون الغرب...من دولة مارقة إلى شريك
بعد أكثر من عشرين عامًا قرَّر الغرب إخراج السودان من زاوية الدول المارقة وتحويله إلى شريك. وعلى أبعد تقدير مع توقيع اتِّفاقية التعاون بين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) وجهاز الأمن والمخابرات السوداني في شهر أيلول/سبتمبر 2016، تحوَّلت الرياح لصالح الحكومة السودانية.
لقد شارك السودان بالفعل في حرب اليمن تحت قيادة المملكة العربية السعودية بسبب حاجته الماسة للعملات الأجنبية. وبعد أن أعلن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أيضًا في الأيَّام الأخيرة من فترة ولايته رفع العقوبات - المفروضة منذ عشرين عامًا على السودان - في غضون ستة أشهر اعتبارًا من الثاني عشر من تموز/يوليو 2017، بات بإمكان حكومة الرئيس البشير أن تتنفس الصعداء.
إنَّ الوعود برفع العقوبات وكذلك إمكانية التطبيع، الذي يمكن أن يرافقه استئناف التعاون الإنمائي واستثمارات ومساعدات مالية، تمثِّل فرصة بإمكان الغرب أن يستغلها حاليًا.
السودان...عامل استقرار في منطقة غنية بالاضطرابات
وحاليًا تنظر الولايات المتَّحدة الأمريكية وأوروبا إلى السودان كشريك استراتيجي في منطقة مزقتها الصراعات وتمتد بين ليبيا والبحر الأحمر والقرن الأفريقي. وعلى سبيل المثال لقد قامت أجهزة الاستخبارات السودانية بإبلاغ الولايات المتَّحدة الأمريكية عن نشاطات الجماعات الجهادية الممتدة من الصومال إلى نيجيريا.
وبالنسبة للأوروبيين يحظى موقع السودان الاستراتيجي باعتباره منطقة عبور للاجئين والمهاجرين القادمين من القرن الأفريقي بأهمية كبيرة، خاصةً بالنظر إلى الأعداد الكبيرة من الإريتريين، الذين يصلون عبر ما يُعرف باسم طريق وسط البحر الأبيض المتوسط من خلال ليبيا إلى إيطاليا.
يكمن الهدف المشترك من عملية مراقبة الحدود في إعاقة انسحاب متمرِّدي دارفور، الذين يخدمون كمرتزقة في ليبيا، وكذلك في قطع طرق الجهاديين المحتملة بين منطقة الساحل والقرن الأفريقي، بالإضافة إلى السيطرة في نهاية المطاف على تدفُّقات الهجرة بين القرن الأفريقي والبحر الأبيض المتوسط. ومقابل تعاونه مع الأوروبيين يتوقَّع السودان الحصول على دعم مالي من الاتِّحاد الأوروبي.
من المفارقات العجيبة أنَّ السودان يعتبر - على الرغم من الصراعات الداخلية - عامل استقرار في منطقة غنية بالاضطرابات والأزمات الكبرى والصراعات على السلطة والخلافات. وعلى هذا النحو يعتبر السودان بمثابة عازل مهم بين مستخدمَيْ مياه النيل المتعاديَيْن: مصر وإثيوبيا، وهو كذلك الوسيط الإقليمي الوحيد المحتمل بين العدوين اللدودين إريتريا وإثيوبيا.
إنَّ إمكانية التصعيد العسكري في كلا الصراعين بالذات تعزِّز التوتُّرات الأوروبية، لا سيما وأنَّ اندلاع المزيد من أعمال العنف يمكن أن يؤدِّي إلى زيادة في عدد اللاجئين. ففي آخر المطاف يحظى تأثير الخرطوم على النزاع في جنوب السودان بأهمية كبيرة بالنسبة للغرب.
السودان شريك غير مثالي إطلاقا تحت هذه الظروف
ما من شكِّ في الأهمية الإقليمية والدولية التي يمثلها السودان. لكن مع ذلك فإنَّ الشركاء والمراقبين الغربيين لا يزالون يختلفون في آرائهم حول ما إذا كان يمكن وينبغي التعاون مع الحكومة السودانية وضمن أية موضوعات. وذلك لأنَّ السودان لا يزال بعيدًا كلَّ البعد عن أن يكون شريكًا مثاليًا:
فالرئيس السوداني مطلوب بموجب مذكرة اعتقال صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكابه جرائم حرب، والحكومة السودانية لا تزال تخوض حربًا في كلّ من دارفور وجبال النوبة، يضاف إلى ذلك أنَّ السودان يأتي في آخر قائمة التصنيف العالمي لحقوق الإنسان والحرِّيات السياسية.
