"ابحث عن الأصل"...التفكير في إشكاليات العنصرية عن العرب
نستمع في بداية السيرة الهلالية إلى الراوي يقول:
"أهل العز ولّى زمانهم، ومن بعدهم حكمت أولاد الأرذال، يا لهف قلبي على ملوك قد مضوا، حكم بعدهم في الناس خدام عاطل".
يفهم المستمع إلى راوي السيرة، أن هناك "أهل عز"، وهناك "أولاد أرذال". أجده يتأمل المعنى ويؤكد عليه وهو يهمهم بحروف مدغمة. وعندما يعود إلى منزله يفتح الراديو فينساب منه صوت المطرب الشعبي "محمد طه" يغني مواله "على الأصل دوّر":
"الحب بالدم، لا بيضا ولا سمرة".
يهز الرجل رأسه مؤيدا: نعم الحب بالدم. بأصل الفتاة ونسبها. ثم يعلو صوت محمد طه:
"لا ترضي بالعار ولو بالنار ضربوها".
بالتأكيد، تحفظ الفتاة ذات الأصل الطيب شرف زوجها، على عكس الفتاة ذات الأصل الخسيس.
يذهب الرجل في اليوم التالي إلى المسجد ليستمع إلى الشيخ وهو يذكر الأصل الطيب لقبيلة قريش مرددا الحديث الشريف:
"ودخل النبي محمد بيتا فقال ،هل في البيت إلا قرشي؟ فقالوا: لا، إلا ابن أخت لنا. فقال: ابن أخت القوم منهم، إن هذا الأمر في قريش ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا قسموا أقسطوا، ومن لم يفعل ذلك منهم؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".
الانتماء يحدد طبيعة وجوهر هذا الإنسان
هذا الرجل مثله مثلي، مثل الأغلبية المطلقة من العرب، نستمع كل يوم لترسانة من الحكم، والأمثال الشعبية والمواعظ. نقرأ مقالات تؤكد أن الإنسان بأصله، بانتمائه لجماعة، عائلة، قبيلة. وهذا الانتماء يحدد طبيعة وجوهر هذا الإنسان. يأتي هذا الخطاب أساسا من تيارات الإسلام السياسي، ومن التيارات الدينية، والتيارات الرجعية، التي تنتج كما هائلا من الركام الرقمي الذي يثبت أركان نظرية جوهرية أصل الإنسان وليس منجزه الشخصي.
يمكننا أن نبدأ بقصة نوح وأبنائه الأربع حسب التوراة والتي تحدد اننا كلنا أبناء هذا الرجل ولكن الفرق بيننا هو أبناء من نحن من ضمن ذريته. فمن سام جاء الأشوريون والآراميون والعبريون والعرب. ومن حام جاءت الشعوب الإفريقية والمصريون والأمازيغ. ومن يافث جاءت شعوب أوربا وفارس. ولم ينجب كنعان.
ويقال إن بعض اليهود يعتقدون استنادًا إلى التوراة أن حام قد شاهد والده عاريا ذات يوم، فحكى لأخويه ما رأى، وعندما عرف نوح بهذا الخبر، غضب، وطلب من الرب ألا يبارك سلالته التي سكنت إفريقيا. فجميعنا إذن محكومون بأصلنا الأول. ولأنني مصري فأنا ابن من أبناء حام، الذي رأى ما لم يكن من المفروض أن يراه، ولذلك فأنا ملعون.
كانت السيرة الأولى التي أطلعت عليها هي سيرة عنترة بن شداد. كتاب من أربعة أجزاء قديمة مهترئة تتكئ بصعوبة على الجدار داخل مكتبة جدي. بدأت في قراءتها مبكرا، السيرة قائمة هي الأخرى على فكرة الأصل. فابن شداد ذو الأصل الطيب، باعتباره من أبناء سام، ينجب من أمة سوداء، ملعونة، لأنها من أبناء من رأى، عنترة، الذي يرث لون بشرة والدته. والسيرة مشوار عنترة في اثبات أصله الطيب من أبيه غير الأسود حتى ينال شرف الارتباط بابنة عمه التي لم تلوثها دماء حامية.
الطريف أن الأمر لا يخص فقط البشر، فالخيل العربية أيضا بعضها أصيل وبعضها وضيع. يقال إن العرب ونتيجة للحروب والكر والفر والأسر، كانوا يفشلون أحيانا في التفرقة بين الخيل الأصيلة والوضيعة، ولأنهم لابد أن يفصلوا بين هذا وذاك، فقد كانوا يجمعون الخيل ويبرحونها ضربا، ثم يقدمون لها الكلأ بعد جلدها مباشرة.
فأما الخيل التي تقبل على الأكل فهي الوضيعة، والخيل التي تمتنع فهي الأصيلة. تلك التي يعلوها الملوك والأمراء. والأمر كذلك ينطبق على الكلاب، فابنتي قد تبنت كلبا تم العثور عليه في أحد شوارع القاهرة ينام تحت سيارة، وهي الكلاب التي تطلق عليها "كلاب بلدي". وكان رد فعل بعض من أعرفهم: كيف تتبنى ابنتك كلبا من الشارع لا أصل له؟
طالع أيضاً: تونس تقول لا للعنصرية المحلية والعالمية
"حان الوقت لإنهاء العنصرية العربية"
العنصرية بكل أشكالها جريمة بحق الإنسانية
"لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى"
ولكن ما الأصل؟ هل هو الانتماء لعائلة حاكمة؟ فهذا ابن عمدة القرية وبالتالي رجل ابن أصول. أو عائلة ثرية؟ ظل هذا هو الحال. ولكن جاء الإسلام وأعلن: "لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى". فعصبية العرق والنسب وفقا لهذه الجملة ليست ذات أهمية ولكن المسألة بالتدين.
ظلت قضية الإنسان ليست لها علاقة بما ينجزه في نشاطه الإنساني والمهني ولكن بدينه ومدى تعلقه به. فنجد الرئيس المصري السابق محمد مرسي وهو يتحدث عن الصهاينة، الذين قاموا باحتلال استيطاني لأرض فلسطين فيطلق عليهم: "أحفاد القردة والخنازير". وذلك لأن الحيوانات كذلك مراتب. فالخنزير عند العرب أقل مرتبة من الحصان مثلا. والرئيس السابق محمد مرسي هنا يجمع بين الاختلاف في الدين، وبين الأصل غير الطيب. فهم يهود من ناحية، وهي ديانة مغايرة للديانة الإسلامية الحقة، وأحفاد خنازير من ناحية أخرى. وهو أمر شبيه بأحفاد سام أو حام أو ابن شداد أو غيرها من أصول.
وكذلك نجد في أدبيات تيارات الإسلام السياسي اتهام خصومهم السياسيين بأنهم من أصول يهودية. وهو أمر كاف، بالنسبة للمنتمين لهذا التيار، لوصم هذه الشخصيات بالخيانة الوطنية أو باتباع سياسات معادية للديانة الإسلامية. فعلى مدار سنوات طويلة استمعت عشرات المرات لأحاديث تؤكد أن والدة وزير الزراعة السابق "يوسف والي" يهودية الجنسية، ثم ينحو الحوار من بعد هذا إلى التأكيد على الخراب الذي أحدثه يوسف والي في السياسات الزراعية نتيجة لانتماء والدته الديني.
وفي مذكرات الفريق الطيار عبد المنعم عبد الرؤوف، وهو من الضباط الأحرار والمنتمي للإخوان المسلمين، يكتب إنه التقى بمحمد نجيب في عام 1979 وتبادلا حوارا جاء فيه إن "عبد الناصر أصله يهودي من الشرق الذين جاءوا من اليمن".
وفي موضع آخر يذكر أن عبد الناصر انضم إلى الحركة الديمقراطية التحرر الوطني، وهو تنظيم شيوعي، ولم ينس أن يذكر أن أحد مؤسسيها هو هنري كورييل اليهودي. ومن هنا وصم عبد الناصر بكل ما هو منحط من وجهة نظره.
كما قيل أيضا أن حافظ الأسد أصوله يهودية، وكذلك معمر القذافي، وغيرهم الكثير. تكتمل دورة التراث الشعبي بالتراث الديني لإعلاء شأن القرابة والنسب، ثم من شأن التدين وإلى أي دين ننتمي. فالأصل هو من يحدد، وللأبد، جوهر أخلاقيات وأفعال كل إنسان.