ولكن مع ذلك أظهرت الحكومة السودانية في الأعوام الأخيرة - وخاصة منذ الإعلان عن رفع العقوبات - بوضوح استعدادها لاتِّخاذ خطوات صغيرة نحو الانفتاح السياسي والسلام. وعلى سبيل المثال فقد أدَّت دعوة الرئيس السوداني في عام 2014 من أجل "الحوار الوطني" إلى قيام قوى المعارضة السياسية والمسلحة بتنظيم نفسها، بحيث بات يمكن على الأقل إجراء محادثات أولية مع الحكومة بهدف إنهاء الصراعات.
إنَّ إحراز المزيد من التقدُّم يمكن أن يعود إلى حقيقة أنَّ رفع العقوبات مرتبط بفترة ستة أشهر. فقد أدَّى ذلك إلى تحسين وصول المساعدات الإنسانية، الذي كان صعبًا للغاية حتى ذلك الحين، ورفع العقبات والقيود البيروقراطية المفروضة على السفر، وتوقُّف العمليات والهجمات العسكرية إلى حدّ بعيد. ومع ذلك لم يتم حتى الآن تحقيق أية تغييرات عميقة.
إذ إنَّ "الحوار الوطني"، الذي كان من المفترض أصلاً أن يؤدِّي إلى إصلاح سياسي بعيد المدى، لم يكن أكثر من مجرَّد مشاورات تجريها الحكومة مع جزء صغير من الطيف السياسي. وكذلك لقد تعثَّرت مفاوضات السلام مع المتمرِّدين من المناطق المتنازع عليها في دارفور وعلى الحدود مع جنوب السودان. وفضلاً عن ذلك لا يزال الكثيرون يجلسون من دون أية تهمة أو محاكمة في سجون السودان، ولا تزال تفرض الرقابة على الصحف ووسائل الإعلام، كما يتم تفكيك التجمُّعات السياسية.
والآن من الأهمية بمكان ألاَّ تصبح الرؤية وتحقيق النجاحات السريعة الموضوع الرئيسي للتعامل الغربي مع السودان. في الوقت الراهن يبدو وكأنَّ الولايات المتَّحدة الأمريكية والاتِّحاد الأوروبي يتخليان عن معايير السياسة الخارجية الموجهَّة نحو القيم، ويرضيان باتِّخاذ خطوات صغيرة باتجاه الانفتاح السياسي، طالما يتم تحقيق تقدُّم واضح على المدى القصير في تراجع أرقام الهجرة إلى أوروبا وفي مكافحة الإرهاب.
وفي هذا الصدد يخادع المرء نفسه ويأمل في أنَّ السلطوية تعني أيضًا الاستقرار، وأنَّ المكاسب تُبرِّر الخطر السياسي المتمثِّل في التعاون مع نظام قمعي. من الممكن أن تكون لهذا النهج عواقب وخيمة، وذلك لأنَّه لا يعالج الصراعات الاجتماعية أو بالأحرى أسباب النزاع وبهذا أيضًا أسباب اللجوء والتطرُّف.
وفي الوقت نفسه إنَّ اتِّباع الغرب سياسة ملتزمة تسعى إلى تحقيق مصالحه بطريقة شاملة ومستدامة، يمكن أن يجعل تطبيع العلاقات - الذي طال انتظاره من قبل السودان - مرهونًا بمطالب محدَّدة.
وفي الوقت الراهن بالذات من الضروري أن يعمل هذا النهج السياسي بشكل أقوى على بذل جهود جادة وملتزمة من أجل السلام وربطها بتنظيم التحوُّل الديمقراطي. وكذلك يجب أن يضمن هذا النهج السياسي عدم اقتصار التسهيلات الاقتصادية على إرضاء شبكات النخبة وحدها على المدى القصير، بل أن تؤدِّي هذه التسهيلات إلى استقرار المجتمع السوداني برمَّته.
أنيته فيبَر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017
الدكتورة أنيته فيبَر زميلة وباحثة أكاديمية في مؤسَّسة العلوم والسياسة في برلين. تركِّز أبحاثها على النزاعات الإقليمية والخلافات داخل الدولة في منطقة القرن الأفريقي، وعلى مسائل النظام السياسي وكذلك التغيير الاجتماعي وبناء مؤسَّسات الدولة في الدول الهشة.