هذا الأمر ينطبق أيضا على مفهوم العلاقة مع المسجونين. ففي لقاء بيني وبين أحد ضباط الشرطة أكد لي خلاله أن المسجون مجرم بالدم. بمعنى أنه لا توجد أسباب أخرى للإجرام سوى الطبيعة البشرية المنحطة لهؤلاء. ولذلك فلا أمل لعلاجهم لأنهم مولودين وعروقهم تجري فيها الدماء النجسة. وأتذكر في حوار مع أحد أبناء الإقطاعيين أنه أكد لي أن الفلاحين المصريين يتميزون بالمكر والدهاء ككل عبيد الأرض، وهم مرتبة من البشر أقل من مرتبة الملاك، وبالتأكيد لم ينس أن يقول إن مشكلة عبد الناصر أنه من أصول وضيعة، وقد جاء نتيجة للخطأ الفادح التي ارتكبته الحكومة المصرية بالسماح لمن هم دون المستوى الاجتماعي اللائق للالتحاق بالجيش المصري.
ويأتي محمد حسنين هيكل في كتابه "خريف الغضب" ليؤكد أن أنور السادات ليس اسمه السادات، وإنما الساداتي. وتلعب هذه الياء دورا هاما في التفرقة بين "السيد" في السادات، و"التابع لهذا السيد" في الساداتي. لتدخل اللغة عالم التفرقة بين البشر عبر حرف واحد. فبإضافة هذه الياء إلى اسم رئيس الجمهورية المصري الأسبق تحيله إلى أصل وضيع.
كما يضيف هيكل في هذا الكتاب إن والدته كانت سودانية أتت من جدود من العبيد. بالتأكيد لا يهم مدى صحة هذا الأمر. ولكن ما يهم هو الحديث عن الأصل الطيب أو المنحط للرجل. يمكن الرد أن هيكل كان يقصد أثر هذا الإرث على تكوين شخصيته ومن ثم أفعاله. والأمر في النهاية يعيدنا لنفس الإشكالية. ولكن في الواقع كانت الإشارات واضحة في التهجم على شخصية الرجل بالتهجم على أصله.
كان يكفي بالتأكيد انتقاد ما فعله وأنجزه من السادات سياسات. وكان يكفي انتقاد سياسات جمال عبد الناصر بدلا من الرجوع إلى أصوله الدينية أو العائلية؟ أو أن يكتفي محمد مرسي بالحديث عن الاحتلال الاستيطاني لفلسطين دون التطرق لأجداد هؤلاء المحتلين؟ وعلى الرغم من بديهية حقيقة أن كل إنسان يمارس ما يمارسه من فعل ونشاط وحركة نتيجة لعوامل متعددة ومركبة من ظروف حياتية واجتماعية وميول وقدرات ذهنية ونفسية، وتوليفة من مفارقات عجيبة، وأوضاع سياسية واقتصادية عامة. إلا أن البحث الجاد لإجابة عن السؤال: "لماذا كل هذا الحديث في خطابنا العربي عن الأصل" يبدو معقدا، فلا يمكن التطرق لمداخل في التفكير دون تحليل التراث الشعبي والديني لمنطقتنا.
كل ذلك يحيل إلى جوهر العنصرية البغيضة التي تفرق بين البشر.
نحن في أشد الحاجة إلى القيام بجهد لبناء قنطرة جديدة تسمح لنا بانتقاد هذا التراث الشعبي الديني من جذوره حتى نتمكن من بناء جيل ينظر للإنسان من منظور منجزه وليس أصله.
حقوق النشر: قنطرة 2023
خالد الخميسي روائي مصري، وكاتب، ومحاضر، وناشط ثقافي. تمحورت أعماله الروائية: "تاكسي"، و"سفينة نوح"، و"الشمندر" حول المجتمع المصري وتشريحه في نصف القرن الماضي. ترجمت أعماله الروائية إلى العديد من اللغات. نشر في عام 2014 كتابه الأول خارج فن الرواية: "2011 نقطة ومن أول السطر". تعرض مقالات الخميسي في مصر والخارج مزيجًا من خلفيته كمحلل سياسي وكاتب روائي.